كان للمشاركة المصرية في مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة، ومؤتمر دول جوار ليبيا، دلالات مهمة بالنسبة لدور مصر الإقليمي. وقد عقد مؤتمر العراق بمشاركة دولتى الجوار اللتين أثخنتا الجسد العربي بالجراح (إيران وتركيا). وعقد المؤتمران في ظل بوادر تراجع القوة الأمريكية في المنطقة فعلياً، وعلى إثر الانسحاب من أفغانستان، الأمر الذي عكسه الحضور الفرنسي -وليس الأمريكي- في مؤتمر العراق، وكل ذلك وسط بوادر عودة زخم الأصوليين والإرهابيين، الذين أخذ بعضهم يسترجع ذكريات حقبة الجهاد الأفغاني الأولى، التي انتهت بهزيمة السوفييت بين 1979 - 1989، والثانية التي استمرت بين 2001 - 2021، وانتهت بالانسحاب الأمريكي.
المؤتمرات المهاجرة
أكدت أحداث أفغانستان أن الاستراتيجية الأمريكية قد تغيرت، أو في مرحلة إعادة التشكل، وأن الولايات المتحدة الأمريكية لم تعد مستعدة لتحمل تكلفة التدخلات العسكرية، ذلك ما ترجمه تصريح وزير الدفاع البريطاني بن والاس بصراحة وسرعة، حين قال أنه "لم يعد من الممكن اعتبار الولايات المتحدة الأمريكية قوة عظمى". وكان الرئيس الأمريكي جو بايدن غير متسق، حيننفى أن تكون مهمة بلاده في أفغانستان قد استهدفت بناء الدولة أو نشر الديمقراطية. فذلك أمر يحتاج إلى بحث عميق، لأنه يخالف ما تضمنته الرؤى والاستراتيجيات الأمريكية، خلال السنوات التي تلت الغزو في 2001.
وفي سياق الواقع الدولي الجديد، تبدو منطقة الشرق الأوسط على مشارف انسحاب أمريكي، بعد عقود تحكمت الولايات المتحدة الأمريكية بقدر كبير من توازناتها وأمنها، على نحو يهدد بتعريض المنطقة لحالة من "الرجفة الأمنية" ويؤسس لـ"فجوة الأمن"، التي ينبغي ملؤها بتحالفات وهياكل أمنية وعسكرية بديلة. وجاء مؤتمرا العراق وليبيا ليسلطان الضوء على أهمية الدور المصري عربياً.
فعلى مدى السنوات الماضية، برزت ظاهرة "المؤتمرات المهاجرة"، التي ناقشت مشكلات الدول العربية في عواصم الخارج، ورسمت خرائط طرق لتسوياتها، وفي بعض تلك المؤتمرات لم يجر تمثيل الدولة موضوع الأزمة، أو أىٍ من الدول العربية الأخرى، وبرزت سوتشي وجنيف كمحطات أساسية في هذه المؤتمرات، وهكذا جرى إخراج الأزمات العربية وإبعادها عن حلول تأتي من محطات: القاهرة، الرياض، مسقط، الكويت، أبوظبي، الدوحة، أو حتى الجامعة العربية. وكان غريباً أن تغيب أكبر وأهم الدول العربية (مصر والسعودية) عن كثير من تلك المؤتمرات، بينما تحضر تركيا وإيران.
وفي ظل تراجع القطبية العالمية وتراجع الولايات المتحدة الأمريكية عن ممارسة دورها كقوة عظمى، بات على الأقاليم أن تنشيء "قطبيات إقليمية" من داخلها. وفي الشرق الأوسط، الذي تصارعت عليه الأقطاب الإقليمية الثلاثة (تركيا وإيران وإسرائيل)، افتقدت المنطقة لقطبية عربية موازنة. الآن وبعد مؤتمري العراق وليبيا، برزت القطبية العربية وفي مركزها الدور المصري، مع بدء البحث عن تسويات للأزمات العربية في العواصم العربية.
التأثير المصري
كان أهم ما عكسه مؤتمرا العراق وليبيا، تأكيد تمركز الخطاب العربي في أساسياته، حول: عدم التدخل في الشئون الداخليةللدول، واحترام السيادة الوطنية، وإعلاء التسوية السلمية للأزمات، وتعزيز استقرار الدولة والجيوش النظامية، ومكافحة الإرهاب، وإخراج المرتزقة، وتحقيق المصلحة الوطنية، والتأكيد على الشراكات والإعمار والبناء، والبحث عن الاستثمارات. وبعد سنوات من التدخلات الإقليمية والفساد والتشرزم وتحزبات بعض القوى المجتمعية والمذهبية واصطفافها مع قوى خارجية، وبعد سنوات من طغيان الولاءات الأدنى الطائفية والقبلية والمناطقية، هناك عودة للدولة الوطنية، وهناك إقبال على استحضار الرافد العربي، وهو الأمر الذي برز في كلمة رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي في مؤتمر بغداد، ووزيرة الخارجية الليبية نجلاء المنقوش في مؤتمر الجزائر، وفي البيانين الختاميين للمؤتمرين.
وإذا لم تكن هذه الحالة العربية الجديدة قد تأثرت بالتجربة المصرية، المتمركزة منذ سنوات حول: الخطاب السياسي الوطني ومكافحة الإرهاب والبناء الداخلي، فإن ما تُقدِم عليه دول الأزمات العربية الآن يقربها أكثر من الخطاب المصري، ويضيف عناصر قوة داعمة لنهج مصر إقليمياً، وهو ما يسهل على الدولة المصرية مواجهة الأزمات في محيطها العربي. إن المقارنة السريعة بين خطابات حكومة مصطفى الكاظمي في العراق بخطابات حكومات عراقية سابقة، خضعت لأسر الخطاب الطائفي، ومقارنة كلمة وزيرة الخارجية الليبية نجلاء المنقوش بكلمات مسئولين سابقين في الغرب الليبي، يوضح حجم التغير الذي حدث، ويؤكد استفادة البلدين من التجربة التي مرت بها العراق منذ 2003، وتلك التي مرت بها ليبيا منذ 2011.
ويلفت الانتباه أن الفترة التي تقاربت فيها مصر أكثر مع كل من العراق وليبيا، كانت هى تلك الفترة التي اتسمت بنضج الخطاب الوطني، وهى الفترة التي تأكدت فيها الشواهد على صدق التوجهات نحو الاستقرار، والبحث عن الحلول السلمية، واستعادة الدولة الوطنية. أما الفترات التي اتسمت بالاضطراب الداخلي، وسيطرة الولاءات الأدنى أو العابرة، فكانت مصر شبه غائبة عنها، وربما كان ذلك لظروف مصر الداخلية، ولكنه يعني أيضاً أن مصر تنسجم مع محيطها العربي أكثر حين تكون الأوضاع الداخلية بالدول العربية ملائمة ومنسجمة مع الخطاب والمبادئ الوطنية للدولة المصرية.
وتؤكد المشاركة المصرية في مؤتمرى العراق وليبيا أن هناك فرصة أمام مصر لممارسة دور أكبر في حل الأزمات العربية، بعد أن استعادت الدولة المصرية تشغيل دولابها الوطني بكفاءة في الداخل، وهناك فرصة أكثر من أي وقت مضى لحل الأزمات داخل البيت العربي، بعد أن هاجرت تسوية الأزمات العربية لفترة إلى عواصم أجنبية، عندما كانت العواصم العربية مشغولة بأمنها القومي الخاص.
في الأخير، تبدو أهمية بناء قطبية عربية تعزز الأمن العربي في مواجهة القطبيات الإقليمية، لتركيا وإيران وإسرائيل، تعوض عن تراجع القطبية الأمريكية، وتتكون من الدول العربية الأكثر فاعلية وقدرة (بحسب كل أزمة). وفي هذا السياق، يمكن أن تشكل الدول العربية أذرعاً متعددة لقطبية عربية قوية، ويتشكل كل ذراع من توافق الدول الأساسية في كل أزمة؛ ففي ليبيا يمثل التفاهم بين مصر والجزائر أهم شرط لبناء القطبية العربية في مواجهة تركيا. وفي العراق يمثل التوافق بين مصر والسعودية والأردن أهم شرط لبناء قطبية عربية في مواجهة تركيا وإيران. وفي سوريا يمثل التوافق بين مصر والسعودية والأردن والعراق والإمارات وقطر أهم شرط لبناء قطبية عربية في مواجهة تركيا وإيران وإسرائيل.
______________________________
نُشر أيضا بجريدة الأهرام، 12 سبتمبر 2021.