صافيناز محمد أحمد

خبيرة متخصصة فى الشئون السياسية العربية ورئيس تحرير دورية بدائل - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

عُقِدت الجولة الرابعة والأخيرة من جولات الحوار الاستراتيجى بين العراق والولايات المتحدة فى الثالث والعشرين من يوليو 2021، بالعاصمة الأمريكية واشنطن خلال زيارة رئيس الوزراء العراقى مصطفى الكاظمى للولايات المتحدة ولقائه الأول بالرئيس الأمريكى جو بايدن. تناولت الجولة مجمل العلاقات بين البلدين وفى مقدمتها مستقبل التواجد العسكرى الأمريكى فى العراق، والجدول الزمنى لإنهاء كافة أشكال ذلك التواجد؛ فى ضوء ما هو معلن عن انتهاء كافة الأعمال القتالية، إلى جانب تقييم حالة التعاون الاستراتيجى بين البلدين على المستويين الأمنى والاقتصادى.

وتأتى أهمية تلك الجولة من مجموعة المعطيات المتزامنة مع توقيت عقدها؛ سواء كانت معطيات الداخل العراقى التى تزداد تأزماً وتعقيداً على المستويين السياسى والأمنى كلما اقترب موعد الانتخابات التشريعية فى أكتوبر 2021 من ناحية، أو على مستوى المتغيرات الإقليمية والدولية الناتجة عن تصاعد حالة الصراع بين الولايات المتحدة وإيران على خلفية الموقف الأمريكى من اتفاق البرنامج النووى الإيرانى ومسار مباحثات فيينا المرتبطة به من ناحية ثانية، أو على مستوى السلوك الإقليمى لإيران فى العديد من الملفات التى يشكل العراق إحداها وأهمها على الإطلاق من ناحية ثالثة، بخلاف ما يمثله معطى وجود رئيس جديد من التيار الدينى المحافظ المتشدد على سدة الحكم فى إيران من ناحية رابعة.

ويمثل ما سبق جملة المعطيات التى بمقتضاها تحولت العراق لساحة فعلية لتصفية الحسابات بين إيران والولايات المتحدة - عبر العديد من الاستهدافات العسكرية المتبادلة بين الجانبين ضد مصالح كل منهما داخل العراق - بصورة زادت من حدة أزمات الواقع السياسى والأمنى الصعب به.

هذا بخلاف جملة التحديات الضخمة وشديدة التعقيد التى يواجهها رئيس الوزراء الحالى -  مستقل ليس له خلفية حزبية – مصطفى الكاظمى حيال معضلة الجمع بين "النقيضين" إذا جاز لنا التعبير؛ وتتمثل تلك المعضلة فى استمرار حاجة العراق الشديدة للدعم العسكرى الأمريكى فى جوانبه التسليحية والتدريبية من ناحية، وفى الوقت نفسه "حتمية" الاستجابة لمطالب إنهاء التواجد العسكرى الأمريكى بكافة أنماطه وصوره، باعتباره مطلباً جماهيرياً بالدرجة الأولى، كما أنه مطلب سياسي يتم عبره التلاعب بحالة الاستقرار الأمنى الداخلى من قبل القوى السياسية والميليشيات العسكرية المسلحة سواء تلك التى تتمتع بالمساندة والدعم الإيرانى من الميليشيات الشيعية الولائية، أو تلك التى تتخذ الإرهاب المسلح وسيلة لنشر دورها وأفكارها كتنظيم الدولة، الذى وبالرغم من هزيمته وتراجع مشروعه، إلا أن خلاياه المتمركزة فى منطقة الحدود العراقية مع سوريا لاتزال قادرة على شن هجمات مؤلمة داخل العراق. 

نتائج الجولة ودلالاتها

انتهت الجولة الرابعة إلى عدة نتائج منها تقديم الولايات المتحدة لحزمة من المساعدات فى قطاعات البنية الأساسية إلى جانب المساعدات الإنسانية، ومساندة قطاع الطاقة والتعليم والثقافة...إلخ. إلا أن أبرز نتائج الجولة الرابعة للحوار الإستراتيجى بين الولايات المتحدة والعراق على الإطلاق تمثل فى توقيع الرئيس الأمريكى ورئيس الوزراء العراقى على اتفاق لإنهاء التواجد العسكرى الأمريكى بحلول نهاية شهر ديسمبر من عام 2021 الجارى، على اعتبار انتصار التحالف الدولى الذى قادته الولايات المتحدة فى حربه ضد إرهاب تنظيم الدولة.

التفاهمات والتوافقات الناتجة بخصوص هذه النقطة تحديداً انتهت إلى اتفاق الطرفين على إنهاء كافة أشكال الوجود العسكرى الأمريكى فى العراق بنهاية ديسمبر 2021. على أن يتم تغيير مهمة الدعم العسكرى الأمريكى للعراق لتنحصر فى مهام "استشارية تدريبية" فقط لرفع كفاءة عمل الأجهزة الأمنية والعسكرية والاستخباراتية العراقية خاصة فى مواجهة الإرهاب. هذه التفاهمات الثنائية التى انتهت إلى تحديد موعد نهائى للانسحاب الأمريكى تنطوى على عدة دلالات:

أولها، أن الكاظمى كان فى أشد الحاجة للتوصل إلى تاريخ محدد لإنهاء مهام الوجود العسكرى الأمريكى ليستخدمه كسلاح معنوى ضد حالة الاستقواء التى تبديها الميليشيات المسلحة ضد الدولة ومؤسساتها الأمنية تحديداً، وضد مجمل استراتيجياته فى معالجة أزمات العراق داخلياً وإدارة علاقاتها خارجياً وتحديداً على المستوى الإقليمى، حيث مثل الوجود العسكرى الأمريكى ذريعة لتلك الميليشيات لرفع سلاحها فى مواجهة الدولة.

ثانيها، أن الكاظمى - الذى أعلن عدم ترشحه فى الانتخابات المقبلة - يرغب فى إدارة ناجحة للانتخابات التشريعية القادمة، بما يمثل له رصيداً لدى الخارج يوفر له دعماً سياسياً يواجه من خلاله الأحزاب والقوى السياسية الدينية المتشددة من صقور التيارات الشيعية المدعومة من قبل إيران، وبالتالى فإن توصله لتوقيت حاسم لإنهاء الوجود العسكرى الأمريكى يدحض المبررات التى على أساسها تمارس القوى السياسية وميليشياتها العسكرية - وتحديداً الحشد الشعبى - سياسات مناهضة له ولحكومته ولحلفائه الدوليين. كما أنه يرفع من أسهم القوى السياسية المعتدلة من داخل التيار الشيعى نفسه التى ترى ضرورة حتمية فى "فك الارتباط" بين إيران والعراق، كإحدى الوسائل التى تساعد العراق على تحقيق الاستقرار السياسى والأمنى.

ثالثها، أن إدارة بايدن نفسها ترغب فى دعم مصطفى الكاظمى السياسى المستقل عن كافة القوى السياسية، لاسيما تلك المحسوبة على إيران، خاصة أنه حاول تحجيم النفوذ الإيرانى داخل العراق، عبر انتهاج سياسة تقوم على  "التوازن" فى إدارة علاقات دولته الخارجية، فى محاولة لتخفيف قبضة إيران على العراق وإخراجها تدريجياً من مسار التبعية لها، ولمصالح مشروعها الإقليمى فى المنطقة. ويشار هنا إلى استحسان واشنطن مساعى مصطفى الكاظمى بشأن إعادة ربط العراق بعمقها العربى عبر ترقية علاقات تعاون استراتيجية مع مصر والأردن والخليج العربى.

رابعها، أن كلا الطرفين العراقى والأمريكى قد "رضخا " بصورة أو بأخرى للضغوط التى تمارسها إيران ضدهما عبر وكلائها فى العراق من الميليشيات الشيعية المسلحة؛ وتحديداً تلك التى تضغط بها على المصالح الأمريكية فيه عبر الاستهدافات العسكرية المتتالية؛ وتفسير ذلك أن تحديد الطرفين لتاريخ معلن لإنهاء الوجود العسكرى الأمريكى - فى هذا التوقيت – هدفه الأساسى التخفيف من حدة ممارسات إيران عبر وكلائها من الميليشيات العراقية المسلحة ضد القواعد العسكرية الأمريكية، بما يحفظ ماء وجه الكاظمى الذى يبدو أمام حليفه الأمريكى عاجزاً عن حماية مصالحه هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى إعلان الطرفين عن موعد انسحاب نهائى للقوات الأمريكية من العراق قد يدفع إيران، فى ظل إدارة الرئيس الجديد الذى يمثل التيار السياسى الدينى المتشدد، إلى إبداء مرونة تجاه شروط ومطالب الولايات المتحدة للعودة إلى اتفاق البرنامج النووى من ناحية ثانية.

وتقود تلك الدلالة إلى التساؤل بشأن ماهية الاستراتيجية الأميريكية فى العراق بعد تغيير مهامها من القتال إلى التدريب والتسليح والعمل الاستخباراتى؟. بعض الخبراء يرون أن تغيير المهام يدخل ضمن ما يسمى بإعادة الانتشار؛ حيث ستظل الولايات المتحدة متواجدة فى قيادة التحالف الدولى لدعم بناء قدرات العراق الأمنية والاستخباراتية بهدف أولاً مساندة حكومة الكاظمى فى إتمام عملية انتخابية ناجحة خلال شهر أكتوبر 2021، حيث تأمل إدارة بايدن في أن تسفر الانتخابات عن  فوز القوى السياسية المعتدلة غير الموالية لطهران بنتائجها. وثانياً أن إنهاء الولايات المتحدة لمهام قواتها بالكامل فى العراق يغلق باباً لطالما تم توظيفه بقوة فى الدعاية الانتخابية، ومن ثم  - ووفقاً لمحللين - فإن نجاح بايدن فى إتمام الانسحاب ربما يساهم فى فتح المجال أمام سيطرة الحزب الديمقراطى – حزب الرئيس – على الكونجرس عبر انتخابات التجديد النصفى عام 2022 .             

عثرات تواجه التفاهمات

التفاهمات العراقية - الأمريكية السابقة والناتجة عن الجولة الرابعة والأخيرة للحوار الإستراتيجى بين الجانبين تواجهها عدة تحديات وعثرات كفيلة بإفشالها، ويمكن الإشارة إلى بعضها فى النقاط التالية:

1- رفض حكومة كردستان العراق الانسحاب الأمريكى؛ نظراً لطبيعة علاقات التعاون الثنائية المتميزة التى تجمع بين واشنطن وأربيل. وهذا الرفض كان سبباً مباشراً فى استهداف الميليشيات العراقية الموالية لإيران للقواعد العسكرية الأمريكية فى الإقليم عدة مرات كان أبرزها الهجوم على القاعدة الأمريكية بمطار إربيل عدة مرات على مدار العامين الماضين والعام الحالى.

2- عدم استطاعة العراق بمؤسساتها الأمنية الحالية توفير حماية أمنية فعالة للمصالح الأمريكية من قواعد وعتاد، ولا للمستشارين العسكريين الذين سيتولون مهام التدريب والتسليح والعمل الاستخباراتى.

3- رفض الميليشيات الموالية لإيران لمخرجات الحوار الاستراتيجى؛ فوفقاً لمحللين، فإن هذه الميليشيات اعتبرت توصل الطرفين الأمريكى والعراقى لموعد نهائى يتم فيه سحب القوات الأمريكية من العراق مجرد تغيير فى المسميات، وليس تغييراً فى مضمون وطبيعة البقاء العسكرى الأمريكى داخل العراق، حيث تستهدف واشنطن من ذلك – وفقاً لرؤية الميليشيات - إعادة انتشار قواتها لضمان استمرار البقاء تحت مسميات أخرى. وفى هذا السياق يشير المحللون إلى موقف إيران من قبول أو عدم قبول مخرجات الحوار الإستراتيجى بين العراق والولايات المتحدة، وهو أمر سيتوقف على طبيعة تعاطيات الرئيس الإيرانى الجديد مع ملفات التماس بين إيران والولايات المتحدة، والتى تبدأ بملف البرنامج النووى وتتسع لتشمل كافة انخراطات إيران فى ملفات إقليمية عديدة.

4- التناقضات التى تواجهها حكومة الكاظمى بشان مستقبل "الشراكة الإستراتيجية" مع الولايات المتحدة على أساس اتفاقية الإطار الاستراتيجية الموقعة بين العراق والولايات المتحدة عام 2008؛ حيث ترتبط تلك التناقضات بواقع حالة الانقسام السياسى الحاد بين القوى السياسية بشأن الموقف من الولايات المتحدة؛ فهناك تكتلات وقوى ترى أهمية فى استمرار بقاء القوات العسكرية الأمريكية فى إطار تصور أوسع يقوم على شراكة متعددة الجوانب لا تقف عند حد الشراكة العسكرية فقط. وهناك قوى معارضة ترفض تماماً أى تواجد عسكرى أمريكى وغير عسكرى داخل العراق. وبينهما يقف فريق يتوسط المسافة بين القبول التام والرفض التام لدور أمريكى يقوم على شراكة متعددة الجوانب مع العراق. معادلة التناقض ثلاثية الأبعاد تلك تعد من أكثر الكوابح لمخرجات الحوار الإستراتيجى العراقى- الأمريكى وقابليتها للتنفيذ على أرض الواقع. 

يتضح مما سبق أن الجولة الرابعة والأخيرة من الحوار الإستراتيجى بين العراق والولايات المتحدة ربما تؤسس لعلاقات إستراتيجية جديدة منطلقها تغيير صفة ومهام ما تبقى من الوجود العسكرى الأمريكى فى العراق، وتعمل فى الوقت نفسه على تحقيق قدر من الاستقرار الأمنى والسياسى على اعتبار أن تحديد موعد وجدول لإنهاء التواجد العسكرى الأمريكى سيحقق أحد أهداف إيران بما قد يدفعها نحو تهدئة محسوبة مع الولايات المتحدة داخل العراق على الأقل فى المدى المنظور انتظاراً لظهور الملامح الأولية لسياسة الرئيس الإيرانى الجديد.