قضايا وتحليلات - قضايا وتفاعلات دولية 2021-9-22
آمنة فايد

باحثة في العلوم السياسية

بعد ثلاثة أعوام من الهدوء النسبي، يُطل من جديد شبح جرائم الإرهاب والعنصرية على نيوزيلاندا. فبعد المذبحة الأولى من نوعها التي شهدتها البلاد في 15 مارس 2019 إثر استهداف أحد الاستراليين المُتطرفين لمسجدين في مدينة كرايست شيرش بهجوم مسلح أسفر عن مقتل أكثر من 50 شخصًا، فضلاً عن سقوط مصابين؛ تشهد نيوزيلاندا الآن حالة من الصدمة جراء العملية الإرهابية المُروعة التي قام بها اللاجئ السريلانكي أحمد محمد شمس الدينفي 3 سبتمبر الجاري (2021).

فقد اقتحم الشاب أحد المتاجر في مدينة أوكلاند وقام بأخذ سكين كبير من أحد أرفف المتجر وطعن به 6 أشخاص على الأقل قبل أن تأتي الشرطة وتطلق النار عليه وترديه قتيلاً. وتُشير التحقيقات إلى أن مُنفذ العملية وصل إلي نيوزيلاندا عام 2011، وتم وضعه من قبل أجهزة الدولة الأمنية على لائحة الرقابة الخاصة بالإرهابيين المُحتملين منذ عام 2016، وذلك بسبب التخوف من قناعاته الأيديولوجية المُستوحاة من تنظيم "داعش" الإرهابي. فقد صرحت والدة شمس قائلة: "علمنا أن تغييرًا طرأ عليه. التغيير بدأ بعد أن غادر البلاد واستقر في نيوزيلندا عام 2011"،مُشيرة إلى أن جيرانه السوريين والعراقيين، المُنتمين لأيديولوجيا تنظيم "داعش" قد "انتهزوا الفرصة للتأثير عليه وغسل دماغه"، وهو ما لاحظته عليه مع بداية نشره لآراء مُتطرفة على مواقع التواصل الاجتماعي.

دوافع مختلفة

يمكن تفسير تصاعد عمليات الإرهاب والعنصرية في نيوزيلاندا في ضوء اعتبارات عديدة يتمثل أبرزها في:

1- تغذية مُتبادلة: رغم التباعد الزمني بين عمليتى 2019 و2021، واختلاف انتماءات مُنفذيها ودوافعهم، إلا أن القاعدة المُشتركة بين العمليتين هى النزعة العنصرية والتعصب الديني، حيث يعكس هذا المشهد ملامح "التغذية المُتبادلة" بين الطرفين. فمع مساهمة نشاط التنظيمات الإرهابية، على غرار تنظيمى "القاعدة" و"داعش"، في ترسيخ ظاهرة "الإسلاموفوبيا" وتصاعد المخاوف من انتشار الإسلام والمسلمين، لاسيما داخل المجتمعات الأوروبية، تتنامى الهجمات والتهديدات التي تتعرض لها الأقليات المسلمة في تلك المجتمعات، ما يُسفر بدوره عن تغذية مشاعر الاضطهاد والتهميش والخوف لدى المسلمين، ويُسهل على التنظيمات الإرهابية استقطاب المزيد من التابعين لها والمتعاطفين مع أيديولوجيتها، ويمنحها الحُجة، وفقاً لمزاعمها، لشن المزيد من الهجمات ضد الغرب باعتباره "العدو الأكبر للإسلام والمسلمين"[1]، لينتهي المطاف أمام دائرة مُفرغة من التطرف والإرهاب على الجانبين، والتي يُغذي كل طرف فيها الآخر ويُقدم له الحجج والمُبررات لحشد المُؤيدين لقضيته وأهدافه، والتمادي في ممارسة العنف تجاه الآخر.

2-  نظرية "الاستبدال العظيم": مارست موجات الهجرة التي شهدتها نيوزيلاندا دورًا محوريًا في تصاعد مخاوف المجتمع النيوزيلاندي ذي الأغلبية الأوروبية، التي تتجاوز الـ74% من إجمالي سكانه، لاسيما في ظل نظرية "الاستبدال العظيم"التي صاغها الناشط السياسي الفرنسي رينو كامو، وشكلت أيديولوجيا تيار اليمين المُتطرف، حيث تُشير تلك النظرية إلى وجود مؤامرة مُنظمة لاستبدال الأوروبيين البيض، بالمهاجرين العرب والمسلمين القادمين من دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وأفريقيا جنوب الصحراء، وذلك من خلال الهجرة الجماعية وارتفاع معدلات الخصوبة عند المهاجرين من غير أصل أوروبي، الذين قد تتجاوز أعدادهم -في مرحلة ما- السكان الأصليين والأوروبيين، مما يُهدد بتفكك تلك المجتمعات وطمس هويتها وثقافتها. وقد انعكست تلك النظرية على أرض الواقع وتحولت، وفقاً لاتجاهات عديدة، من مجرد فرضية إلى مُبرر يستند إليه بعض العناصر المتطرفة من أجل ممارسة الاضطهاد والتهميش والقمع تجاه الأقليات العربية والمسلمة في المجتمعات الأوروبية[2].

ووفقًا لبحث أجرته جامعة "فيكتوريا" النيوزيلاندية، تستقبل نيوزيلاندا ما يتراوح بين 40 إلى 50 ألف مهاجر سنويًا من مختلف أنحاء العالم[3]. وعلى الرغم من ضآلة حجم الأقلية المسلمة في نيوزيلاندا، والتي لا تتجاوز الـ1% تقريبًا وسط العديد من الأقليات الأخرى كالهندوس والبوذيين واللا دينيين، إلا أن الجاليات المسلمة تعتبر أسرع الجماعات الدينية انتشارًا ونموًا، ومن أكثر المهاجرين انخراطًا في سوق العمل، واندماجًا في المجتمع النيوزيلاندي من خلال المساجد، والمدارس والمراكز الإسلامية[4]. فالجدير بالذكر أن الجاليات الهندية المسلمة التي تُشكل حوالي 29% من مسلمين نيوزيلاندا[5]، كان لها حضور بارز، ودور ملموس في "أسلمة" العديد من النيوزيلانديين ذوي الأصول الأوروبية[6]، ما أسفر بدوره عن تنامي التيار القومي المُتشدد المُعادي للهجرة والأجانب في نيوزيلاندا، واتهام المسلمين من ذوي أصول أوروبية بـ"خيانة" العرق الغربي، والتخلي عن تراث وثقافة وتقاليد الشعوب الأوروبية[7].

3-  ثغرات قانونية: كشفت الهجمات الإرهابية التي تعرضت لها نيوزيلاندا عن وجود العديد من الثغرات في آليات وإجراءات مكافحة الإرهاب والتطرف. فحتى تاريخ مذبحة 2019 كان شراء الأسلحة العسكرية مُقننًا في نيوزيلاندا، ورغم وجود مساعي منذ التسعينيات لتعديل القوانين الخاصة بحيازة الأسلحة العسكرية، إلا أن تلك التحركات لم تلق الزخم المطلوب لتحقيقها قبل 2019. فقد أعلنت رئيسة الوزراء النيوزيلاندية جاسيندا أرديرنعقب الحادث عن تغيير قوانين حيازة الأسلحة، حرصًا على أمن وسلامة المجتمع، وتم اتخاذ إجراءات فورية من قبل البرلمان خلال 26 يومًا من تاريخ وقوع الحادثة لحظر بيع الأسلحة الهجومية ونصف الآلية العسكرية[8].

كما سلط الحادث الإرهابي الأخير الضوء مرة أخرى على الإشكاليات التي تواجه تعاطي الدولة مع ملف مكافحة الإرهاب والتطرف، وكذلك على ثغرات قانون قمع الإرهاب لعام 2002، والذي اتهمه البعض بالتركيز أكثر على الإجراءات العقابية، بدلاً من تفعيل الإجراءات الوقائية والاستباقية للتعامل مع خطر التهديدات المُتوقعة. فبموجب قانون عام 2002، لا يتم تجريم التخطيط للعمل الإرهابي، ولا يجوز حبس الشخص إذا لم يقدم على ارتكاب العمل الإرهابي بالفعل، وبناءً عليه لم يتم حبس مُنفذ الجريمة "شمس" رغم نزوله على لائحة الرقابة الخاصة بالإرهابيين المُحتملين منذ عام 2016، وخضوعه للإشراف والرقابة منذ يوليو 2021 لاتهامه بالترويج لأيديولوجيا تنظيم "داعش" عبر مواقع التواصل الاجتماعي.

وفي هذا الصدد، تعهدت أرديرن في تصريحاتها عقب العملية الإرهابية الأخيرة بتدشين قانون مكافحة الإرهاب خلال شهر سبتمبر الجاري. وينص مشروع القانون الذي قدمه وزير العدل كريس فافوري منذ أبريل 2020 وأوصت به الهيئة الملكية- تشكلت بقرار من رئيسة الوزراء عقب مذبحة كرايست تشيرش لكشف ملابسات الحادث-  في ديسمبر 2020، على تجريم التخطيط والتحضير الذي قد يؤدي إلى أى هجوم إرهابي.

4- تأثير العولمة: تكشف الحوادث الإرهابية التي تتعرض لها نيوزيلاندا عن اتساع نطاق تأثير العولمة، ودور شبكات الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي التي تُستغل من كافة التيارات المُتطرفة والعنصرية في اختراق المجتمعات وبث ونشر أفكارها وأيديولوجيتها الخاصة المُغذية للعنف والإرهاب. فمن جانبها، استغلت تيارات اليمين المُتطرف وسائل التواصل الاجتماعي عقب مجزرة 2019، في "التمجيد" لمُرتكب المجزرة، والدعوة والتحريض لمواصلة استخدم العنف والإرهاب ضد الجاليات المسلمة في نيوزيلاندا بجميع صوره وأشكاله[9].

كما كشف ارتباط اسم مُنفذ العملية الإرهابية الأخيرة بتنظيم "داعش" الإرهابي خلال التحقيقات الأولية- على الرغم من كون نيوزيلاندا دولة نائية وبعيدة إلى حد كبير عن مناطق تمركز ونفوذ أفرع تنظيم "داعش"- عن عدم وجود أى مكان بمنأى عن تأثير الخطاب المُتطرف، الذي تسعى التنظيمات الإرهابية من خلاله لاستقطاب وتجنيد الموالين لها داخل مساحات جديدة حول العالم، لتنفيذ أجندتها وخدمة مصالحها المُتباينة وفقًا لطبيعة المجتمعات المُستهدفة.

ختامًا، في إطار جهود مُناهضة التغذية المُتبادلة للتطرف والإرهاب بين طرفى الأزمة؛ نظم فريق عمل مكون من مُسلمي نيوزيلاندا في 11 يوليو 2021، مشروعاً باسم "اكتشاف الإسلام بنيوزيلاندا" لتعزيز قنوات التفاهم والثقة بين المسلمين ومختلف الديانات والطوائف والأقليات الأخرى، وذلك من خلال عدد من الجولات الميدانية والأنشطة الإليكترونية التوعوية عبر وسائل التواصل الاجتماعي لتصحيح المفاهيم المغلوطة والشائعة عن الإسلام والمسلمين[10]، بهدف تغيير الرؤى النمطية السلبية -التي رسختها أنشطة التنظيمات الإرهابية- عن المسلمين في المجتمعات الأوروبية، ما قد يُسهم بدوره في الحد من مظاهر الإسلاموفوبيا والعنصرية، وبالتالي يقطع الحلقة المُتصلة من أعمال العنف والتطرف والإرهاب على الجانبين،لاسيما أن تنامي أى جانب منهم يُغذي ويُعزز ممارسات الجانب الآخر بحجة الدفاع عن دينه، وأبناء ديانته.


[1]هجوم نيوزيلندا يدق ناقوس الخطر: الإسلاموفوبيا تنتشر!،دويتش فيله، 15 مارس، 2019، متاح على الرابط التالي: https://bit.ly/3DTwzaU

[2] ابراهيم التميمي، "الاستبدال العظيم" نازية القرن الحادي والعشرين وعنصرية حاقدة تجاه المسلمين!!،أمد للإعلام، 20 ديسمبر 2020، متاح على الرابط التالي:

https://www.amad.ps/ar/post/381218

[3] ما قصة الإسلام والمسلمين في نيوزيلاندا؟،بي بي سي عربي، 22 مارس، 2019، متاح على الرابط التالي:

https://www.bbc.com/arabic/world-47585183

[4] حسين عمارة، المسلمون في نيوزيلندا..ما هي أصولهم وهل يشكلون هدفا للاعتداءات العنصرية؟، فرانس 24، 18 مارس 2019، متاح على الرابط التالي:

 https://bit.ly/3tpwI15

[5] ما قصة الإسلام والمسلمين في نيوزيلاندا؟، مرجع سبق ذكره.

[6] حسين عمارة، المسلمون في نيوزيلندا..ما هي أصولهم وهل يشكلون هدفا للاعتداءات العنصرية؟، مرجع سبق ذكره.

[7] مريم تولتش،مانيفستو اليمين المتطرف: قراءة في عقل إرهابي نيوزيلندا، اضاءات، 16 مارس، 2019، ماح على الرابط التالي:

https://bit.ly/3tjCilN

[8] محمود جمال عبد العال، استباق الارتدادات: سياسة نيوزيلندا لمنع دورة التطرف بعد إرهاب "كرايست تشيرش"،28 مارس، 2019، متاح على الرابط التالي:

https://bit.ly/38TbfE8

[9] فادي محمد الدحدوح، الإرهاب الإلكتروني في سياق مجزرة نيوزيلندا، 27 مارس 2019، متاح على الرابط التالي:

https://bit.ly/3ndXPLC

[10] ''اكتشف الإسلام".. مبادرة جديدة لمواجهة العنصرية ضد المسلمين في نيوزيلندا، مرصد الأزهر، 11 يوليو 2021، متاح على الرابط التالي:

https://bit.ly/3najDYn