تناول العديد من المحللين مسألة الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، وعودة حركة طالبان الي السلطة، من منظور العلاقات الدولية، والتنافس بين القوى العظمى في عالم متعدد الأقطاب. فالبعض رأى أن عودة طالبان جاءت بتخطيط من الولايات المتحدة الأمريكية بهدف زعزعة استقرار منطقة مجاورة لكل من الصين وروسيا وإيران، والبعض رأى أنها لا تزال تدعم حركات الإسلام السياسي للإبقاء على حالة عدم الاستقرار والاستقطاب السياسي في العالمين العربي والإسلامي. إلا أن الانسحاب الأمريكي من أفغانستان كان في جزء كبير منه استجابة لتحولات مهمة في الداخل الأمريكي في السنوات الأخيرة، وهى تحولات دفعت كلاً من دونالد ترامب خلال فترة رئاسته، وجو بايدن من بعده، إلى العمل على إنهاء التواجد العسكري الأمريكي في عدد من الصراعات الممتدة، وفي مقدمتها الحرب في أفغانستان، وهى أطول حرب شنتها الولايات المتحدة الأمريكية على الإطلاق، حيث امتد التواجد العسكري الأمريكي في أفغانستان لـ20 عاماً، وتكلف حوالي 2 تريليون دولار، وأدى إلى مقتل الآلاف على الجانبين.
نتائج متباينة
ويرى العديد من المحللين الأمريكيين أنه بالنسبة للرأى العام الأمريكي، فإن الهدف الرئيسي للحرب على أفغانستان قد تحقق منذ سنوات مع تدمير البنية التحتية لتنظيم القاعدة في أفغانستان ومقتل أسامة بن لادن عام 2011، أما أهداف بناء دولة ديمقراطية حديثة ومؤسسة عسكرية نظامية في أفغانستان فهى أهداف لم تحظ بتأييد واسع من قبل الرأى العام الأمريكي وأدت إلى تراجع التأييد الشعبي للعمليات العسكرية في أفغانستان. وقد كان تزايد الرفض الشعبي للتورط العسكري الأمريكي في دول مثل أفغانستان والعراق وسوريا من الأسباب التي ساهمت في صعود دونالد ترامب إلى السلطة عام 2016، حيث رأى قطاع كبير من الناخبين أن هذه الحروب البعيدة والممتدة تستنزف الأموال والأرواح الأمريكية دون أن تحقق أى أهداف واضحة للمواطن الأمريكي، خاصة مع تراجع اعتماد الولايات المتحدة الأمريكية على النفط العربي وبالتالي تراجع أهمية منطقة الشرق الأوسط للمصالح الأمريكية، وهو توجه بدأ يظهر في إدارة أوباما وتبلور بشكل واضح في برنامج ترامب الانتخابي وفي سياساته الخارجية خلال فترة رئاسته، حيث قام بإنهاء التواجد العسكري الأمريكي في سوريا وبدء عملية الانسحاب الكامل من العراق وأفغانستان. ودخل ترامب في مفاوضات مباشرة مع قادة طالبان، وتم إبرام اتفاقية تسمح بوقف إطلاق النار بين الطرفين وخروج القوات الأمريكية من أفغانستان بدون خسائر إضافية، وهو ما قد تحقق بالفعل في ظل إدارة بايدن.
ومن الملاحظ أن القوى الصاعدة داخل الحزبين الديمقراطي والجمهوري جعلت من قضية إنهاء العمليات العسكرية الأمريكية في الخارج جزءاً من برنامجها وأهدافها الأساسية. ففي إطار الحزب الجمهوري، قام تيار اليمين المتطرف بقيادة دونالد ترامب بانتقاد تيار المحافظين الجدد الذين قاموا بتوريط الولايات المتحدة الأمريكية في عدد من الصراعات تحت شعار محاربة الإرهاب ونشر الديمقراطية وحقوق الإنسان. ويتبنى أنصار اليمين المتطرف شعار "الولايات المتحدة الأمريكية أولاً" وهو شعار يشير إلى رفض المنظومة الليبرالية والعولمة والتمدد الأمريكي خارجياً على المستويات المختلفة السياسية والاقتصادية والعسكرية. وفي الحزب الديمقراطي، تصاعد في الانتخابات الأخيرة تيار اليسار بقيادة برني سندرز، وهو يطالب أيضاً بإنهاء التورط العسكري خارجياً واعتماد الأدوات الدبلوماسية والاقتصادية بديلاً لها. وانعكس ذلك على برامج المرشحين الرئاسيين في الانتخابات الأخيرة، حيث أكد ترامب على شعار "الولايات المتحدة الأمريكية أولاً" وعلى أهمية إنهاء الوجود العسكري الأمريكي في أفغانستان والعراق، بينما أكد بايدن في برنامجه الانتخابي على ضرورة إنهاء التورط العسكري الأمريكي في الحروب الأبدية، كما سماها، وتنشيط الأدوات الدبلوماسية في السياسة الخارجية الأمريكية. وتحقيقاً لوعوده الانتخابية، قام بايدن بتنفيذ الاتفاق الذي أبرمه ترامب مع طالبان وسحب القوات الأمريكية من أفغانستان بداية من أغسطس 2021.
أزمة سياسية داخلية
وبالرغم من التأييد الشعبي الواسع لقرار بايدن بسحب القوات الامريكية، إلا أن انهيار الحكومة والقوات العسكرية الأفغانية خلال أيام، وعودة حركة طالبان إلى الحكم، وحالة الفوضى التي صاحبت عملية إجلاء موظفي السفارة الأمريكية في كابول، تحولت إلى أزمة سياسية لإدارة بايدن. ويرى العديد من المحللين أن عملية الانسحاب تمت بشكل غير مدروس وغير منظم وأن تداعيات هذا الانسحاب ستعود بالسلب على إدارة بايدن وبالفعل يقوم خصومه السياسيون، رغم اتساق مواقفهم مع الإدارة في هذا الملف، بتوظيف هذه الأزمة لتصوير بايدن كرئيس مرتبك وضعيف.
ومع ذلك، فإنه ليس من المتوقع أن يكون للأزمة الحالية تأثير مهم على الانتخابات النيابية النصفية القادمة عام 2022، حيث تحتل السياسة الخارجية عامة، وأفغانستان خاصة، مرتبة متدنية في سلم اهتمامات الناخب الأمريكي.
تحولات الرأى العام الأمريكي تجاه الحرب في أفغانستان
وفقاً لاستطلاعات الرأى، فقد شهد التأييد الشعبي للتواجد العسكري الأمريكي في أفغانستان تراجعاً كبيراً في السنوات الأخيرة، خاصة منذ عام 2014، فالحرب على أفغانستان كانت في بداياتها عام 2001 عقب أحداث 11 سبتمبر، تحظى بتأييد شعبي واسع وصل إلى 93٪، وظل هذ التأييد يتجاوز الأغلبية حتى مقتل بن لادن عام 2011، ثم بدأ عدد من يرون أن الحرب على أفغانستان كانت خاطئة في التصاعد حتى تساوى عدد المؤيدين مع عدد الرافضين لأول مرة عام 2014، ثم انخفض التأييد لأدنى مستوياته عام 2021 توافقاً مع الانسحاب الأمريكي من أفغانستان. ومن الملاحظ أنه بالرغم من اتساقمواقف وسياسات إدارة بايدن مع إدارة ترامب فيما يخص الملف الأفغاني، إلا أن أنصار الحزب الجمهوري مازالوا الأكثر تأييداً للحرب على أفغانستان، حيث يرى 29٪ من الجمهوريين أنه كان من الخطأ إرسال قوات أمريكية إلى أفغانستان مقارنة بـ56٪ من الديمقراطيين و54٪ من المستقلين.
نسبة الأمريكيين الذين يرون أنه كان من الخطأ إرسال قوات أمريكية إلى أفغانستان
Source:https://news.gallup.com/poll/352793/americans-split-whether-afghanistan-war-mistake.aspx
وفيما يخص قرار الانسحاب العسكري الكامل من أفغانستان، فقد وصلت نسبة التأييد لهذا القرار إلى 70٪ من الأمريكيين في يوليو 2021، ثم انخفضت إلى 49٪ في أغسطس 2021، عقب تقدم قوات طالبان تجاه كابول وحالة الفوضى التي تلت عملية الانسحاب. إلا أنه في المجمل، فإن قطاعاً واسعاً من الرأى العام الأمريكي يظل مؤيداً لانسحاب القوات الأمريكية وفي أوساط الحزب الديمقراطي تصل النسبة إلى الثلثين.
نسبة الأمريكيين الذين يؤيدون قرار الانسحاب من أفغانستان منذ 1 يوليو 2021 وفقاً لأحدث الاستطلاعات المتاحة
Source:https://fivethirtyeight.com/features/afghanistan-has-fallen-to-the-taliban-how-will-americans-judge-bidens-decision-to-withdraw/
نسب تأييد قرار الانسحاب من أفغانستان وفقاً للانتماء الحزبي
Source:https://www.thechicagocouncil.org/commentary-and-analysis/blogs/us-public-supports-withdrawal-afghanistan
تداعيات قرار الانسحاب على شعبية بايدن والحزب الجمهوري
رغم الصخب الإعلامي المصاحب لعملية الانسحاب الأمريكي، والانطباع السائد بأن إدارة بايدن تواجه أزمة سياسية بسبب حالة الفوضى المصاحبة لعملية الانسحاب والصعود السريع لحركة طالبان، إلا أن العديد من المراقبين يرون أن هذه الأزمة ستزول بمجرد تراجع الاهتمام الإعلامي المصاحب لها، وأنها لن يكون لها تأثير على توجهات الناخبين في الانتخابية النصفية عام 2022 لسببين رئيسيين: أولاً، إن أنصار الحزب الديمقراطي والمستقلين يؤيدون بأغلبية كبيرة قرار الانسحاب بالرغم من تداعياته السلبية، وإن تنفيذ هذا القرار لن يؤثر بالسلب على توجهاتهم الانتخابية، بل ربما يعزز من شعبية الحزب الديمقراطي. وثانياً، إن السياسة الخارجية بشكل عام، والحرب على أفغانستان بشكل خاص، لا تحظى باهتمام كبير من قبل الناخب الأمريكي. ووفقاً لاستطلاع للناخبين عام ٢٠٢٠، فإن السياسة الخارجية تأتي في المرتبة السادسة في سلم اهتمامات الناخب الأمريكي، كما أن أفغانستان تمثل واحدة من عدة قضايا خارجية يهتم بها الناخب الأمريكي.([1])
وبشكل عام، فإن الحرب على أفغانستان لم تحظ باهتمام واسع من قبل الإعلام والرأى العام الأمريكي، ووفقاً لاستطلاع آخر تم في 2020، فإن 12٪ فقط من الأمريكيين قالوا إنهم يتابعون أخبار الوجود الأمريكي في أفغانستان.([2])ولكن من الممكن أن تتحول أفغانستان إلى قضية محورية على المدى المتوسط والبعيد في حالة واحدة وهى إعادة تمركز جماعات إسلامية متطرفة مثل "داعش" و"القاعدة" في أفغانستان مرة أخرى، وقيامها بشن هجمات إرهابية على أهداف أمريكية، وهو ما قد يعطي لهذه القضية وزناً أكبر في الانتخابات النيابية القادمة.
[1]https://www.brookings.edu/blog/order-from-chaos/2021/03/19/americans-are-not-unanimously-war-weary-on-afghanistan/
[2]https://www.nytimes.com/2021/04/15/us/politics/afghanistan-polling.html