أحبطت السعودية، في 4 سبتمبر الجاري (2021)، عملية هجومية حوثية واسعة كانت تستهدف منشآت شركة "أرامكو" النفطية في المنطقتين الشرقية والجنوبية بالصواريخ والطائرات من دون طيار، والتي خلّفت- بحسب البيان الرسمي- أضراراً مادية على عدد من المنازل وأصابت طفلين جراء سقوط الأجزاء المحطمة من الصواريخ التي تم اعتراضها، وبث التحالف صوراً تُظهِر عملية الاعتراض التي قال أنها كانت عبارة عن 3 صواريخ باليستية و3 طائرات من دون طيار. وفي المقابل، بثّت المليشيا الحوثية صورة واحدة لوصول قذيفة إلى داخل ساحة منشأة نفطية دون أن تُظهِر عملية انفجار، فيما أعلن المتحدث العسكري باسمها يحيى سريع أنه تم إطلاق أكثر من 16 صاروخاً، بينما أكدت وكالات الأنباء العالمية أن المنشآت النفطية لم تتضرر.
وعلى الرغم من أن عملية 4 سبتمبر الجاري هى محاكاة متطابقة، إلى حد كبير، مع عملية 7 مارس الماضي، من حيث استهداف المواقع نفسها تقريباً (مصافي النفط في الدمام وميناء رأس التنورة في المنطقة الشرقية، ومواقع تابعة للشركة في نجران وجازان في المنطقة الجنوبية)، وبعدد مقارب من الصواريخ والدرونز، إلا أن هناك فارقاً جوهرياً كبيراً في العمليتين، وربما إجمالي العمليات التي استهدفت منشآت نفط سعودية، حيث كانت هناك شكوك في السابق في أن المليشيا الحوثية هى المُنفِّذ لتلك العمليات، وأن إيران هى من يقف ورائها، وهو ما أكدته تحقيقات أمريكية، نشرت خلاصتها بعض التقارير الصحفية، بل إن تصريحات لمسئولين أمريكيين- مثل وزير الخارجية السابق مايك بومبيو- كانت قد كشفت أن أكبر هجوم تعرضت له السعودية وتسبب فى إخراج نصف الإنتاج تقريباً لم يكن مصدره من اليمن بالأساس. وفى عملية 7 مارس الماضي أيضاً، أشار البيان الرسمي للتحالف إلى أن "الهجوم كان مصدره من البحر". لكن في عملية 4 سبتمبر- وهى أول عملية تظهر فيها لقطات حية للهجمات- أكدت العديد من المصادر أنها أطلقت من داخل اليمن ومن مناطق متفرقة، بعضها من ذمار وبعضها الآخر من صنعاء، وقدرّت بعض مسافات الإطلاق بنحو 1000 كلم كمؤشر على القدرات النوعية للصواريخ. واللافت أيضاً حرص الحوثيين على الكشف عن أن الهجوم تم باستخدام صواريخ "ذو الفقار"، والطائرة من دون طيار "صماد 3".
تصعيد محتمل
فى واقع الأمر، إن ثبتت صحة هذه الفرضية، فمن المتوقع أن تتعرض السعودية لهجمات نوعية أكثر كثافة مما كانت عليه في السابق. فعلى الرغم من القدرة السعودية على اعتراض الكثير من الهجمات، لكن الخبرة الحوثية المكتسبة من الجانب الإيراني- والتي تتمثل فى الاعتماد على كثافة أدوات الهجوم، بالإضافة إلى تحسين القدرات- ستشكل تحدياً على الدوام، على الرغم من إيلاء الرياض اهتماماً كبيراً بالجانب الدفاعي، خاصة فى تأمين المناطق الحيوية.
كذلك، فإن طول مدى الصواريخ والطائرات من دون طيار يبدو أنه عامل تهديد آخر. ففي بعض الحالات الهجومية التي تعرضت لها السعودية خلال الأشهر الماضية، كان هناك تقدم نوعي في عملية الإنذار المبكر لاعتراض هجمات بالقرب من مصدر إطلاقها. لكن في المقابل أيضاً، فإن عملية تطوير الأسلحة ربما أصبحت تتم في ضوء نتائج كل عملية من العمليات الكبرى، وربما ما يساعد الرياض في هذا السياق أيضاً تركيز الحوثيين على الأهداف نفسها تقريباً، وتحديداً المواقع النفطية وبعض المواقع العسكرية، حيث تشكلت أيضاً خبرة سعودية في عملية الاعتراض، مع تحسن القدرات الدفاعية. لكن بالنسبة للحوثيين، فإن الحد الأدنى لمكاسبهم يتمثل في الاستمرار في الضغط على السعودية واستنزاف مواردها.
في هذا السياق أيضاً، من الأهمية بمكان الإشارة إلى التعاون العسكري السعودي – الروسي، في إطار الزيارة التي قام بها نائب وزير الدفاع السعودي الأمير خالد بن سلمان إلى موسكو في 24 أغسطس الفائت، وشهدت توقيع اتفاقية تعاون عسكري مشترك. فمن الممكن أن يكون لهذا التقارب عائد ربما على زيادة القدرات الدفاعية النوعية، حيث قد تتجه الرياض للحصول على منظومات قصيرة المدى، مثل "بانتسير"، والتي كانت الإمارات قد حصلت على واحدة منها قبل إقرار الكونجرس لقانون يحظر على الحلفاء شراء أسلحة بعد عام 2017 إلا إذا كانت في إطار تنفيذ العقود.
وتلمح بعض التقديرات إلى أن هناك أهدافاً استراتيجية أخرى بالنسبة للسعودية في إطار هذا التعاون المشترك، لكن من المؤكد أنه سيوظَّف عسكرياً وسياسياً، وقد يكون أحد أبعاد التأثير السياسي هو قيام موسكو بممارسة دور في الملف من منظور تأثيرها على طهران.
لكن المتصور أن التحدي في هذه المعركة بشكل عام بالنسبة للتحالف ليس في الجانب الدفاعي، على الجبهة الداخلية فقط، لكن ربما يكون الأصعب من ذلك، هو أن التحالف يشن عدداً كبيراً من الهجمات في اليمن بلا عائد مكافىء على المستوى الاستراتيجي لعشرات الضربات الجوية في الشهر. فمن الصحيح أن المليشيا الحوثية فقدت عدداً كبيراً من قيادات الصف الأول "العسكرية"، بالإضافة إلى عدد كبير من المجندين، لكن على المستوى الميداني لم تحرز القوات المشتركة والقوات الحكومية تقدماً ميدانياً مؤثراً، بل على العكس من ذلك، في الوقت الذي يتحدث الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي عن تقدم مهم لاستعادة المواقع في مأرب، فقدت الشرعية مديرية رحبة. وربما لا يعود ذلك إلى محدودية الكفاءة الميدانية للقوات اليمنية، لكن يعود أيضاً إلى ارتفاع مستوى العنف الحوثي في الهجمات على مأرب دون تفرقة في طبيعة المواقع المستهدفة، فقد توازت عملية سقوط مديرية رحبة مع قصف مدمر لمنازل المدنيين اضطر ما يقارب من ألفى شخص إلى مغادرتها.
رسائل مباشرة
الفارق الجوهري الآخر يرتبط بالتوقيت. فقد صدّر الإعلام الحوثي سياقاً تقليدياً لدلالة التوقيت، حيث ربط الهجمات بالذكرى السادسة لعملية مأرب النوعية التي شنها الحوثيون على معسكر مركزي لقوات التحالف عام 2015 والتي خلّفت أكبر عدد من القتلى في صفوف القوات الإماراتية، بالإضافة إلى عدد من عناصر القوة السعودية، وشكلت منعطفاً رئيسياً في طبيعة الوجود العسكري الإماراتي في اليمن.
لكن يبدو أن هناك دلالات أخرى وراء هذا الهجوم الأخير تبدو أكثر أهمية على صعيد تقييم مستقبل الحرب في اليمن، كما تتضمن رسائل مباشرة إلى العديد من الأطراف، ومنها على سبيل المثال:
1- استقلالية القرار: حرص الحوثيون على إظهار أنهم هم من قام بالعملية، وهى محاولة لترسيخ فكرة استقلالية القيادة الحوثية، وأن طهران بمنأى الآن عن العملية، خاصة وأن وزارة الخارجية الإيرانية كانت أصدرت في اليوم ذاته تقريراً عن النتائج الإيجابية لجولة المباحثات السعودية – الإيرانية بوساطة عراقية، والتي تضمنت ملف اليمن بشكل جوهري، ولكن لا يعتقد أنه يمكن إتمام عملية من هذا النوع بدون ضوء أخضر من الحرس الثوري، وبعض التقارير الحكومية اليمنية تعلن من آن لآخر عن مقتل عناصر من الحرس على جبهات الحرب في اليمن، آخرها إعلان، في 21 أغسطس الفائت، عن مقتل حيدر سرجان في ضربة للتحالف على مأرب، ومن ثم فعناصر الحرس الثوري تمارس دوراً في هذه العمليات من اليمن حالياً.
2- رسالة استباقية: من حيث التوقيت أيضاً، هناك رسالة استباقية للمبعوث الأممي الجديد إلى اليمن هانز جروندبرج. فالهجمات تأتي أيضاً عشية بدء مهامه رسمياً خلفاً للبريطاني مارتن جريفث، وهو موعد معلن عنه رسمياً من جانب الأمم المتحدة في 24 أغسطس الفائت، ومفاد هذه الرسالة أن المليشيا الحوثية ليست على استعداد للانخراط في عملية التسوية، فاللافت أن رئيس الوفد الحوثي للتفاوض محمد عبد السلام عقّب على الإعلان الحوثي للعملية بالتأكيد على أن المليشيا ستواصل العمليات الهجومية وأنها "ستكبر وتتسع". وبالتالي فالمليشيا الحوثية تعلن بشكل مسبق أن خيارها في المرحلة الحالية هو استمرار التصعيد المسلح، وليس خيار المفاوضات "الشكلي"، أو "التكتيكي"، على نحو ما كانت عليه الأمور في السابق، حيث كانت المليشيا تنخرط في المفاوضات بالنظر لدوافع تتعلق بمكاسب الاعتراف بها، بالإضافة إلى تحصيل مكاسب سياسية تتعلق بتخفيف القيود على حركة شحن النفط إلى الحركة، والإفراج عن بعض أسراها ضمن عمليات تبادل مع الحكومة، أو حتى تلبية لرغبة إيرانية على نحو ما جرى في اتفاق ستوكهولم، لكن في كل الأحوال لم تلتزم المليشيا بمخرجات الاتفاق وانتهكته من اليوم الأول لدخوله حيز التنفيذ.
3- توسيع نطاق السيطرة: هناك أيضاً رسائل سياسية جديدة للتحالف، مفادها أن المليشيا الحوثية وسّعت أهدافها في السيطرة على كامل البلاد، وليس فقط مأرب – الغنية بالنفط- على نحو ما كانت تسعى إليه في المرحلة السابقة. وقد أشار زعيم المليشيا عبد الملك الحوثي إلى هذا السياق، كما أن عملية الهجوم على قاعدة "العند" جنوبى البلاد، في 29 أغسطس الفائت، تأتي في الإطار ذاته، بالإضافة إلى أن المليشيا حسمت أيضاً معركة البيضاء لصالحها قبل نحو شهر، ومن ثم فإنها تستثمر حالة ضعف الجبهات الداخلية في تحقيق المزيد من التمدد على كافة الجبهات، وتراهن على قدراتها في الاستمرار في الحرب لفترة مقبلة على عكس الأطراف الأخرى التي تريد نهاية لهذه الحرب الأطول في تاريخ اليمن الحديث.
في الأخير، من المتصور أن الحوثيين لديهم إصرار على مواصلة التصعيد المسلح على الجبهتين الداخلية والخارجية، ومن ثم لا يمكن عزل التصعيد العنيف في جبهات مأرب والحديدة وتعز بشكل متزامن، عن عمليات التصعيد الرئيسية مثل استهداف قاعدة "العند" الجوية، وبعدها بأسبوع عملية استهداف كبرى للسعودية. فبحسابات المليشيا الحوثية، فإنه إذا كانت قادرة على السيطرة على صنعاء بالترغيب والترهيب، وعلى فرض معادلة موازين القوى في الداخل، فليس هناك ما يدفعها إلى التنازل في عملية تسوية ستُفقِدها تلك المكاسب.
على الجانب الآخر، فإن التحالف، لاسيما القيادة السعودية له، في وضع دفاعي في التعامل مع الهجمات الحوثية، وحتى إن كانت تتبنى خيار التسوية، ولديها نية لوقف الحرب، فإنها ستواجه مأزق الطرف الذي ينظر إلى عملية التسوية على أنها استسلام أو تقديم تنازلات. وفي المحصلة الأخيرة، تستمر الحرب بلا توقف وبلا أفق، وستكون مهمة المبعوث الأممي الجديد أصعب من سابقيه الذين لم يحققوا اختراقاً يذكر في مسار التسوية، كما أن الولايات المتحدة الأمريكية هى الأخرى يبدو أنها غير قادرة على تحقيق اختراق مماثل، وربما ستحاول تغيير التكتيك، في المستقبل، لكن هناك تركيز على العامل الإنساني، الذي سيظل يحتل أولوية في ظل غياب إرادة التسوية، لاسيما وأن اليمن مقبل على فصل أكثر سوءاً في الملف الإنساني، على ضوء عدم قدرة المؤسسات الدولية على تلبية متطلبات العملية الإنسانية على أراضيه.