رابحة سيف علام

خبيرة - مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية

بعد مرور عام كامل على انفجار مرفأ بيروت، لا يزال لبنان يعبر من نفق دقيق نحو المجهول. هز الانفجار الكيان اللبناني بأكمله وأودى بحياة حوالي 200 ضحية وأصاب نحو 6500 آخرين وخلّف نحو 300 مفقوداً. كما هدم الانفجار عدة مستشفيات بالكامل وطال بدماره الآلاف من المساكن والمباني بما أدى إلى تشريد نحو ربع مليون من سكان بيروت. غير أن تداعياته اللاحقة كانت أشد تدميراً، إذ أصابت شظايا الانفجار شرعية النظام اللبناني ككل في مقتل وفككت تحالفات نخبته الحاكمة وكشفت نواقص دعاياتها السياسية وأظهرت مدى تدني الثقة المحلية والدولية بها.  

انعكس ذلك كله في الذكرى الأولى للانفجار في 4 أغسطس الجاري (2021)، حيث بدأ التحرك الشعبي للبنانيين من القصر العدلي إلى موقع الانفجار دعماً للمحقق العدلي واستقلال القضاء في مواجهة النخب السياسية التي تخشى رفع الحصانة عن النواب. ورفعت المسيرات صور ضحايا الانفجار، وخاصة ضحايا الدفاع المدني وقوى الأمن والعسكريين الذين سقطوا أثناء مقاومة الحريق الأول الذي اندلع في الميناء قبل الانفجار بدقائق. وتحركت المسيرات بقيادة نقابية من المحامين والمهندسين وبها شرائح مختلفة من الشعب، فيما أعلن الجيش عن ضبط سلاح وذخائر بحوزة مجموعات كانت تتوجه للمشاركة فيها.

صدمة الانفجار

لم يكن لبنان بأفضل حال قبل الانفجار، إذ كانت الأزمة الاقتصادية في أوجها والليرة اللبنانية فاقدة لأكثر من 60% من قيمتها أمام الدولار والحكومة التي شكلها فريق 8 آذار من لون واحد برئاسة حسّان دياب تصارع من أجل كسب الثقة الدولية للحصول على مساعدات عاجلة لانقاذ الاقتصاد. ولكن انفجار المرفأ أتى على ما تبقى من شرعية هذه الحكومة، فالأجهزة الحكومية التي بادرت للتفاعل مع تداعيات الانفجار كانت محدودة للغاية وتمثلت بالأساس بالدفاع المدني والجيش، فيما غابت بقية أقطاب الحكومة مما كشف عن محدودية قدراتها وفشلها في التعامل مع أزمة بهذا القدر من الخطورة. تسبب الانفجار في اندلاع غضب شعبي كبير تمثل في مظاهرات حاشدة استمرت عدة أيام وشابها مشاحنات وتقاذف للحجارة مع حرس المؤسسات السياسية والشباب الغاضب، مما مهد بعد أيام قليلة إلى استقالة حسّان دياب ليؤكد فشل حكومته في إدارة أزمة الاقتصاد المزمنة وأزمة انفجار المرفأ الطارئة.

استدعى الانفجار اهتمام العالم الذي التفت إلى حجم الدمار وحجم المأزق الذي يمر به لبنان منذ شهور سبقت الانفجار. فزار زعماء العالم موقع الانفجار لإظهار تضامنهم مع الشعب اللبناني وحرصوا في المقابل على إبداء عدم ثقتهم بنخبته الحاكمة، وانعكس ذلك على حجم وشكل المساعدات الدولية التي حشدها العالم للبنان، إذ كانت بالأساس مساعدات عينية قُدمت للجيش ومؤسسات المجتمع المدني فقط أو جرى توزيعها عبر المؤسسات الإغاثية الأممية، فيما أتت فرق إنقاذ من عدة دول بمعدات احترافية للمساعدة في رفع الركام والبحث عن ناجين أو مفقودين.

حقائق كشفها الانفجار

كشفت حالة الحراك الشعبي الغاضب التي أعقبت الانفجار عن عدة ملامح للمشهد اللبناني الجديد. فقد بدا ظاهراً للعيان أكثر فأكثر انصراف شرائح واسعة من الشعب عن نخبته الطائفية التقليدية وانتظامه في تكتلات وتحالفات جديدة فرضها الحدث، حيث تكتلت القوى الناشطة في حراك 17 أكتوبر 2019 لجمع المساعدات الإغاثية للأسر المتضررة من الانفجار. كما نشأت حالة عفوية من التعاضد الشعبي العابر للطوائف بالتوازي مع حالة الغضب والحنق على صناع القرار والمسئولين الرسميين. كان الشعب، بأغلب طوائفه، يعاني في الأصل من وطأة الأزمة الاقتصادية بسبب تدهور الاقتصاد ووباء كورونا، فيما كانت بعض الآمال قد تجددت بقدوم موسم الصيف وما قد يحمله من عودة المغتربين وبعض الحركة السياحية لتعويض خسائر الإغلاق بسبب الوباء. غير أن الانفجار قد قضى تماماً على هذه الآمال، بل وأضاف الكثير من الخسائر سواء البشرية أو في البنية التحتية الاقتصادية والسياحية. وفيما كانت شرائح واسعة من السُنة والشيعة قد ذاقت بالفعل هذه الخسائر الاقتصادية قبل الانفجار، فقد مس الانفجار مصالح شريحة واسعة من مسيحيي الطبقة الوسطى في محيط منطقة المرفأ الذين فقدوا كل مايملكون من ثروة عقارية سواء تأويهم كالمنازل أو يتربحون منها كالفنادق الصغيرة أو المقاهي والمطاعم وغيرها من المصالح الخاصة. وبالتالي أدخل هذا الانفجار شرائح جديدة إلى حلقة الحراك الشعبي المعارض للنخبة الحاكمة.

في المقابل، تكوّنت لدى المجتمع الدولى قناعة راسخة باستحالة الوصول إلى اتفاق بين المؤسسات المالية الدولية، وفي مقدمتها صندوق النقد الدولي، وبين الحكومة القائمة أو أى حكومة قادمة على المعايير اللبنانية نفسها الراسخة من المحاصصة والمحسوبية. ولذا قامت المساعي الدولية، وفي مقدمتها مبادرة الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، على تأمين النصاب لتشكيل حكومة بديلة تتشكل من خبراء لاستلام مهام إعادة هيكلة وإصلاح الجهاز الحكومي وإعداد خطة اصلاح اقتصادية يرضى عنها المانحون وبالتالي يباشرون في تقديم دعمهم الموعود.

 وما كان مؤتمر الداعمين الدوليين لإغاثة الشعب اللبناني، والذي عقد برعاية فرنسية بعد أيام قليلة من الانفجار، إلا خطوة أولى ضمن سلسلة خطوات أعدتها فرنسا لمساعدة لبنان للخروج من عثرته. غير أن تمسك النخبة السياسية بمصالحها الضيقة أعاق التقدم في الخطوات المرسومة لدعم لبنان، وهو ما جدد الرئيس ماكرون ذكره في مؤتمر المانحين لمساعدة لبنان الذي انعقد بعد عام في ذكرى انفجار المرفأ موجهاً حديثه لرئيس الجمهورية ميشال عون وسائر الطبقة السياسية اللبنانية.

من جهة ثانية، كان سبب الانفجار في البداية شبه مجهول، إذ راجت روايات القصف الإسرائيلي لبعض الوقت حتى بدأت تتكشف قصة شحنة نيترات الأمونيوم التي صودرت في المرفأ عام 2013 من سفينة قادمة من جورجيا إلى موزمبيق وتأخرت في دفع مستحقات الرسو بالمرفأ. إذ تم تناقل رواية الإهمال الشديد الذي أفضى إلى هذه الكارثة، ثم تداعت أسماء كل المسئولين الذين كانوا على علم بتخزين هذه الشحنة الخطرة في منطقة مأهولة بالسكان، فضلاً عن تقاسم المستودع نفسه مع شحنة أخرى للمفرقعات والألعاب النارية.

تناقلت المظاهرات الغاضبة رواية الإهمال الجسيم لبعض الوقت حتى برزت رواية أخرى تفيد بأن الانفجار الذي حدث رغم شدته البالغة، إلا أنه لا يرقى أن يكون قد حدث بكامل الشحنة المثبتة في وثائق مصادرة شحنة السفينة المذكورة- حوالي 2750 طن- ولذا فلابد أن حجم الشحنة كان ينخفض تدريجياً بما يعني أن هناك من كان على علم بوجودها بل يقتطع منها ليستفيد بها إما بيعاً أو استخداماً مباشراً في أعمال تفجيرية أو قتالية لما للنيترات من خصائص تفجيرية هائلة، وهو ما نقل الرواية من مجرد إهمال جسيم إلى تخزين متعمد من أجل التربح أو التوظيف الاستراتيجي في الأعمال القتالية التي لابد أنها جرت في ميدان حرب قريب من لبنان، أى في سوريا.

من هنا، بدا أن المستفيد النهائي من تخزين هذه الشحنة والتلكؤ في تصريفها أو إجراء مزاد علني لإعادة بيعها -كما تجري العادة وينص القانون- هو بالتبعية حزب الله المنخرط في الحرب السورية تحديداً منذ عام 2013. إذ برر حزب الله انخراطه العسكري في سوريا بحماية أمن لبنان قبل أن تصل الفوضى إليه. لكن رغم انتصار معسكر نظام الأسد في سوريا، بمؤازرة حزب الله ومن ورائه إيران وروسيا، غير أن ذلك لم يُجنِّب لبنان مخاطر الحرب ولم يوفر له الحماية بل أتى بعين الخطر إلى قلب عاصمته وأتى على مينائه بالكامل في ظرف دقائق معدودة.

وعلى ضوء ذلك، بدأ على نطاق واسع تداول مقولة أن الحزب لا يحمي لبنان كما يدعي ولكنه يجلب له الخطر ويتهاون في أرواح مواطنيه. ويذكر أن الحراك الشعبي الذي بدأ منذ اكتوبر 2019 كان متفقاً على المطالب المعيشية ولكنه كان منقسماً بشكل عميق حول الموقف من حزب الله وسلاح المقاومة ومدى إدراج الأمين العام للحزب حسن نصرالله في الشعار الشهير "كُلن يعني كُلن"، وهل يقع عليه ما يقع على غيره من الزعماء صفة الفساد والتآمر على مصلحة المواطنين أم لا.

مسار التحقيق في أسباب الأزمة

كان الانفجار- الذي جاء بالتزامن مع الإعلان عن أحكام المحكمة الدولية لاغتيال رفيق الحريري- مناسبة لإعادة الاستقطابات السياسية على خطوط تماس فريقي 8 و14 آذار. إذ تمسك الفريق الثاني بضرورة إجراء تحقيق دولي للوقوف على الأسباب الحقيقية للانفجار والمتورطين فيها ومن يقف ورائهم - ويقصد حزب الله- واعتبر أن التحقيق الوطني سيكون مسيساً وغير مستقل ولن يؤدي إلى إرسال المتورطين إلى العدالة بل قد يساعد في التغطية على مسئوليتهم. فيما رفض الفريق الأول أى تحقيق دولي في أسباب الانفجار باعتباره مسألة سيادية تمس أمن البلاد، واكتفى بقبول الدعم الفني لمحققين أجانب في مجريات التحقيق الوطني الذي يقوده القضاء العدلي. بينما استبعد الحراك الشعبي التحقيق الدولي لما تكلفته محكمة اغتيال رفيق الحريري من مبالغ طائلة، ثم أدانت أحد أعضاء حزب الله ولم تتوصل إلى أدلة موثوقة لإثبات تورط الحزب كمؤسسة ومن ورائه نظام الأسد في هذا الاغتيال. وبالتالي كانت مسألة التحقيق الدولي مُكلِّفة للغاية وبلا طائل في عين الكثيرين، وبدا أن القضاء اللبناني سيفي بمتطلبات التحقيق في هذا الشأن إذا ما تم دعمه للقيام بدوره المناط به.

تولى ملف التحقيق في انفجار المرفأ في البداية المحقق العدلي فادي صوان، إذ أمر باحتجاز عدد من المسئولين المباشرين عن أمن المرفأ ممن أثبتت الوثائق الخاصة بشحنة نترات الأمونيوم علمهم بوجودها وتخزينها بالمرفأ لسنوات طويلة. ثم ما لبث أن أصدر، في 10 ديسمبر الماضي، لائحة اتهام تطال عدداً من السياسيين الذين شغلوا مناصب وزارية خلال هذه الفترة وهم رئيس الحكومة المستقيلة حسّان دياب وثلاثة وزراء شغلوا حقيبتى المالية (علي حسن خليل) والأشغال العامة (غازي زعيتر ويوسف فنيانوس) خلال فترة تخزين الشحنة بالميناء، وكلهم مقربون من حزب الله، وهو ما أثار عاصفة من الغضب في أوساط النخبة السياسية التي أصبحت مهددة بإجراءات قضائية عقابية تنتقص من شرعيتها القانونية وليس فقط شرعيتها السياسية، إذ اعتبرت أن استدعاء نواب ووزراء للتحقيق أمام القضاء العدلي أمر غير دستوري لما يتمتعون به من حصانة، الأمر الذي أدى فيما بعد إلى إعفاء المحقق صوان من التحقيق في قضية المرفأ وتحويلها إلى محقق آخر في 18 فبراير الماضي.

تولى المحقق طارق البيطار قضية المرفأ وبدأ التحقيقات من الصفر مرة أخرى، وذلك بتعقب خيوط المسئولين الذين نما إلى علمهم وجود شحنة النترات في المرفأ ولم يتخذوا ما يلزم من إجراءات للتخلص منها. فقادته التحقيقات بعد نحو خمسة أشهر إلى الأسماء نفسها التي استدعاها المحقق السابق للمثول أمام القضاء العدلي، مضافاً إليها وزير الداخلية السابق من تيار المستقبل نهاد المشنوق، ومدير الأمن العام الحالي عباس إبراهيم، وقائد الجيش السابق العماد جان قهوجي، وقائد جهاز أمن الدولة اللواء طوني صليبا، فتجددت الأزمة السياسية الخاصة بالتحقيق في الانفجار مرة أخرى، لاسيما أن الكتل النيابية دافعت عن نوابها ووزرائها وماطلت في رفع الحصانات تمهيداً لمثولهم للتحقيق الفعلي، بينما يدعى الجميع بأنهم تحت القانون ومتعاونون مع القضاء للوصول إلى المتورطين في الانفجار.

وفي المقابل، وقّع عدد من نواب حزب الله وحركة أمل وتيار المستقبل وتيار المردة على عريضة تطالب بتحويل ملف القضية إلى مجلس محاكمة الرؤساء والوزراء، وهو مجلس قضائي سياسي يتم تشكيله من نواب وقضاة للنظر في القضايا التي يتورط بها مسئولون من درجة الرؤساء والوزراء في القضايا السياسية مثل خرق الدستور والخيانة العظمى. ورغم أن هذا المجلس قد نص عليه في الدستور بعد اتفاق الطائف، إلا أنه لم يُفعَّل منذ ذلك الحين، فضلاً عن أن تشكيله- الذي يضم سياسيين إلى جانب قضاة- سيكون كفيلاً بتسييس التحقيق ويقلل من حياديته.

وقد تمسك القاضي البيطار بطلب رفع الحصانة عن النواب المطلوبين للتحقيق، فيما رفض مجلس النواب رفع الحصانة بدعوى ضعف الأدلة المقدمة، بينما رفض القاضي في المقابل الإفصاح عن أدلة إضافية لسرية التحقيقات، مما عمّق الأزمة وعطّل إجراءات تقدم التحقيقات، فيما يدرس مجلس النواب حالياً رفع الحصانات عن النواب بالفعل مع التمسك بتحويل القضية برمتها للمجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء وسحبها من القضاء العدلي. إذ اقترح رئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري رفع حصانات جميع النواب، فيما وضع رئيس الجمهورية ميشال عون نفسه تحت تصرف القاضي المحقق العدلي في محاولة لإنكار مسئولية كل منهما عن حماية نواب كتلهم من المثول أمام القضاء العدلي.

ويذكر أن تنازع الاختصاص بين القضاء العدلي والمجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والنواب مبني على نصوص تجيز لكليهما التحقيق في القضية، ولكن يرى المراقبون أن السوابق التاريخية تجعل للقضاء العدلي الغلبة، إذ لم يتم تفعيل مجلس محاكمة الرؤساء والوزراء من قبل. في حين أن القضاء العدلي مختص وله صفة الاستقلال التام عن سلطة السياسيين، إذ يُخشى أن يؤدي فتح المجال لتشكيل المجلس المذكور إلى المزيد من التسييس وفتح الباب أمام "تمييع" التحقيق والإفلات من العقاب، خاصة أن تحويل القضية في البداية كان للقضاء العدلي فلما تبين للأخير أن المتورطين من درجة الرؤساء والوزراء، آثر النواب التحول إلى مجلس خاص وليس القضاء الأصيل الذي ينظر في القضية، فبدا أن هوية المتهمين تُحرِّك مجريات نظر القضية من قضاء إلى آخر وليس محل الجرم الواقع والمطلوب النظر به.

رحلة البحث عن حكومة

تعددت محاولات تشكيل الحكومة بعد استقالة حكومة حسّان دياب، وهو الأمر الذي شابه العديد من العقبات واستهلك الكثير من الوقت طوال العام المنصرم. إذ استغرق الاتفاق على تسمية رئيس حكومة آخر نحو شهر، حيث تم في البداية تكليف السفير السابق مصطفى أديب بتشكيل حكومة مختصين لإعداد الخطة الإصلاحية وتسلم المساعدات الدولية الكبيرة التي رُصدت للبنان بعد الانفجار مباشرة. وقد استغرق أديب المهلة المحددة في محاولات إقناع الكتل البرلمانية بتشكيلته الحكومية ولكنه تعثر بعقدة تمسك النواب الشيعة بحقيبة المالية، مما أدى الىي اعتذاره بعد حوالي شهر من تكليفه. ثم استغرق الاتفاق على تسمية سعد الحريري رئيساً للحكومة شهراً آخر، وبالتالي بدأ مشاورات تشكيل الحكومة بنهاية شهر أكتوبر 2020. ولم تفلح محاولاته العديدة للتشاور مع رئيس الجمهورية في تخطي عقبات كثيرة ساقها المُعطِّلون لعرقلة تشكيل الحكومة. إذ كان الخلاف في البداية حول هوية الوزراء سياسيين أم تكنوقراط، ثم تم الاتفاق على التشكيلة المختلطة، ثم انتقل الخلاف على حجم الحكومة وذلك لمراعاة التناسب بين تمثيل أغلب الكتل النيابية والحفاظ على الصفة التقشفية من حيث العدد، فتم التنازع بين خيار 18 أم 20 وصولاً إلى 24 وزيراً، ثم ما لبث النزاع أن انتقل إلى عدد الوزراء الممثلين لكل كتلة، حيث تمسك التيار الوطني الحر بحصة وزراء ترقى إلى ثُلث الحكومة بدعوى تمثيل الرئيس وأيضاً تمثيل الكتلة العددية الأكبر بالبرلمان، وهو ما اصطدم برغبة الحريري في ضمان بقاء الحكومة ومنع ارتهانها لأى طرف يكون قادراً على تعطيل قرارها أو إسقاطها متى شاء، لأن من يملك الثُلث يستطيع التحكم في قرار الحكومة ويسقطها إذا ما استقال.

ومن هنا، تجددت الأزمة الحكومية بعد رفض الرئيس عون عدة تشكيلات مقترحة من الحريري، وتوجيهه خطاب إلى مجلس النواب في 18 مايو الماضي – أى بعد انقضاء سبعة أشهر على التكليف- يعلن فيه تسبب الحريري في تأخير تشكيل الحكومة، حيث مثل الحريري أمام مجلس النواب، بعد ذلك بأربعة أيام، رافضاً هذا الاتهام وشن هجوماً مضاداً على رئيس الجمهورية، واعتبر البعض أن خطاب عون قُصِد به حث مجلس النواب على سحب تكليف الحريري، وهو أمر غير مدرج في الدستور ويعد تدخلاً في عمل السلطة التشريعية ذات الحق الأصيل في تسمية رئيس الحكومة في الاستشارات النيابية الملزمة ولا يحق للرئيس أن يُراجعها في قرارها.  بينما دفع آخرون بأن خطاب الرئيس للبرلمان كان على سبيل إخلاء مسئوليته عن التعطيل وحث السلطة التشريعية على تخطي عقبات تشكيل الحكومة. غير أن مجلس النواب لم يستجب لطلب عون المبطن للتراجع عن تسمية الحريري الذي مضى في جولته الأخيرة لتشكيل الحكومة. إذ جال الحريري على عدد من العواصم الدولية والإقليمية في سبيل تأمين الضغط الدولي اللازم على الرئيس عون للتراجع عن شروطه في تشكيل الحكومة دون طائل، حتى اضطر للاعتذار عن تشكيل الحكومة في منتصف يوليو الفائت.  

أعقب ذاك تسمية نجيب ميقاتي لتشكيل الحكومة بالاتفاق بين كتل المستقبل وحزب الله وحركة أمل والحزب التقدمي الاشتراكي وسط تفاؤل حذر حول زوال أسباب التعطيل التي كانت قائمة خلال فترة تكليف الحريري. اعتبر البعض أن الرئيس ميقاتي يتسم بالحياد السياسي وعلى علاقة جيدة بجميع الأطراف مما يؤهله لتذليل عقبات التشكيل الحكومي، فيما أبدى آخرون تحفظات على اختياره، غير أن المأزق اللبناني المتجدد قد حتم القبول بخيار ميقاتي كحل أخير قبل تردي الأوضاع الاقتصادية أكثر من ذلك.

 شرع ميقاتي في التشاور مع الرئيس عون حول ملامح الحكومة المرتقبة، وبدا أن عقبة المحاصصة لا تزال قائمة، فيما برزت عقبة أخرى تتعلق بتمسك الرئيس بحقيبتى العدل والداخلية، وهو أمر غاية في التعقيد نظراً لتولي هاتين الوزارتين الإعداد للانتخابات النيابية القادمة في مايو 2022، الأمر الذي قد يخصم من نزاهة الانتخابات إذا ما سيطر فريق سياسي واحد على هاتين الوزارتين الحاسمتين في مجريات الانتخابات.

ماذا بعد؟

لا يزال المشهد اللبناني مُعلَّقاً على توقعات النجاح والفشل للرئيس نجيب ميقاتي في مهمته في تشكيل حكومة. إذ يبدو أن عقبات التشكيل لاتزال قائمة ولا يملك ميقاتي حتى الآن من النفوذ الكافي الذي يسمح له بتخطى هذه العقبات. ولكن يبدو أن تسريع وتيرة التشكيل قد يتوقف على رغبة حاسمة من حزب الله للضغط على حليفه - عون- من أجل تخطي الشروط الكثيرة خوفاً من سقوط البلاد في دوامة من الحوادث الأمنية التي تهدد أمن الحزب نفسه.

وقد يتقاطع ذلك مع رغبة الأخير في إظهار بعض التعاون بموازاة أى تقدم يحدث في المفاوضات الإيرانية- الغربية. غير أن البعض يرى أن حزب الله ليس مضطراً للضغط على حلفائه لتقديم أية تنازلات، وأنه ممسك بالوضع الأمني ولا يخشى الانزلاق الى الفوضى، بينما يوفر لحاضنته الشعبية مواد تموينية وغذائية من العراق وإيران وليس قلِقاً من أى غضب شعبي في دوائره في ظل تردي الأوضاع الاقتصادية لبقية اللبنانيين. إذ يتواصل انهيار الليرة إلى حد فقدانها أكثر من 90% من قيمتها أمام الدولار ويتواصل انقطاع الكهرباء وشح الوقود والمواد التموينية وتتواصل أيضاً الطوابير الطويلة للحصول على المواد الأساسية.

فيما يذهب البعض الآخر إلى أن فريق عون إذا لم ينل ما يريد من الحكومة القادمة التي ستدير الانتخابات، فإنه سيستمر في تعطيلها حتى قرب موعد الانتخابات نفسها- أى لتسعة أشهر أخرى- وهو ما يعني أنه بعد التنازع الطويل على الصلاحيات الدستورية بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، قد تصبح الاستحقاقات الدستورية للانتخابات نفسها مهددة أيضاً، بما قد ينذر بدخول البلاد في أزمة دستورية كبيرة تضاف إلى مصافي الأزمات السياسية والاقتصادية والأمنية المتلاحقة. فيما يستمر الحراك الشعبي في الشارع لرفض سلطة النخبة السياسية برمتها وخاصة مع تلاحق التحركات الشعبية للتضامن مع عائلات ضحايا انفجار المرفأ والتظاهر أمام بيوت النواب والوزراء المستهدفين بالتحقيق.