د. عبد العليم محمد

مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

الأزمة الناجمة عن إلغاء عقد صفقة الغواصات الفرنسية لأستراليا، والتى تتعلق ببناء اثنتى عشر غواصة فرنسية تعمل بالوقود التقليدى، لا يقتصر تأثيرها على الآثار التجارية والاقتصادية لهذا العَقد الذى أسمته الصحافة الفرنسية وقت توقيعه بـ"عقد القرن"، وحجب عشرات المليارات من الدولارات عن الموازنة الفرنسية (تختلف التقديرات لهذه الصفقة وتتراوح بين 31 مليار يورو و90 مليار دولار بحساب معدل التضخم بسبب طول مدة التعاقد)، بل يتجاوز تأثيرها المجال الاقتصادى ليمتد إلى المجال الجيوستراتيجى والجيوسياسى والعلاقات بين حلفاء الأطلسى واستشراف حقبة جديدة من العلاقات الدولية.

انتقال مركز الثقل الاستراتيجى

منذ أواخر الألفية الثانية والعديد من التقارير الاستراتيجية الدولية، فى أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، والصادرة عن مراكز بحوث دولية مرموقة، تتحدث أنه بعد نهاية الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفييتى السابق، فإن مركز الثقل الاستراتيجى الدولى اقتصادياً وعسكرياً فى طريقه إلى الانتقال إلى منطقة المحيط الهادئ والهندى وآسيا، وتحققت هذه النبوءة وإن بعد عشرين عاماً، مع تقدم الصين وتفوقها المتنامى اقتصادياً وتكنولوجياً وعسكرياً، خاصة فى مجالات نوعية كالذكاء الاصطناعى والسيبرانى والمعلومات والاتصالات، وهى الدولة التى ظلت لعقود طويلة تقبع فى إطار ما أسماه المحللون "الكمون الاستراتيجى"، وكانت تحرص على أن تُعامَل كدولة نامية من دول العالم الثالث، وتغير الموقف بعد هذه العقود وأصبحت فى نظر الولايات المتحدة الأمريكية تمثل الخطر الداهم على قيادتها للعالم.

جمع هذا الإدراك الأمريكى بين أوباما وترامب وبايدن رغم ما بينهم من فوارق فى الزمن والرؤية، وكل على طريقته، وانتقل هذا الإدراك مع الرئيس الأمريكى الحالى إلى الواقع وبدء المواجهة الاستراتيجية لخطر الصين.

نقطة البدء فى هذه المواجهة الاستراتيجية من قبل الولايات المتحدة الأمريكية للصين، كانت إلغاء عَقد الغواصات الفرنسية المعقود بين فرنسا وأستراليا فى الخامس عشر من سبتمبر الحالي (2021)، واستبدال هذا العَقد بشراكة استراتيجية بين الولايات المتحدة الأمريكية وأستراليا والمملكة المتحدة تسمى "أوكوس"، وهى اختصار يشمل الأحرف الأولى من أسماء أستراليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية فى اللغة الإنجليزية-AuKus، وبموجب هذه الشراكة الأمنية والاستراتيجية الجديدة، تزود الولايات المتحدة الأمريكية أستراليا بغواصات تعمل بالطاقة النووية وتزودها بالتقنية الضرورية لصيانة هذه الغواصات خلال عامين.

وقد تم إلغاء العَقد بين فرنسا وأستراليا، وفق المصادر المختلفة دون علم باريس أو التشاور معها، بل كانت المؤشرات قبل تاريخ إلغاء العَقد من الجانب الأسترالى مطمئنة، ولا تنبئ بهذه التطورات، فى حين أن أستراليا تذهب إلى أن المسئولين الأستراليين فى لقاءاتهم مع نظرائهم الفرنسيين لمحوا إلى مثل هذه التطورات؛ تحت عنوان تغير البيئة الاستراتيجية المحيطة بأستراليا وحاجتها إلى نظام دفاعى متطور.

الموقف الفرنسى بين الغضب والصدمة

تميزت ردود الفعل الفرنسية بالغضب والصدمة، ونسب معظمها إلى وزير الخارجية الفرنسى جان ايف لودريان، والذى وصف إلغاء عقد الغواصات بـ"طعنة فى الظهر" و"احتقار لفرنسا" و"ازدواجية فى المعايير" وغياب "الثقة والشفافية" بين الحلفاء.

تتعدد تأثيرات إلغاء هذا العَقد وإبرام الشراكة الأمنية والاستراتيجية الجديدة المسماة "أوكوس" بين الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة وأستراليا، على أكثر من صعيد. فعلى الصعيد الفرنسى، يمتد تأثير إلغاء هذا العَقد واستبداله بشراكة أمنية جديدة تستبعد فرنسا، إلى صورة فرنسا على الصعيد الدولى، وكذلك صورة الرئيس الفرنسى الحالى ايمانويل ماكرون وإدارته لشئون الدولة، فلا شك أن الإلغاء وعَقد الشراكة الأمنية الجديدة أضر بصورة فرنسا الدولية، وهى الدولة التى لها عدة جزر فى المحيط الهادئ والهندى ولها بعض القواعد، واستبعادها من هذه الشراكة الجديدة يعنى فقدان الحليف الأمريكى والبريطانى الثقة فى القدرات الفرنسية. ومن ناحية أخرى، فإن إلغاء هذا العَقد دون مقدمات ودون تشاور يضر بسمعة الصناعات العسكرية الفرنسية والأسواق التى تمكنت هذه الصناعات من دخولها، خاصة وأن فرنسا فى هذا العقد احترمت معاهدة حظر الانتشار النووى ونقل التكنولوجيا النووية إلى أستراليا، وربما يضر هذا الإلغاء بصفقات وعقود أخرى موقعة بين فرنسا وبين دول أخرى أو فى طريقها إلى ذلك.

شراكة أطلسية مأزومة

أما من زاوية الداخل الفرنسى، فإن هذا الإلغاء قد وقع على بعد عدة أشهر من الانتخابات الفرنسية الرئاسية فى أبريل عام 2022؛ وهى الانتخابات التى يحاول الرئيس ماكرون تعزيز مواقعه للفوز بولاية ثانية فى مواجهة مارى لوبن زعيمة اليمين المتطرف وجان لوى ميلنشون زعيم اليسار المتطرف الفرنسى وآخرين، ويرى هؤلاء فى إلغاء هذا العَقد فرصة للنيل من هيبة الرئيس الفرنسى وقيادته للبلاد، خاصة وأن الأخير قد ترك التعبير عن الغضب الفرنسى لوزير خارجيته لودريان، والتزم الحذر، ويطالب زعيما هذين التيارين بالخروج من حلف الأطلنطى، وخروج فرنسا من قيادته المشتركة والموحدة، وذلك فى تقديرهم أقل ما يجب عمله لرد اعتبار فرنسا والحفاظ على هيبتها وكرامتها، ويجد هذا الموقف ترحيباً فى بعض أوساط الرأى العام الفرنسى وتؤيده بعض الأحزاب الأخرى.

من ناحية أخرى، فإن حزب الرئيس ماكرون، وهو "الجمهورية إلى الأمام"، منى بخسارة كبيرة فى الانتخابات البلدية التى جرت مؤخراً، ولم يفز برئاسة أى من المناطق والأقاليم الثلاثة عشر التى جرت فيها الانتخابات، ذلك فضلاً عن تعثر محاولة ماكرون الإصلاحية وردود الفعل عليها من جانب متظاهرى "السترات الصفراء" عبر فترة ممتدة، وكذلك التباطؤ فى الإجراءات الخاصة بالمناخ، وهو ما يؤثر فى فرص الرئيس فى الانتخابات المقبلة.

بعض المراقبين للمشهد الفرنسى يفسرون ردود الفعل الفرنسية الغاضبة لفظياً وعملياً "طعنة فى الظهر" و"احتقار" و"ازدواجية" واستدعاء السفيرين الفرنسيين من واشنطن وكانبيرا، وإعادتهما بعد ذلك، بأن هذه الردود تنخرط فى محاولة ماكرون كسب رضا الناخبين والرأى العام لموقفه إزاء هذه الأزمة، فى محاولة لاستنساخ موقف جاك شيراك عندما رفض بقوة الحرب على العراق وتدعمت شعبيته جراء هذا الموقف. وفى مقابل ذلك، فإن العديد من أعضاء لجنة الشئون الخارجية بمجلس الشيوخ وغيرهم ينتقدون عموماً أداء أجهزة الدولة الفرنسية الدبلوماسية والاستخباراتية، والتقصير فى الحصول على معلومات قبل إلغاء العَقد، وتقديمها لصناع القرار؛ للبحث فى البدائل أو وقف الإلغاء، وذلك دون تجاوز القاعدة المعمول بها فى إطار "حلف الأطلنطى" بأنه "لا تجسس على الحلفاء"،ـ ويوجه هؤلاء اللوم بالذات لأجهزة الاستخبارات العسكرية الفرنسية وغيرها مثل جهاز أمن الإقليم أو "DST".

الاستقصاء والتحرى والنقاش حول كواليس هذا الإلغاء وملابساته سيستمر لفترة ما، من قبل المؤسسات البرلمانية واللجان المتخصصة فيها، خاصة وأن هناك من يسير بطريقة ما إلى أن الرئيس ماكرون كان يعلم منذ يونيو الماضى إلى أين تذهب الأمور.

فى جميع الأحوال، يتطلب الأمر جهوداً إضافية من الرئيس ماكرون لفض الغموض والالتباس، حول إلغاء هذه الصفقة، وكذلك من قبل معاونيه فى الحكومة ومختلف المؤسسات فى الدولة الفرنسية، وذلك بهدف تقليص آثار هذه "الصفقة" على حملته الانتخابية لتجديد ولايته الرئاسية.

وعلى المستوى الأوروبى عموماً، فإن النتائج تبدو قاسية، فاللجنة الأوروبية والمجلس الأوروبى ومسئول السياسة الخارجية الأوروبى، جميعهم قد اصطفوا وراء فرنسا ووصفوا إلغاء هذه الصفقة بـ"عدم الشفافية" و"فقدان الثقة" فى أوروبا وعدم اتخاذ الأوروبيين على محمل الجد، ذلك أن فرنسا وألمانيا بالذات هما عماد البناء الأوروبى بما يحظون من ثقل اقتصادى وتكنولوجى واستراتيجى.

ومن ثم فإن إلغاء هذه الصفقة أمر يخص أوروبا بأكملها ومن الضرورى أن ترد عليها، وذلك باستعارة الخطاب الأوروبى حول الاستقلالية الاستراتيجية الأوروبية وبناء قدرة أوروبية عسكرية واستراتيجية لحماية مصالحها، وهو المشروع الأوروبى القديم الذى انتهى عملياً إلى تشكيل قوة تدخل سريع أوروبية فقط.

يضاف إلى الموقف الأوروبى أيضاً أن هذه الشراكة الاستراتيجية الجديدة بين الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة وأستراليا، قد سبقها الانسحاب الأمريكى من أفغانستان دون التشاور مع الحلفاء الأوروبيين وترتيب انسحابهم وسحب رعاياهم من أفغانستان، ويخلص الأوروبيون من ذلك إلى أن الثقة لم تعد متبادلة مع الولايات المتحدة الأمريكية، وأن الثقة فقط تتوفر مع الكتلة "الأنجلو ساكسونية" أى أستراليا وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، وهى التى لم تسمح بنقل تكنولوجيا الغواصات النووية الأمريكية إلا إلى المملكة المتحدة وأستراليا.

فيما يبدو أنه وراء موقف الولايات المتحدة الأمريكية إزاء أوروبا وعَقد الشراكة الأمنية الجديدة، يكمن اليأس الأمريكى من اتخاذ الأوروبيين موقفاً حازماً من الصين، يتوافق مع التقديرات والرؤية الأمريكية؛ ذلك أنه فى الاجتماع الأخير لحلف الأطلنطى مارست الولايات المتحدة الأمريكية ضغوطاً كبيرة على الأوروبيين؛ لوضع الصين فى قمة المخاطر، وفى نهاية هذا الاجتماع صدر بيان لم يكن مرضياً للأمريكيين، ولم يقبل الأمريكيون الإصرار الألمانى- الفرنسى على تبنى مقاربة متزنة تجاه الصين.

حرب باردة جديدة

أما على الصعيد العالمى، فإن عَقد هذه الشراكة الأمنية بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأستراليا يعنى انتقال المخاوف الأمريكية من صعود الصين من حيز الرؤية والتصور، إلى حيز التنفيذ والفعل، فمهما كان تبرير عقد هذه الشراكة بدعوى الحفاظ على السلام فى منطقة المحيط الهادئ وتوازن القوى، فإن المهمة الأساسية لهذه الشراكة هى بلا شك محاصرة الصين، والتى ترى الولايات المتحدة الأمريكية أنها باتت تشكل الخطر الداهم على مصالحها وقيادتها العالمية، بعد اتساع نشاط الصين فى بحر الصين وتطورها الصناعى والعلمى والتكنولوجى، خاصة فى مجال الذكاء الاصطناعى والمجال السيبرانى، وقد تمكنت الولايات المتحدة الأمريكية من إقناع أستراليا بتغير البيئة الاستراتيجية التى تواجهها، رغم أن الأخيرة كانت أحد الشركاء التجاريين للصين، ولكن هذا الموقف قد تغير بعد ظهور وباء "كوفيد-19" ومطالبة أستراليا بضرورة القيام بتحقيق دولى حول نشأة هذا الوباء وأصله، وهو ما ردت عليه الصين بفرض حظر على الفحم الأسترالى، بالإضافة إلى حاجة الأستراليين لمحيط آمن ودائم، وهو ما استثمرته الولايات المتحدة الأمريكية بسرعة لبناء تحالف موثوق به فى منطقة الهادئ فى مواجهة الصين، ويمكن القول أن الغواصات النووية كانت مجرد جزء أضيف إلى الجزء المتعلق بالتكنولوجيا فى هذه الشراكة الأمنية الجديدة، التى تُعمِّق التعاون الدبلوماسى ومتطلبات الأمن والدفاع بين هذه الدول الثلاث، من خلال تعميق التقدم العلمى والتكنولوجى والقدرات الصناعية وسلاسل التوريد والتموين المرتبطة بالدفاع، وبصفة خاصة فى الذكاء الاصطناعى والمجال السيبرانى والتكنولوجيا الرقمية.

اعتبرت الصين أن إبرام مثل هذا الاتفاق بين الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة وأستراليا يُقوِّض الاستقرار الإقليمى فى المنطقة ويمثل خطوة غير مسئولة، وأن تزويد أستراليا بغواصات نووية سوف يؤدى إلى تسريع سباق التسلح فى المنطقة.

ومن المفارقات أن الصين تعتبر هذه الشراكة تجاهلاً لمعاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، وهى الحجة ذاتها التى استخدمتها الولايات المتحدة الأمريكية عندما تعاقدت البرازيل مع فرنسا لتزويدها بغواصة نووية فى إطار شراكة فرنسية- برازيلية.

الخطر الصينى فى الاستراتيجية الأمريكية يتعاظم ويهدد المكانة الدولية للولايات المتحدة الأمريكية فى النظام الدولى القائم، سواء من الناحية الاقتصادية، حيث يعتبر الخبراء أن الصين أصبحت بمثابة "اقتصاد العالم" نظراً للتشابكات الاقتصادية وخطوط الإمداد والسلاسل الخاصة بالشحن والاستيراد التى تصل أوروبا وأمريكا بالصين، فضلاً عن مبادرة "الحزام والطريق" والتى تتعهدها الصين بالتمويل، وتربط بين الأخيرة ومختلف الدول المشاركة فيها، أو من الناحية العلمية والتكنولوجية، وخاصة فى مجال الذكاء الاصطناعى والسيبرانى والفضاء، أو من الناحية العسكرية والنفوذ الصينى فى بحر الصين الجنوبى وغيرها من المناطق.

هذا الأمر ترتب عليه أن الإدراك الأمريكى للخطر الصينى انتقل من زاوية المنافسة فى الاقتصاد العالمى الراهن، إلى زاوية الخصومة أو اعتبار الصين خصماً تتضاءل معه قيمة أسس وقواعد المنافسة السلمية المعمول بها، وضرورة الانتقال إلى المواجهة من خلال الحصار وتشكيل تحالفات جديدة فى مواجهة الصين.

ختاماً، يتوقف حل تداعيات أزمة إلغاء عَقد الغواصات الفرنسية مع أستراليا وتشكيل "أوكوس" واستبعاد فرنسا وأوروبا، على السيناريوهات الممكنة لحل الأزمة، أولها إمكانية نجاح الولايات المتحدة الأمريكية فى إسناد دور لفرنسا وأوروبا فى المحيط الهادئ يرد الاعتبار لفرنسا أو للقارة الأوروبية، أو قدرة الأوروبيين على مجاراة رؤية الولايات المتحدة الأمريكية للصين كخطر داهم على الغرب ومكانته وإعادة النظر فى مختلف المقاربات الألمانية- الفرنسية خاصة للتعامل مع الصين، وهى مسائل معقدة قد تشغل جدول الأعمال الأوروبى- الأمريكى لفترة قادمة.

من ناحية أخرى، يظهر تعويض فرنسا عن خسارة هذه الصفقة، خاصة وأن الإخلال بها جاء من الطرف الأسترالى، وهو تعويض رغم أن حجمه يبلغ مئات الملايين من الدولارات، إلا أنه لن يمحى الصفعة أو الإهانة التى لحقت بفرنسا وأوروبا من جراء الحليف الأمريكى أو الأنجلو ساكسونى.

ومهما كانت الطريقة التى ستنتهى بها الأزمة بين الحلفاء، فإن صفحة جديدة قد افتتحت فى العلاقات الدولية تحكمها المصالح الاستراتيجية والجيوسياسية، وتطرح العديد من الأسئلة على الصعيد الدولى تتعلق بقدرة الولايات المتحدة الأمريكية على تقليص الخطر الصينى الممتد أو قدرة أوروبا على الاستقلال الاستراتيجى، أو قدرة العالم ككل على تجنب الحرب الباردة الجديدة وتحقيق الاستقرار.