لم يترك الانسحاب الأمريكي الدراماتيكي من أفغانستان، ومشاهد الأفغان الذين يتشبثون بعجلات وأجنحة الطائرة C-17 Globe master الأمريكية في مطار كابول، ثم يسقطون بشكل مأساوي من هيكلها السفلي وهي في الجو (في صورة قد تمثل صورة العام وربما العقد أو القرن)، أي شك في تراجع الثقة بالدور الأمريكي، وتضرر المكانة الأمريكية في العالم. هناك حوادث قريبة لذلك وقعت من قبل في فيتنام والصومال، لكن سياق الانسحاب الأمريكي من أفغانستان وكيفيته يشير إلى أبعد من مجرد هزيمة وانسحاب عسكري، وإنما قد يؤشر لانتهاء عصر من الهيمنة والمكانة والدور، وقد يجري التأريخ له لاحقاً باعتباره المحطة الكبرى الفارقة بين العصر الأمريكي والعصر الصيني.
هناك جوانب أربعة لتراجع الثقة بالولايات المتحدة الأمريكية بعد الانسحاب من أفغانستان:
1- تراجع الثقة في التقارير والاستراتيجيات الأمريكية: فلقد تأسس الموقف الأمريكي من غزو أفغانستان عام 2001 على دراسات وتقارير واستراتيجيات قام على صياغتها أجهزة ومراكز أبحاث وتقارير حزبية ومجموعات تفكير ومهام ولوبيات. وهناك عشرات التقارير التي نظّرت لاستراتيجيات وأهداف الغزو الأمريكي لكل من أفغانستان والعراق، ومن تلك التقارير من حظى بأصداء واسعة، ولكن تبين مع السنين أن كثيراً منها لم يكن سوى انحيازات للنموذج الأمريكي، وافتقد الدراسة الجادة لطبيعة المجتمعات الأخرى.
وكان لافتاً قبل أيام معدودة من الانسحاب من أفغانستان، أن يفشل الرئيس الأمريكي جو بايدن نفسه في تقدير توقع سقوط أفغانستان بيد طالبان، وأن يفشل ثانية حين دعا قيادة الجيش الأفغاني إلى "القتال من أجل أنفسهم ومن أجل أمتهم"، في دعوة إلى الحرب الأهلية، وكان مثيراً أن تتبنى وزارة الدفاع (البنتاجون) منطق الرئيس نفسه، ففي المؤتمرات الصحفية الثمانية التي عقدها المتحدث باسم الوزارة جون كيربي بين 12 يوليو و13 أغسطس 2021، استخدم كلمة "قيادة" أفغانستان 40 مرة، وذلك في الوقت الذي زاد عدد المناطق التي تسيطر عليها طالبان في الفترة الزمنية نفسها من 216 إلى 265، واستولت الجماعة على 25 من عواصم المقاطعات البالغ عددها 34 مقاطعة أفغانية([1])، مما يعني أن الرئيس ووزارة الدفاع لم يكونا على علم بأن المؤسسات التي بنتها بلادهم على مدى 20 عاماً في أفغانستان لم تكن سوى كيانات هلامية. ويؤكد ذلك أن الدراسات والتقارير والاستراتيجيات، لم تستطع أن تتجنب الانحياز والتفكير البعيد عن الواقع.
2- تراجع الثقة في المظلة الأمريكية العسكرية والأمنية: ظلت المظلة العسكرية والأمنية التي قدمتها الولايات المتحدة الأمريكية لحلفائها على مدى العقود، أهم عنصر ثقة في الدور الأمريكي عالمياً. ولقد تعددت مستويات هذه المظلة، بدءاً برابطة حلف الأطلسي، الذي يمثل مركز الدائرة الأمنية الغربية، ومروراً بالمظلة الأمنية الأمريكية لليابان وكوريا الجنوبية وتايوان، ثم إسرائيل، ثم روابط أمنية وعسكرية خاصة مع الدول التي خضعت للغزو (العراق وأفغانستان)، ثم ارتباطات أمنية مختلفة مع دول حليفة. وهذه المستويات جميعها للروابط الأمنية الأمريكية أصبحت بعد أفغانستان محل شك وتراجع ثقة.
وعلى غرار نظرية الدومينو الديمقراطي، يتخوف البعض الآن من أن يحدث دومينو عكسي، يتمثل في سقوط متعدد لحلفاء الولايات المتحدة الأمريكية، على أثر كابولوأفغانستان، التي قد لا تكون قطعة الدومينو الأخيرة التي تسقط في العالم، حيث ستتردد توابع الانسحاب الأمريكي لبعض الوقت([2]).وهنا يشير البعض إلى أن "سقوط أفغانستان ستكون له تداعيات مؤلمة على التصورات حول فعالية القوة والقيادة الأمريكية، وذلك ما يتضح من تسليط الأنظار مباشرة على تايوان، فتساءل فرانز جيل في "جلوبال تايمز" في عنوان مقالته: "باستخدام أفغانستان كمثال.. هل ستكون معاملة الولايات المتحدة لجزيرة تايوان مختلفة"([3])، كما تساءل كاتب عراقي مهم في اليوم التالي لسقوط كابول، على صدر الصفحة الأولى لصحيفة الزمان العراقية: "ما الذي يمنع أمريكا، وهي تنسحب من العراق، أن تفعل ما فعلته في أفغانستان، فتتفق مع داعش للسيطرة على العراق، مع ضمان سيطرتها على النفط؟"([4]). صحيح أن وضع العراق يختلف كثيراً عن أفغانستان، ولكن هذا يعكس نوعية التفكير والمخاطر التي تطرحها العقول وتستشعرها الدول -المرتبطة بالولايات المتحدة الأمريكية- في مثل هذه اللحظات. بل وصل الأمر إلى تشكك حلفاء واشنطن الأطلسيين؛ فأشار عدد من الدبلوماسيين السابقين للمملكة المتحدة إلى أن طريقة تعامل الرئيس بايدن مع الانسحاب من أفغانستان تهدد بتدهور العلاقات بين الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا إلى أدنى مستوياتها منذ 25 عاما([5]).
3- تراجع الثقة في النموذج الأمريكي والديمقراطية: فمن المقولات التي راجت في غضون الغزو الأمريكي لأفغانستان ثم العراق، المجادلات التي طرحها منظرونظرية الدومينو الديمقراطي، والذين أشاروا إلى أنه إذا أطاحت الولايات المتحدة الأمريكية بالأنظمة الاستبدادية، وأنشأت نظاماً ديمقراطياً موالياً للغرب فيها، فإن ذلك سيجعل الأنظمة الاستبدادية الأخرى تسقط مثل قطع الدومينو، ولقد طُرحت هذه النظريةباعتبارها التبرير الأساسي للحرب، خاصة من جانب المحافظين الجدد في ظل إدارة الرئيس الأسبق جورج دبليو بوش([6]). والآن مع سقوط أفغانستان، يتأكد أن هذه الأفكار لم تكن سوى أمنيات كارثية، تمامًا كما حدث قبل 40 عاماً في فيتنام([7]).
وبعد يوم من سيطرة طالبان على العاصمة الأفغانية،أصدرت الصين تحذيراً خفياً للأصوات المؤيدة للديمقراطية في هونغ كونغ؛ حيث أشارت صحيفة "جلوبال تايمز"، الناطقة بلسان الصين، إلى الوضع الحالي في أفغانستان، داعية نشطاء الديمقراطية في هونغ كونغ إلى عدم الالتفات إلى الولايات المتحدة.الأمريكية وأكد تعليق الصحيفة أن "أياً كان من يدعي السياسيون الأمريكيون الوقوف معه، سيواجهون سوء الحظ .. ويعانون من عواقب وخيمة"([8]).ويرتبط بذلك تراجع الثقة بما سمى بتحالف الديمقراطيات، وفتح الباب لعودة المقولات حول الانتهازية الأخلاقية والإمبريالية الأمريكية، التي غزت الدول تحت ذرائع التهديد الوجودي الراديكالي للحضارة الغربية، ثم تركتها مفككة ومنهارة.
4- تراجع الثقة في العمليات الأمريكية لإعادة بناء الدول: كان أهم ما ارتبط بنموذج الغزو الأمريكي لأفغانستان والعراق هو أنه كان نموذجاً للاحتلال والحكم ولإعادة بناء الدولة؛ فلم تنته علاقة الولايات المتحدة الأمريكية بهذه الدول عند حد حرب أمريكية لإسقاط النظام، بمناصرة قوى اجتماعية أو مجموعات طائفية أو قبلية، وإنما أعقب الغزو وسقوط النظام عملية تفكيك داخلي شامل، بهدف إعادة البناء الوطني الجديد بإشراف أمريكي، لعبت فيها شركات المقاولات المتخصصة والفنيون والتكنوقراط الأمريكيون دوراً كبيراً مقابل نفقات باهظة، مع تشييد نموذج للحكم جرى الاستثمار فيه لسنوات طويلة؛ فتم وضع دستور وطني جديد، وبناء نظام حكم قائم على المحاصصات الطائفية والقبلية، أحياناً بحاكم أمريكي مباشر على نحو ما حدث في العراق (بول بريمر)، وأحياناً من خلال شخصيات وطنية كما حدث في أفغانستان (حامد كرزاي، الذي تولى منصب رئیس جمهورية أفغانستان، منذ 22 ديسمر 2001، إلى أن خلفه أشرف غني في 29 سبتمبر 2014).
هذه العملية بكاملها تبين أنها لم تكن سوى غطاءات مصطنعة على واقع مجتمعات، لم تتغير كثيراً بولاءاتها القبلية والاجتماعية، وهى الولاءات التي اضطرت لأن تدفن رؤوسها مدة 20 عاماً مستفيدة بالمكاسب، لكن ما أن توافرت لها الفرصة للعودة لماضيها حتى عادت سريعاً، ومن ثم فشل الرهان على التغيير الاجتماعي القسري، وفشلت عملية بناء جيش وطني حديث على غرار الجيش الأمريكي، بعد أن أنفقت الولايات المتحدة الأمريكية عليه ما يزيد على 80 مليار دولار([9])، والأمر نفسه لفت إليه مقال لكاتب عراقي، نشر قبل أيام، أشار إلى واقع المؤسسة الأمنية والعسكرية العراقية، وسلط الضوء على جوانب تشابه مختلفة مع تأسيس الجيش الأفغاني([10]). ويثير الانتباه أن يتلاشى جيش قوامه يزيد على 300 ألف، أمام جماعة قوامها 70 ألفاً، ما يطرح علامات استفهام كبيرة بشأن عمليات الفساد والكذب ومخادعات الذات([11]). فوفق المفتش العام في هيئة إعادة إعمار أفغانستان (سيغار) جون سوبكو، فإنه في كل مرة حاول فيها إعداد تقييم للجيش الأفغاني "كان الجيش الأمريكي يغيّر المعايير، ويجعل إظهار النجاح أسهل، وعندما لم يعد بإمكانهم القيام حتى بذلك، صنّفوا وسيلة التقييم سرية"([12]).
إجمالاً، يصعب القياس أو التحديد الحصري لنتائج الانسحاب من أفغانستان على حجم تراجع الثقة بالولايات المتحدة الأمريكية، ذلك أن نتائج وتبعات ما جرى سوف تستمر تتكشف لفترة مقبلة، وقد يجري التأريخ للانسحاب الأمريكي من أفغانستان، على أنه كان بداية لانتهاء العصر الأمريكي وبداية العصر الصيني، وعلامة فارقة نحو نظام دولي جديد ونموذج جديد للقوة الدولية.
[1]-Ryan Heath, What Biden lost in Afghanistan, Politico, 08/16/2021. https://www.politico.com/newsletters/politico-nightly/2021/08/16/what-biden-lost-in-afghanistan-493977
[2]- Derek Miller, Opinion: Afghanistan’s fall may trigger other dominoes, Ng Han Guan, Associated Press, Deseret News, Aug 19, 2021. https://www.deseret.com/opinion/2021/8/19/22633283/afghanistan-taliban-dominoes-america-return-to-basic-values
[3]- Franz Gayl, Using Afghanistan as a guide, will US treatment of Taiwan island be any different?, Global Times, Aug 16, 2021. https://www.globaltimes.cn/page/202108/1231566.shtml
[4]- محسن حسين، سؤال بريء، صحيفة الزمان العراقية 17/8/2021.
https://www.azzaman.com/%D8%B3%D8%A4%D8%A7%D9%84-%D8%A8%D8%B1%D9%8A%D8%A1-%D9%85%D8%AD%D8%B3%D9%86-%D8%AD%D8%B3%D9%8A%D9%86-2/
[5]- سفراء بريطانيون: تعامل بايدن مع الانسحاب من أفغانستان يهدد بتدهور العلاقات بين البلدين، RT، 20/8/2021.
https://arabic.rt.com/world/1264316-%D8%B3%D9%81%D8%B1%D8%A7%D8%A1-%D8%A8%D8%B1%D9%8A%D8%B7%D8%A7%D9%86%D9%8A%D9%88%D9%86-%D8%AA%D8%B9%D8%A7%D9%85%D9%84-%D8%A8%D8%A7%D9%8A%D8%AF%D9%86-%D9%85%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%86%D8%B3%D8%AD%D8%A7%D8%A8-%D9%85%D9%86-%D8%A3%D9%81%D8%BA%D8%A7%D9%86%D8%B3%D8%AA%D8%A7%D9%86-%D9%8A%D9%87%D8%AF%D8%AF-%D8%A8%D8%AA%D8%AF%D9%87%D9%88%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%84%D8%A7%D9%82%D8%A7%D8%AA-%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D8%A8%D9%84%D9%84%D8%AF%D9%8A%D9%86/
[6]- Ronald Brownstein, Still a Few Dots to Connect in Iraq Domino Theory , Los Angeles Times, 23 sep 2002. https://www.latimes.com/archives/la-xpm-2002-sep-23-na-outlook23-story.html
[7]- Matt Bai, Both parties failed on Afghanistan — in entirely different ways, The Washington Post, August 17, 2021. https://www.washingtonpost.com/opinions/2021/08/17/both-parties-failed-afghanistan-entirely-different-ways/
[8]- Chinese Mouthpiece Warns Hong Kong Over US Ties; Cites Taliban's Takeover Of Afghanistan, 16/8/ 2021. https://www.republicworld.com/world-news/china/chinese-mouthpiece-warns-hong-kong-over-us-ties-cites-talibans-takeover-of-afghanistan.html
[9]- ما أسباب الانهيار السريع للجيش الأفغاني أمام طالبان؟، فرنس 24، 17/8/2021.
https://www.france24.com/ar/%D8%A2%D8%B3%D9%8A%D8%A7/20210817-%D9%85%D8%A7-%D8%A3%D8%B3%D8%A8%D8%A7%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%86%D9%87%D9%8A%D8%A7%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D8%B1%D8%A7%D9%85%D8%A7%D8%AA%D9%8A%D9%83%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%B1%D9%8A%D8%B9-%D9%84%D9%84%D8%AC%D9%8A%D8%B4-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%81%D8%BA%D8%A7%D9%86%D9%8A-%D8%A3%D9%85%D8%A7%D9%85-%D8%B7%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%A7%D9%86
[10]- عماد علوّ، ملاحظات على الأسس الدستورية: تنظيم المؤسسة العسكرية والأمنية، صحيفة الزمان العراقية، 19 أغسطس 2021.
https://www.azzaman.com/%D8%AA%D9%86%D8%B8%D9%8A%D9%85-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%A4%D8%B3%D9%91%D8%B3%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B3%D9%83%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%85%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D8%B9/
[11]- ما أسباب الانهيار السريع للجيش الأفغاني أمام طالبان؟، مرجع سابق.
[12]- "الاختفاء المريب".. كيف تسببت أمريكا في انهيار الجيش الأفغاني؟، العين الإخبارية، 16/8/2021.
https://al-ain.com/article/how-did-america-cause-the-collapse-of-the-afghan-army