يقدم نموذج السياسة الخارجية للدول الصغيرة مدخلا مهما لتفسير ديناميات السياسة الخارجية الأردنية تجاه منطقة الشرق الأوسط، خلال فترة حكم الملك عبد الله بن الحسين حيث تتلاقى أغلب فرضيات النموذج مع السياسة الخارجية الأردنية، إذ يفترض نموذج السياسة الخارجية للدول الصغيرة أن هذه الدول تميل إلى سياسات تعويضية لتجاوز سماتها السياسية والاقتصادية الذاتية كأن تتجه إلى تشكيل تحالفات مع القوى الإقليمية الأكثر تأثيرًا، وتعزز من انخراطها فى المؤسسات الإقليمية والدولية، وكذلك تجنب الدخول فى صراعات حادة مع القوى الإقليمية والدولية على اعتبار أن العلاقات مع هذه القوى تخدم مصالح هذه الدول الصغرى.
ويمثل المحدد الأمنى بعدا رئيسيا فى السياسات الصغيرة للدول الصغيرة، وهو ما ينطبق أيضًا على الأردن، حيث تؤكد العديد من الدراسات مركزية المسائل الأمنية والدفاعية للدول الصغيرة على وجه الخصوص، وعدَّها السمة الرئيسية التى تحدد تعريف الدولة الصغيرة، ولذا قد تلجأ هذه الدول إلى الاعتماد الكبير فى ترتيبات الأمن والدفاع الخاصة بها على جهة فاعلة عالمية قوية سياسيًا وقادرة عسكريًا أو على منظمة أمنية ودفاعية. وهكذا، تحاول الدول الصغيرة تبنى سياسات خارجية غير مكلفة بالنسبة لها، ومن ثم، يغلب على سياستها الطابع الحذر، وتجنب إثارة الأزمات مع دول الجوار. وفى هذا الصدد، ربما تعتمد الدول الصغيرة، بصورة كبيرة، على بعض الأدوات مثل الدبلوماسية متعددة الأطراف Multilateral Diplomacy، والمؤتمرات الدولية، والمنظمات الإقليمية، وكذلك التركيز الاقتصادى فى تنفيذ السياسة الخارجية بحيث تكون قرارات السياسة الخارجية أكثر ارتباطا بتعظيم المكاسب والفوائد الاقتصادية.
لقد شكلت المعطيات السابقة الملامح الرئيسية للسياسة الخارجية الأردنية فى عهد الملك عبد الله الثانى، وخاصة مع المحددات التى تنعكس على عملية صنع السياسة الخارجية، التى تتبلور فى أربعة محددات رئيسية أولها الموقع الجغرافى للأردن الذى فرض تأثيرات عديدة على الأردن. على سبيل المثال، يواجه الأردن بحكم تكوينه الجغرافى مشكلات عديدة تتعلق بقلة الموارد الطبيعية، وعدم التنوع فى الخصائص الجغرافية، ومحدودية قدرته على تنمية اقتصاده من خلال التوسع الزراعى. وبموازاة ذلك، بدا الموقع الجغرافى للأردن، بما انطوى عليه من فرص وتحديات، مدخلًا مهما للعلاقات الخارجية الأردنية؛ فعلى سبيل المثال، أضفى هذا الموقع أهمية كبيرة على الأردن بالنسبة للقوى الخارجية؛ ناهيك عن ارتباط الأردن بالقضية الفلسطينية ومجاورته لإسرائيل.
وارتبط المحدد الثانى بالتركيبة الديموغرافية للأردن التى لا تتضمن فقط السكان ذوى الأصول الأردنية، ولكنه يضم أيضًا كتلة كبيرة من الفلسطينيين، بالإضافة إلى استقبال الأردن أعدادًا كبيرة من اللاجئين نتيجة للصراعات القائمة بالإقليم.
وكان لهذه التركيبة تأثير كبير على السياسة الخارجية الأردنية وخصوصًا أنها جعلت الأردن أكثر حذرًا فى التعامل مع القضايا الإقليمية، ومحاولة تجنب الانخراط فى الأزمات الإقليمية. واتصل المحدد الثالث بالوضع الاقتصادى للدولة الأردنية، إذ يعانى الأردن نقصًا فى موارده الطبيعية، ناهيك عن المشكلات التى تتعلق بمساحة الأراضى المزروعة وتراجعها كثيرًا على مدى العقود الماضية بالإضافة إلى انخفاض عدد القوى العاملة فى الإنتاج الزراعى. علاوة على النقص الشديد فى موارد المياه فى خضم سياسات دول الجوار التى أثرت على حصص الأردن من المياه.
وارتهن المحدد الرابع والأخير، بالدور المركزى للملك فى صنع السياسة الخارجية للأردن، وخصوصًا مع الصلاحيات الدستورية الواسعة التى يحظى بها الملك فى النظام السياسى، فضلًا عن واقع الممارسة السياسية الذى أكد النفوذ الواسع للملك. وفى هذا الإطار، تبنى الملك عبد الله منذ توليه مقاليد الحكم عام 1999، سياسة تقوم على عدد من الأبعاد الرئيسية ربما أهمها الحفاظ على تحالفات وثيقة مع حلفاء الأردن الغربيين التقليديين، ولاسيما الولايات المتحدة، والسعى لتحقيق السلام فى الشرق الأوسط عبر الدفع بجهود تسوية الصراع الفلسطينى الإسرائيلى، وكذلك تعزيز العلاقات مع الدول العربية الأخرى، وفى مقدمتها الدول الخليجية. ناهيك عن تعزيز التوجه الاقتصادى للسياسة الخارجية الأردنية.
وانعكست هذه المحددات الأربعة، بشكل أو بآخر، على تحركات الأردن الخارجية وأنماط تفاعلها مع الأزمات الإقليمية المختلفة، فمن جهة أولى، حاول الأردن التعامل مع تداعيات أحداث الربيع العربى، وتطويق تداعياته على الداخل الأردنى، وخصوصًا مع مقتضيات الموقع الجغرافى، التى جعلت الأردن مجاورًا لدول شهدت أكبر التداعيات الناجمة عن الربيع العربى، فالحدود الأردنية مع كل من العراق وسوريا أنتجت ضغوطًا أمنية وسياسية مضاعفة على صانع القرار الأردنى منذ عام 2011. وعليه، أنتج الربيع العربى تهديدات رئيسية للأردن تمثلت فى انتقال موجة الاضطرابات والتظاهرات إلى داخل الأردن، بحيث ساد تعبير أن الأردن هى «تونس الملكيات» للإشارة إلى التهديدات والأزمات التى تواجهها بعد 2011، فضلًا عن الضغط الشديد على الموارد والاقتصاد الأردنى، نتيجة لتدفق أعداد كبيرة من اللاجئين على الأردن، وكذلك تصاعد حدة التهديدات الإرهابية بعد بزوغ تنظيم داعش فى سوريا والعراق.
ومن جهة ثانية، مثلت العلاقات مع القوى الدولية عاملا مهما فى السياسة الخارجية الأردنية لاعتبارات عديدة فى مقدمتها الحسابات الأمنية والاقتصادية لصانع القرار الأردنى إذ أن تعزيز العلاقات مع القوى الدولية يضمن، بشكل أو بآخر، للنظام الأردنى تأمين مصالحه فى سياق إقليمى محتدم بالأزمات، ناهيك عن المكاسب الاقتصادية المتحققة من وراء العلاقات مع هذه القوى. ولعل هذا ما يتضح من العلاقات متعددة الأبعاد بين الأردن وكل من الولايات المتحدة وبريطانيا صاحبة النفوذ التاريخى فى المنطقة.
ومن جهة ثالثة، اتسمت السياسة الإقليمية للأردن بدرجة كبيرة من الحذر، حيث سعى الملك عبد الله الثانى عقب توليه مقاليد السلطة إلى تبنى سياسة الانفتاح الإقليمى على أطراف مختلفة، وهى السياسة التى اتصلت أيضًا بالطابع الحذر والقائم على تجنب اتخاذ مواقف حادة من الأزمات والقضايا الإقليمية. ناهيك عن محاولة الانفتاح على أطراف عديدة فى المنطقة والبحث عن تكتلات وتحالفات إقليمية يمكن عبرها تحقيق المصالح السياسية والأمنية والاقتصادية للأردن. ومن جهة رابعة، استمر الأردن فى مراهنته على القضية الفلسطينية بوصفها المدخل الأهم لصياغة الدور الأردنى على الساحتين الإقليمية والدولية، وخصوصًا مع تشابكات القضية مع الداخل الأردنى. ولذا فقد حرص الأردن على بلورة رؤية مستقرة لتسوية القضية على أساس حل الدولتين، وبالتالى معارضة أى مشروعات بديلة تعمل على تصفية القضية على حساب المصالح الأردنية.