رغم أن انخراط قطر في المشهد السياسي الأفغاني ليس جديداً، حيث سبق أن فتحت قنوات تواصل مع حركة "طالبان" التي أسست مكتب تمثيل لها في الدوحة عام 2013، واستضافت المباحثات التي أجريت بين الولايات المتحدة الأمريكية والحركة والتي انتهت بالوصول إلى اتفاق السلام في 29 فبراير 2020، إلا أن اهتمامها الخاص بإعادة تشغيل مطار كابول، بعد الفوضى التي أعقبت سيطرة "طالبان" على العاصمة، ثم تعرض المطار لعملية إرهابية في 26 أغسطس الفائت (2021)، بدا لافتاً للنظر ومثيراً لتساؤلات عديدة حول أهداف ذلك وتأثيره على موقع الدوحة من الترتيبات السياسية والأمنية التي يجري العمل على إعادة صياغتها في أفغانستان خلال المرحلة الحالية.
دوافع مصلحية
انخرطت قطر خلال الأيام الماضية في جهود تِقنية وإجراء مفاوضات مع حركة "طالبان" من أجل إعادة تشغيل مطار حامد كرزاى بالعاصمة الأفغانية كابول، وهى الجهود التي أسفرت عن تشغيل رحلتين داخليتين في 5 سبتمبر الحالي، والإعلان عن تجهيز المطار لاستقبال المساعدات الإنسانية، على أن يستعد للرحلات المدنية قريبًا. ويمكن القول إن ثمة دوافع عديدة تفسر اهتمام الدوحة بتشغيل مطار كابول، يتمثل أبرزها في:
1- دعم "طالبان": تعمل قطر- عبر فرقها الفنية التي تقوم بتنفيذ الإصلاحات في مطار حامد كرزاى وإعادة تشغيله- على دعم حركة "طالبان" التي تسيطر على الحكم ولا تملك القدرات الفنية والإدارية لتشغيل المطار. فقد تعرض مطار كابول لعدد من المشكلات الفنية والأمنية خلال شهر أغسطس الفائت أثناء عملية الانسحاب الأمريكي، وهى المشكلات التي تعمل قطر وتركيا على إصلاحها بفرقها الفنية ومعداتها التي نقلتها إلى كابول.
كما أن الشركات المتعاقدة التي كانت تُسير أعمال المطار قبل الانسحاب الأمريكي توقفت عن عملها مما ترك فراغًا فنيًا وإداريًا فيما يتعلق بعملية تشغيل المطار([1]). في الوقت الذي لا تستطيع فيه "طالبان" تشغيل المطار من دون مساعدة خارجية([2])، رغم اهتمامها بتشغيله ورغبتها في تدفق المساعدات الدولية وألا تكون معزولة عن العالم([3]).
وتعمل قطر على دعم "طالبان" على هذين المحورين من أجل تشغيل المطار وتقديم دعمها الفني والإداري للحركة، وهو الدعم المرجح تطوره ومأسسته في ملفات مختلفة عقب تشكيل "طالبان" الحكومة الأفغانية الجديدة وتعاطيها مع مختلف القضايا والملفات.
إذ تسعى الدوحة إلى ترسيخ وجودها كفاعل مهم في الملف الأفغاني عبر تدعيم علاقاتها بحركة "طالبان" التي باتت في مواقع السلطة، وتقديم الدعم والمساندة المالية والتقنية واللوجيستية للحركة في محاولاتها لإعادة السيطرة على البلاد وتشغيل أجهزتها ومؤسساتها ومرافقها العامة. وبالتالي فإن قطر تحاول طرح نفسها كشريك في عملية إدارة أفغانستان عبر الدعم التقني والفني، وعقد اتفاقات شراكة وتعاون بين الجانبين. بالإضافة إلى ما يمكن أن يثمر عنه هذا الدعم بشكل خاص واستمرار ونجاح حكم "طالبان" بشكل عام من فرص سياسية واقتصادية للدوحة.
2- مطلب دولي: يعد إعادة تشغيل مطار كابول مطلبًا دوليًا يحظى بأهمية لدى دول العالم، فهو بوابة أفغانستان الوحيدة للعالم الخارجي والمنفذ الوحيد للراغبين في مغادرة البلاد. ويهتم المجتمع الدولي بإعادة تشغيل المطار لإيصال المساعدات الإنسانية وتوفير فرص السفر ومغادرة أفغانستان لمواطني الدول الأخرى والعاملين في المنظمات الدولية ومنظمات التنمية الذين يشعرون بالخطر ويريدون المغادرة([4]). وقد كانت مسألة إدارة وتأمين مطار كابول من المسائل الهامة التي جرى مناقشتها قبل إتمام الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، وجرت في هذا الصدد مشاورات بين واشنطن وأنقرة حول العرض التركي المقدم لأداء تلك المهمة([5]).
وتأمل قطر من نجاح جهودها في تشغيل مطار كابول في تعزيز صورتها الدولية والترويج لقدراتها ونفوذها، مع توظيف اهتمام الدول الكبرى بمسألة مطار كابول، وتقديرها لجهود الدوحة في إعادة تشغيله، في تحقيق مكاسب سياسية في العلاقات القطرية مع تلك الدول، والتأكيد على دورها في الملف الأفغاني.
3- الصورة السياسية: بجانب العمل على ترسيخ الصور السياسية المتعلقة بالنفوذ والقدرات الدبلوماسية، فإن قطر تعمل على توظيف الجانب الإنساني في الأزمة الأفغانية ضمن أدواتها السياسية، وهو ما يتضح من تأكيدها المستمر على اهتمامها بالجوانب الإنسانية والمساعدات، وعلى أنها تساعد في تسهيل فتح ممرات إنسانية لدخول المساعدات إلى كابول والمطارات الأفغانية الأخرى. وقد أعلن السفير القطري في أفغانستان في 4 سبتمبر الجاري عن تمكن فريق تقني قطري من إعادة فتح مطار كابول لاستقبال الرحلات الجوية التي تنقل المساعدات الإنسانية إلى أفغانستان، على أن يكون المطار جاهزًا لاستئناف الرحلات المدنية الخارجية في وقت قريب([6]). واستطاعت قطر تحقيق نوع من الدعاية الإيجابية يضاهي ما تستهدف تحقيقه عبر ملايين الدولارات التي تُدفع إلى شركات العلاقات العامة([7]). وفي هذا السياق، عملت قطر أيضًا على تحسين ظروف انتظار الأفغان في قاعدة العديد الجوية الأمريكية بعد إجلائهم، حيث قامت ببناء مستشفى ميداني للطوارئ وملاجئ إضافية ودورات مياه محمولة، بالإضافة إلى توزيع وجبات غذائية، وتقديم 10 طائرات لنقل من تم إجلاؤهم من الدوحة إلى دول أخرى([8]).
جهود ترسيخ "قناة الدوحة" في الملف الأفغاني
لا يمكن فصل الدور الذي تمارسه قطر في عملية إعادة تشغيل مطار حامد كرزاى الدولي عن دورها العام في الملف الأفغاني، حيث تعمل على تثبيت دورها كوسيط قوي بين القوى الدولية وبين حركة "طالبان"، وعلى استثمار جهودها ورعايتها للأخيرة. كما أنها ترى أنها الأقدر على ممارسة الدور الأكبر في الملف الأفغاني وفقًا للمسار السياسي الذي شهدت العاصمة القطرية ولادته في المفاوضات التي جرى خلالها الاتفاق على الانسحاب الأمريكي من أفغانستان. وتسعى قطر إلى أن تُمثل قناة سياسية بين الدول الغربية وأفغانستان، أى تطوير مكتسبات "مفاوضات الدوحة" إلى ما يمكن تسميته بـ"قناة الدوحة"، وهو ما يمكن عبره تفسير نقل بعض الدول لسفاراتها من أفغانستان إلى قطر لتقوم بعملها من هناك في خطوة ذات إشارة على مدى التشابك بين البلدين ومدى الاتصال السياسي بين الدوحة وكابول في هذه اللحظة.
إذ قامت بعض الدول، مثل الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة وهولندا واليابان، بنقل سفاراتها من كابول إلى الدوحة التي تحولت إلى عاصمة مهمة للعمل الدبلوماسي الخاص بالتعاطي مع أفغانستان تحت حكم "طالبان"، وهو ما تسعى قطر إلى الحفاظ عليه وتعزيزه([9]).
وتعمل قطر كذلك على استثمار علاقاتها بالولايات المتحدة الأمريكية وحركة "طالبان" في تعزيز دورها في أفغانستان. وقد أرسلت، في 3 سبتمبر الجاري، إلى أفغانستان مطلق بن ماجد القحطاني، المبعوث القطري الخاص لوزير الخارجية لمكافحة الإرهاب والوساطة في حل النزاعات، لبحث سبل المضى قدمًا في تشكيل حكومة شاملة واستئناف العمليات في المطار([10]).
وبينما اتجهت الأنظار خلال الفترة الماضية إلى تركيا، حيث العرض الذي قدمته تركيا إلى الولايات المتحدة الأمريكية وحلف الناتو، بالقيام بحراسة وتشغيل مطار كابول مقابل شروط محددة([11])، فإن الدوحة بمشاركتها في الجهود التقنية لإعادة تشغيل مطار كابول استطاعت رسم دور لها في هذا الملف، خاصة أنها ولجت من الباب التقني والفني، بخلاف الجانب الأمني والعسكري الذي ركز عليه المقترح التركي وأثار حساسية حركة "طالبان" التي أعلنت رفضها للوجود العسكري التركي، والاقتصار على المسائل اللوجستية([12]).
وبعدما مارست قطر أدوارًا ملحوظة في عمليات المفاوضات والإجلاء وتشغيل المطار، فإن هذه التحركات، فضلًا عن علاقاتها بواشنطن و"طالبان"، تساعدها على ترسيخ قناعة لدى الأطراف الدولية بأهمية الاعتماد عليها كوسيط أو قناة دبلوماسية فيما يخص الملف الأفغاني، خاصة مع عدم اعتراف هذه الأطراف بحكم "طالبان" وعدم تفضيلها للتعامل المباشر الرسمي معها.
ختامًا، انخرطت قطر في جهود تقنية ومفاوضات سياسية أسفرت في النهاية عن تشغيل جزئي لمطار كابول مع الاستعداد للتوسع وتسيير الرحلات المدنية قريبًا وفق ما تسفر عنه اتفاقات التشغيل مع حركة "طالبان". وتضيف قطر بدورها في ملف المطار ورقة أخرى تحاول عبرها أن تؤكد على حضورها في الملف الأفغاني، وعلى الدور المهم الذي تسعى لممارسته في مرحلة حكم "طالبان" سواء على صعيد عمل الحركة وحكومتها داخل أفغانستان، أو بين الحركة والقوى الدولية على المستوى الخارجي. ومع ذلك، فإن هناك اتجاهًا بات يرى أن وصول "طالبان" إلى الحكم قد لا يتوافق، على المدى الطويل، مع مصالح الدوحة.
[2] أفغانستان: قطر تعمل مع "طالبان" لإعادة تشغيل مطار كابول في "أسرع وقت ممكن"، فرانس 24، 2 سبتمبر 2021، متاح عبر:
https://cutt.us/rEpf6
[4] انظر على سبيل المثال: ميركل: نتحدث مع قطر وتركيا بشأن استئناف عمل مطار كابل، روسيا اليوم، 31 أغسطس 2021، متاح عبر:
https://cutt.us/d2jCr
وانظر أيضًا: الخارجية الأمريكية تؤكد موقفها بشأن إعادة تشغيل مطار كابل، مصدر سبق ذكره.
[11] مسئولون: تركيا تعرض تشغيل مطار كابول بعد انسحاب حلف الأطلسي من أفغانستان، مصدر سبق ذكره.
[12] مصير مطار كابول في صلب محادثات دولية مكثفة، مصدر سبق ذكره.