د. أماني الطويل

مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية والخبيرة فى الشئون الأفريقية

على عكس المتوقع، لم ينتج النجاح في تجاوز محاولة الانقلاب الأخيرة في السودان تفاعلات إيجابية منتجة لاستقرار سياسي ينهي فترة الانتقال على النحو المخطط له في الوثيقة الدستورية الموقعة في أغسطس 2019، ولكنه أسفر عن احتقان جديد، وعمّق من الشرخ السياسي بين مكونات المعادلة السياسية السودانية في الفترة الانتقالية. وبشكل موازٍ دفع القوى الثورية إلى الاحتشاد ومحاولة ترميم خلافاتها بعد استشعار أجواء انقلابية قد تقود إلى إنهاء الفترة الانتقالية بشكل قصري.

في هذا السياق، يمكن رصد عدد من الملاحظات بشأن التفاعلات حول المحاولة الانقلابية الفاشلة، والمسارات السياسية حولها وذلك على المستويين الداخلي والخارجي:

أولاً: إن هذه المحاولة الانقلابية الفاشلة يمكن أن تكون "بالون" اختبار لإنتاج انقلاب عسكري من المحتمل أن يتبلور في اتجاهين: إما استيلاء فعلي على السلطة عبر انقلاب عسكري كلاسيكي، أو رفض المكون العسكري تسليم رئاسة المجلس الانتقالي إلى المكون المدني المقرر في نوفمير القادم طبقاً للوثيقة الدستورية، وإعلان إنهاء الفترة الانتقالية تمهيداً لعقد انتخابات مبكرة.

ثانياً: لا زال هناك تعاطف سياسي بين بعض عناصر المكون العسكري والقاعدة السياسية والاجتماعية لنظام عمر البشير، وهو ربما ما دفع إلى نفى مسئولية بقايا النظام القديم عن المحاولة الانقلابية الفاشلة، وذلك رداً على اتهام رئيس الوزراء د. عبدالله حمدوك لحزب المؤتمر الوطني الذي حكم السودان في عهد البشير.

ثالثاً: هناك حاجة إلى إصلاح المؤسسات العسكرية والأمنية السودانية الذي أصبح فرض عين، ذلك أن الاستقرار السياسي السوداني مرهون به، وذلك في ضوء الإعلان عن أكثر من محاولة انقلابية خلال العامين الأخيرين، وهي محاولات تم نسبها جميعاً إلى الجبهة القومية الإسلامية والتي تمثل القاعدة الصلبة للإسلامويين السودانيين.

رابعاً: يبدو أن إعادة هيكلة المكون العسكري وحسم العلاقة بين القوات النظامية - أى القوات المسلحة - والقوات غير النظامية - أي قوات الدعم السريع- هو شرط الاستقرار السياسي في كل أقاليم السودان وترياق ضد المحاولات الانقلابية، حيث أن التفاعلات بين الطرفين متأرجحة وفي حالات من الاتفاق أحياناً والتوتر أحياناً. كما أنها تتحدد طبقاً للمناخ السياسي الداخلي، ذلك أن الناتج النهائي للحالة الراهنة هو تهديد لحالة الاستقرار السياسي في كل أقاليم السودان، بل وتهديد مستقبل مؤسسة الدولة ذاتها.

خامساً: إن الحاضنة الشعبية لقوى الثورة (الحرية والتغيير) قد تراجعت إلى حد كبير بسبب الانقسامات الداخلية، إذ جاء رفض المحاولة الانقلابية على المستوى العفوي للشعب السوداني ضعيفاً رغم الدعوة لمناصرة المكون المدني التي صدرت عن رئيس الوزراء، حيث ظهرت بعد ذلك احتشادات نوعية متوجة ببيانات من جانب الأحزاب والقوى السياسية وكذلك مواقف النخب السياسية الرافضة لأى محاولة انقلابية.

سادساً: إن الجدارة السياسية للمكون المدني في مواجهة التحديات المرتبطة بالأوضاع الاقتصادية والأحوال المعيشية للمواطن العادي، أصبحت موضع شكوك على المستويين الداخلي والخارجي، وذلك في ضوء إنتاج قوى الحرية والتغيير لتشرذم سياسي أثر على قوتها وفاعليتها السياسية، وأيضاً على موازين القوة بينها وبين المكون العسكري، حيث أن الخلل في هذه الموازين أنتج هيمنة للمكون العسكري خلال الفترة الماضية.

سابعاً: إن الموقف الإقليمي والدولي الرافض لأى اتجاهات انقلابية في السودان لا تخطئه عين، ويوضح بشكل كبير أن التفاعل الإيجابي مع هذه الاتجاهات يكاد يكون مستبعداً بالكامل، حيث أصدرت كل من القاهرة والرياض وأبوظبي بيانات أدانت الانقلاب، وذلك فضلاً عن المواقف الحاسمة الرافضة له من جانب الإدارة الأمريكية والاتحاد الأوروبيوالجامعة العربية والاتحاد الإفريقي.

ثامناً: إن بيان الخارجية الأمريكية بشأن وجود أيادي خارجية مسئولة عن محاولة الانقلاب الفاشلة في السودان يثير الأسئلة بشأن ماهية هذه الأطراف، خصوصاً في ضوء عدم صدور بيانات إدانة للانقلاب من جانب كل من إرتيريا وإثيوبيا الجارتين اللصيقتين بالسودان، والمؤثرتين بحكم الجوار الحدودي على الاستقرار السياسي في السودان عموماً وفي الأقاليم الشرقية للسودان خصوصاً.

في ضوء هذه الملاحظات جميعاً، يمكن القول إن هناك مسئوليات سياسية كبيرة على طرفي المعادلة السياسية السودانية -المكون المدني والمكون العسكري- تحت مظلة الوثيقة الدستورية الموقعة بينهما، وذلك لإنجاز توافق سياسي بينهما، وكذلك توافق داخلي لمكونات كل طرف منهما، وذلك حتى يتم استكمال باقي الهيئات التشريعية والقضائية للفترة الانتقالية، والتعامل مع تحدي سوء الأحوال المعيشية للمواطن السوداني وذلك للأسباب الآتية:

1- إن إثبات جدارة المعادلة السياسية السودانية هو شرط لتفاعل المجتمع الدولي الإيجابي مع السودان في مسائل الاستثمار والدعم الاقتصادي، إذ أنه بدون إثبات هذه الجدارة سيكون هناك تراجع متوقع لهذا الدعم الذي ظهرت ملامحه في بطء تنفيذ التعهدات الدولية للسودان، خصوصاً مع انشغالات الإدارة الأمريكية الداعم الرئيسي للخرطوم في هذه المرحلة. من هنا، فإن حجم التحديات التي سوف تواجهها النخب الحاكمة السودانية سوف تتضاعف في مواجهة الأوضاع الاقتصادية واللوجستية الراهنة.

2- إن معضلة شرق السودان أصبحت مؤثرة بشكل كبير على مستقبل الدولة ومدى استقرارها، وذلك في ضوء الانحيازات التي بدت من جانب قيادات الإقليم لتصدر المكون العسكري للمشهد السياسي. من هنا، تسبب غلق ميناء بورتسودان أكثر من مرة خلال العام الماضي، في مسعى لإلغاء مسار الشرق في اتفاقية جوبا، في خسائر اقتصادية وسياسية مؤثرة.

3- إن التحركات الاحتجاجية التي جاءت تنفيذ اًلدعوة" المجلس الأعلى لنظارات قبيلة البجا" لإغلاق أكثرمن خمس نقاط بشرق السودان أمام باقي أنحاء البلاد، وكذلك إغلاق موانئ كل من بورتسودان وسواكن وبشاير، هى مهددة بطبيعتها لمعطيات الأمن القومي السوداني، وذلك مع إغلاق الشوارع المؤدية من إقليم شرق السودان إلى باقي أنحاء البلاد، وخصوصاً العاصمة الخرطوم، حيث شمل الإغلاق 3 نقاط في ولاية البحرالأحمر، منها محطة "العقبة" المؤدية لموانئ البلاد في بورتسودان وسواكن على البحر الأحمر، ومحطة أوسيف على الطريق مع مصر. كما شمل الإغلاق منطقتين في ولاية كسلا وثلاث مناطق في ولاية القضارف، واستثنى الإغلاق حافلات السفر ومركبات الشرطة والإسعاف والمنظمات.

4- إن إقليم شرق السودان هو الإقليم المتحكم في حركة الدولة مع العالم على الصعيد الاقتصادي والتجاري، حيث يستورد السودان 70٪ من احتياجاته عبر ميناء بورتسودان. كما أن ميناء بشاير المغلق أيضاً يؤثر بفاعلية كبيرة على استقرار دولة جنوب السودان من حيث أن العوائد البترولية هى جل مكون الموازنة الجنوب سودانية والتي تحافظ على استمرار عمل دولاب الدولة.

5- إن تحديد العلاقة الدستورية بين المركز والأطراف في السودان، وتحديد مسائل وخرائط التمثيل السياسي، فضلاً عن هيكلة تقاسم الثروة ونسبها، سواء في مؤتمر دستوري أو في إطار المجلس التشريعي المعطل تكوينه، أصبح ملحاً، ومؤثراً على مستقبل مؤسسة الدولة في السودان. ذلك أن الأسباب الرئيسية للاحتجاج في شرق السودان، كما يعلنها المحتجون، هى أن إقليمهم "بقرة حلوب" لباقي السودان بما يملكه من موارد لوجستية تتمثل في الموانئ، بينما هم يعانون التهميش التنموي الكبير، على نحو ما تكشفه بعض المؤشرات الإحصائية، مثل ارتفاع عدد وفيات النساء الحوامل في شرق السودان، نظراً لغياب الخدمات الصحية، وكذلك ارتفاع نسبة وفيات الأطفال، وغيرها من المؤشرات الدالة على التهميش التنموي.

6- إن تبلور المطالب السياسية لإقليم شرق السودان في حق تقرير المصير، يؤشر إلى إمكانية فعلية لتقسيمات جديدة في السودان، فضلاً عن الأوضاع الهشة في دارفور.

7- تبدو الفعالية السياسية لحزب البشير نشطة حتى الآن، رغم مرور عامين على الثورة، حيث طالب محمد الأمين بترك رئيس المجلس الأعلى لعموديات شرق السودان، وعضو حزب المؤتمر الوطني، بإقالة الحكومة الانتقالية؛ ليتم تكوين مجلس عسكري ممثل لست أقاليم سودانية، وذلك مع مكون مدني شريك يكون بديلاً لحكومة حمدوك، وكذلك إنهاء عمل لجنة التمكين المنوط بها ملاحقة فلول البشير وأدواته.

وفي تقديرنا، لن يتم تجاوز عقبة اتجاهات المكون العسكري بالهيمنة، وربما بمحاولة الانقلاب، إلا عبر صفقة سياسية تتوافق عليها قوى الحرية والتغيير مع المكون العسكري مفادها ضمان الأمن الشخصي لكل رموز المؤسسة العسكرية التي شاركت البشير حكمه، وضمان مشاركة المؤسسة العسكرية المتحدة صناعة القرار السياسي الاستراتيجي المرتبط بالدولة السودانية خصوصاً على الصعيد الجيوسياسي؛ فبدون هذه الصفقة لن تتقدم الأوضاع السياسية نحو الهدوء والاستقرار، وسوف يستمر التنابذ بين الأطراف.

في هذا السياق، يبدو الإسناد الإقليمي والدولي للسودان في هذه المرحلة الحرجة مطلوباً بإلحاح وذلك مع حساسية موقع السودان الجيبولتيكي وتأثيره على أمن البحر الأحمر والأمن الإقليمي الشامل في إفريقيا. أما على الصعيد المصري، فإن الإستمرار في بناء شراكات تنموية مع السودان، هو توجه لايمكن التخلي عنه رغم الأوضاع السياسية الحرجة التي يمر به السودان.