صافيناز محمد أحمد

خبيرة متخصصة فى الشئون السياسية العربية ورئيس تحرير دورية بدائل - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

تجرى فى العاشر من أكتوبر 2021، الانتخابات التشريعية الخامسة فى مسيرة العمل السياسى العراقى، لاختيار 329 عضواً برلمانياً. وتختلف تلك الانتخابات "المبكرة" عن الجولات الانتخابية السابقة من حيث طبيعة القانون المنظم لها، والتحديات الداخلية التى تجرى فيها العملية الانتخابية فى ظل التغيرات التى اعترت الشارع العراقى. إذ شهد ولايزال حراكاً جماهيرياً ضاغطاً على القوى السياسية المتصدرة للمشهد السياسى؛ نتيجة لانتشار الفساد والبطالة وتردى الظروف المعيشية وتدهور البنية التحتية. وقد جاءت حكومة تسيير الأعمال الحالية كنتيجة للحراك الجماهيرى الضخم خلال شهر أكتوبر 2019، وكان من أهم أهداف هذا الحراك العمل على إعادة تشكيل مجلس المفوضية العليا للانتخابات من قضاة مستقلين بعيداً عن المحسوبين على التكتلات والقوى الحزبية الكبرى، وصياغة قانون انتخابى جديد "لا" يقتصر هدف واضعيه على منح الأحزاب الكبرى والتقليدية أفضلية فى الحصول على النسبة الأكبر من أصوات المقترعين.

قانون الانتخاب الجديد.. ماذا تغير؟

تدورالعملية الانتخابية فى أجواء متباينة تجتاح الشارع العراقى تجاه جدوى هذه الانتخابات إذا لم تأت بجديد يغير من الوضع الداخلى المأزوم سياسياً واقتصادياً، وفى سياق هذا التصور هناك رأيان يتنازعان الشارع العراقى؛ الأول يرى ضروة المشاركة فى الانتخابات على أمل أن تسفر نتائجها عن تغيير جدى وحقيقى فى المشهد السياسى. والثاني يرى أنه لا جدوى من المشاركة لأنها قد تأتى بالوجوه والأحزاب التقليدية نفسها لتتصدر المشهد السياسى وفقاً للمحاصصة الطائفية والسياسية، وفى هذه الحالة ستمنح المشاركة فى الانتخابات - من قبل الجماهير المحتجة – نظام المحاصصة الطائفية والحزبية شرعية جديدة مرفوضة من قبل تلك الجماهير.

فى خضم هذا التباين، تم إقرار قانون بتعديل تشكيل مجلس المفوضية العليا للانتخابات فى 15 ديسمبر 2019، كما أقر البرلمان قانون الانتخابات الجديد رقم 9 لعام 2020، الذى اعتمد نظام الدوائر الانتخابية المتعددة، والترشح الفردى وليس من خلال القوائم النسبية؛ وبهذا تم تقسيم العراق إلى 83 دائرة انتخابية مُقسّمة وفقاً للتعداد السكانى فى كل محافظة، أى أن القانون قسّم المحافظة الواحدة إلى عدة دوائر انتخابية حيث استبدل نظام "القوائم المتعددة" بـنظام "الدوائر المتعددة"؛ ما يعنى زيادة فى تمثيل الأقضية والمناطق داخل المحافظة، بما يعزز من حظوظ المرشحين المستقلين والكتل السياسية الصغيرة نسبياً. ويعتبر الفائز فى الانتخابات - وفقاً لهذا التعديل- هو الحاصل على أعلى عدد من أصوات المقترعين فى الدائرة، حيث لم يحدد القانون نسبة المقترعين. بهذا النظام الانتخابى الجديد، تم إلغاء نظام "سانت ليجو" فى توزيع أصوات الناخبين والمعمول به منذ عام 2006. وضمنياً يظل التعديل الذى أجرى على قانون الانتخابات خادماً فعلياً للسياسيين الكبار، بالرغم من أن هدف تعديله - وفقاً للاحتجاجات الشعبية - هو القفز على احتكار الأحزاب التقليدية وساستها للتمثيل البرلمانى.

وتفسير ذلك أنه من الصعب تصور حصول مرشح غير معروف بفاعلية فى محافظته على غالبية أصوات المقترعين بها وهو ما سيؤدى بالضرورة إلى تفتيت الأصوات، بما يترتب عليه من صعوبات جمة عند تكوين التحالفات البرلمانية لتشكيل الحكومة. كما أن المرشح حديث العهد بالعمل السياسى الآتى من خلفية الاحتجاجات لا تتوافر لديه الخبرة السياسية التى تتوافر لمن لديه تاريخ تراكمى فى العمل السياسى الحزبى، وهو ما يعنى تقلص فرص الأول لصالح الثانى لدى جمهور المقترعين. هذا بخلاف ما قامت به الأحزاب السياسية التقليدية من "إعادة تدوير" برامج الدعاية لمرشحيها لتتناسب مع ظروف العملية الانتخابية الآتية من رحم الاحتجاجات الجماهيرية؛ حيث قامت بتطعيم صفوفها بعدد من المرشحين المستقلين الجدد تماهياً مع الأجواء الرافضة للسياسيين التابعين للأحزاب التقليدية، لكن فى الواقع هذه الشخصيات مرتبطة فكرياً ومنهجياً بالأحزاب السياسية التقليدية، وليست مستقلة بالمعنى المعروف. وهذا سيؤدى فى النهاية إلى نجاح الأحزاب السياسية التقليدية فى الاستفادة من آلية "الدوائر الانتخابية المتعددة"، وآلية التوسع فى ترشيح "المستقلين" كمسوغات انتخابية يمكنها استخدامها فى ممارسة المزيد من التعبئة والتحشيد على أسس نوعية متعددة منها: الطائفى، والجهوى المناطقى، والدينى المذهبى، بما يحقق لها أهم أهدافها وهو منع وجود قوى سياسية عابرة للطائفية تعتمد الهوية الوطنية كأساس لعملها السياسى.       

وتجدر الإشارة هنا، إلى أن التطورات الداخلية فى العراق، والتى تشكل مدخلات لدى الناخب العراقى لاسيما الرافض لحالة التردى فى الأوضاع القائمة، تؤشر إلى احتمالية تراجع نسبة المشاركة الجماهيرية فى الانتخابات، اعتراضاً على عدم نجاح الحكومة فى الوفاء بالتزاماتها تجاه عدة أمور منها: عدم قدرتها على حسم مسألة السلاح المنفلت الذى لايزال فى حوزة عدد كبير من الفصائل المسلحة خاصة الشيعية منها، وتستخدمه فى إعاقة مسيرة الدولة فى فرض هيبتها على الجميع من ناحية، وفى تهديد غيرها من المكونات السياسية والاجتماعية بالدولة من ناحية ثانية. هذا بخلاف عدم قدرة الحكومة على فرض رؤيتها لـ"الهوية الوطنية الجامعة" فى مواجهة الخطاب الطائفى الحاد الذى انتهجته القوى السياسية خلال حملاتها الانتخابية. يضاف إلى ذلك عدم قدرتها حتى الآن على تفعيل استراتيجيات محاربة الفساد فى الدولة، وتراجعها فى أحيانٍ كثيرة عن تقديم مسئولين وقادة سياسيين كبار محسوبين على عدد من الأحزاب السياسية التقليدية الكبرى للمحاكمة، بالرغم من ضلوعها فى قضايا فساد كبرى. فضلاً عن عدم اتخاذ موقف صريح وواضح من مشاركة الأذرع المسلحة للأحزاب السياسية فى الانتخابات، وتحديداً عدم تفعيل البند القانونى الذى يقر بمنع مشاركتها فى الانتخابات، وعلى رأسها هيئة الحشد الشعبى.     

احتمالات وفرص التغيير

على ضوء ذلك، فإن حدود التغيير الممكن حدوثها فى المشهد السياسى العراقى كنتيجة للانتخابات التشريعية الجديدة يتوقف بعضها على درجة التباين فى توجهات جمهور المحتجين منذ عام 2019 وحتى الآن؛ بمعنى أن الحركات الاحتجاجية ليست ذات توجهات واحدة بشأن العملية الانتخابية،  كما سبق القول، ولكن فى الوقت نفسه فإن الاحتجاج بصفة عامة لن يكون ذا جدوى إذا لم يترجم فعلياً فى صناديق الاقتراع، لأنه وفى حالة عزوف قطاع كبير من المحتجين عن المشاركة فى الانتخابات بالترشيح أو التصويت سيتيح ذلك الفرصة أمام غيرهم من الموالين للأحزاب السياسية التقليدية، وهذا سيؤدى ببساطة إلى استمرار الوضع السياسى على ماهو عليه؛ وذلك على اعتبار أن المسار الانتخابى الجديد لا يعدو إلا أن يكون انعكاساً لمسار إصلاحى متعثر حاولت حكومة الكاظمى انتهاجه على مدى عام مضى، لكنها لم تنجح إلإ فى إحداث هامش تغيير بسيط - من ضمنه التعديل المحدود فى قانون الانتخاب وفى تشكيل مجلس المفوضية العليا اللانتخابات - وأن هذا التغيير المحدود لايزال غير قادر على هدم "التوازنات السياسية التقليدية القائمة" فى بنية العملية السياسية العراقية؛ لأنه ببساطة وضع كوابح فعلية أمام المفوضية العليا للانتخابات قلصت من دورها فى إحداث التغيير الانتخابى الشامل والقادر على تغيير تلك التوازنات، بحصر هذا الدور فى تغييرات إجرائية فقط، وبقيت القرارات السياسية المتعلقة بتغيير البنية الانتخابية فى مجملها حقاً حصرياً للبرلمان الذى تهيمن عليه الكتل السياسية التقليدية، التى ستمنع أى تعديل تشريعى من شأنه الإضرار بمصالحها.

أيضاً، ونتيجة لعدم إجراء تعديلات جذرية على النظام الانتخابى؛ لاسيما فيما يتعلق بنزع سلاح فصائل الأذرع العسكرية للتيارات السياسية، أو لفصائل هيئة الحشد الشعبى الشيعية، وبعض العشائر السنية، فضلاً عن توظيف المال السياسى انتخابياً، فمن الصعوبة بمكان تصور حدوث تغيير مرتقب قد تسفر عنه الانتخابات الجديدة، ومن الصعوبة كذلك اعتبارها وسيلة لإعادة بناء نظام سياسى يقوم على تقليل حالة الاحتقان الطائفى الشديدة بين مكونات المجتمع العراقى سياسياً واجتماعياً، تلك المكونات التى توظف امتلاكها للسلاح فى الحفاظ على البنية السياسية القائمة دون تغيير، لأنه وفى حالة وجود نظام سياسى وانتخابى يمتلك القدرة على نزع سلاح الجماعات ما دون الدولة به، فإننا سنكون أمام نظام قادر على إعادة توزيع موازين السلطة على كافة القوى السياسية الموجودة وفقاً لأوزانها الانتخابية، وتوزيع فائض الثروة الاقتصادية على كافة فئات المجتمع دون تمييز. وهنا فقط يمكن أن يتغير النظام ويكتسب شرعية تقوم على "عدالة توزيع السلطة السياسية والاقتصادية" على ممثلى جماهيره، وليس على أسس محاصصية طائفية أو سياسية.   

نتائج محتملة

 

فى ضوء معطيات المشهد الانتخابى ومتغيراته السابقة، يصعب التنبؤ جدياً بنتائج الانتخابات البرلمانية العراقية؛ لاسيما بعد التقسيم متعدد الدوائر؛ حيث قُسِّمت الدولة إلى 83 دائرة انتخابية. وبالرغم من ذلك، فإن الانتخابات الجديدة قد لا تسفر عن تغيرات حادة فى النتائج المتوقعة عن نتائج انتخابات عام 2018، نظراً لاستمرار قدرة الأحزاب والتكتلات السياسية الكبيرة على الحشد والتعبئة الشعبية خلف مرشحيها، بخلاف قدرة بعضها على توظيف المال السياسى، واستخدام السطوة العسكرية فى إجبار الناخبين على التصويت لصالحها، هذا بخلاف احتفاظ الأحزاب السياسية التقليدية بكتلتها التصويتية الثابتة التى تصوت لها على أسس طائفية. كما أن تشكيل الحكومة الجديدة بناءً على ما ستسفر عنه الانتخابات من نتائج سيحتاج إلى تحالفات برلمانية لتشكيل الكتلة البرلمانية الأكبر –165 مقعدًا– التى تمتلك حصرياً حق اختيار رئيس الوزراء من بين أحزابها أو من شخصيات سياسية مستقلة تحظى بدعمها. مع ملاحظة أن ثمة عوامل خارجية تتحكم فى عملية اختيار رئيس الوزراء الجديد أهمها "التوافق" بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران على الشخصية المرشحة لتولى المنصب.

ولا يعنى ما سبق استحالة حدوث ولو قدر بسيط من التغيير فى المشهد السياسى بعد الانتخابات؛ فمن المحتمل أن تأتى بعض النتائج باختيارات جديدة من المرشحين المستقلين، بما يكسر حالة الثبات التى عليها خريطة التفاعلات السياسية الحزبية العراقية؛ ويفتح المجال أمام صعود قوى سياسة جديدة وأيديولوجيات مختلفة، دون أن يؤدى ذلك إلى إنهاء فعلى لوجود الأحزاب السياسية التقليدية.

ختاماً، فإن نتائج الانتخابات البرلمانية العراقية الجديدة قد لاتسفر عن تغيير حقيقى فى المشهد الانتخابى، ولا فى التحالفات البرلمانية التالية على الانتخابات، التى تعد الأكثر أهمية لدورها فى تشكيل الحكومة واختيار رئيس الوزراء. وبالتالى سنكون أمام نمط تقليدى من الحكومات الائتلافية التى ستتقاسم المناصب الوزارية على أسس من "المحاصصة التوافقية" بين تكتلاتها وأحزابها السياسية المختلفة.