رفع تنامي التوترات الأمنية بين إسرائيل وحزب الله اللبناني خلال الأيام الأخيرة مستوى التنبؤات السياسية إلى احتمال نشوب حرب بين الطرفين قريباً. وتُرجِع التقديرات السياسية التي تتبنى سيناريو اقتراب "ساعة الصفر" ذلك إلى اتساع رقعة المواجهة بين الطرفين على جبهتى سوريا ولبنان معاً في الوقت نفسه، وقِصَر المعدل الزمني بين الضربات التبادلية التي يسددها كل طرف للآخر، إضافة إلى السباق المحموم بينهما على إحداث تغيير في ميزان القوة العسكرية، باستمرار الحزب في زيادة عمليات تكديس الأسلحة النوعية في سوريا ولبنان بالتوازي مع الزيادة التدريجية في ساحات انتشاره عسكرياً، واستقطاب قوى إسناد إضافية ظهرت في المعادلة مؤخراً تتمثل في الفصائل الفلسطينية في المخيمات اللبنانية، والتي نسب إليها الهجومان الصاروخيان الأخيران على إسرائيل في 20 يوليو الجاري، وخلال الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في مايو الماضي، في مقابل قيام إسرائيل بالعمل على الحد من تلك القدرات والأنشطة من خلال توسيع مجال الضربات الاستباقية على الحزب في سوريا وتعزيز قدرات الدفاع والهجوم على الجبهة الشمالية فيما يعرف إسرائيلياً باستراتيجية "المعركة بين الحروب".
سيناريو مؤجل
لكن على العكس من التقديرات السياسية، فإن التقديرات العسكرية لا تزال تُرجئ هذا السيناريو، لكنها لا تستبعده تماماً، وربما بمعنى آخر ترى أن الأطراف المختلفة تسعى إلى تأجيل الحرب قدر الإمكان نظراً للمخاوف من نتائجها المتوقعة، مع تغير طبيعة حسابات الحرب إذا ما قورنت بآخر مواجهة بين إسرائيل والحزب عام 2006. فالحرب في المرة القادمة ستكون "حرب وجود" بالنسبة لكلا الطرفين، لاسيما أن مغامرة إسرائيل بخوضها تعني أن عليها الاستعداد لحرب مفتوحة على جبهتين على الأقل في سوريا ولبنان، ومواجهة متعددة الأطراف مع إيران والحزب والفصائل الفلسطينية في المخيمات اللبنانية، بالإضافة إلى الاستعداد لدفع كُلفة كبيرة على مستوى الجبهة الداخلية خاصة الشمالية، حيث تكشف تقديرات الاستخبارات الإسرائيلية لترسانة صواريخ الحزب، وفق تقارير عام 2020، أنها تزايدت من 100 إلى 110 ألف صاروخ لتتراوح حالياً ما بين 130 و150 ألف صاروخ، مضافاً إليها عامل الدقة في التوجيه نحو الهدف، كما يمكن للحزب القيام بإمطار إسرائيل بمعدل يتراوح من 1000 إلى 3000 صاروخ يومياً، إضافة إلى تزايد عمليات تهريبه لأسلحة أفراد وأسلحة متوسطة داخل إسرائيل، إلى جانب توسيعه لشبكة الأنفاق عبر الحدود.
بالإضافة إلى ذلك، هناك عدة مؤشرات يجب وضعها في الاعتبار، منها أن نتائج حرب غزة الأخيرة كشفت عن إخفاقات كبيرة في الجانب الإسرائيلي، ولا يتعلق الأمر فقط بمظلة الدفاع المتعددة الطبقات أو "القبة الحديدية"، ولكن يتصل بتأثير هذا الإخفاق تحديداً على الجبهة الداخلية الإسرائيلية على نحو سيجعل إسرائيل تفكر كثيراً قبل خوض أى معركة على الجبهة الشمالية.
كذلك من حيث التوقيت، يمكن القول إن الحزب بصدد اختبار السياسة الإسرائيلية ما بعد نتنياهو، خاصة أن وصول نفتالي بينت إلى رئاسة الحكومة في إسرائيل توازى مع وصول متشدد آخر إلى الرئاسة في إيران هو إبراهيم رئيسي. لكن اللافت أن إيران تبدو في المرحلة الحالية منشغلة بالجبهة الداخلية في ظل التوترات الحالية في منطقة "الأحواز"، بالإضافة إلى غموض مسارات مفاوضات فيينا، بما يعني أنها لن تغامر بدورها بدعم التوجه لحرب في لبنان في المرحلة الحالية.
على الجانب الآخر، ورغم أن التقديرات العسكرية التي تمنح الحزب مؤشرات إضافية في الميزان العسكري مقارنة بوضعه السابق قبل الانخراط في الحرب السورية، إلا أن ذلك لا ينفي أنه لا يزال هو الآخر حريصاً على عدم خوض معركة وجودية، حيث قد يخسر مكتسبات ما تم تحصيله على مدار ما يقارب من عقد من الزمن في سوريا بينما يعتقد أن عليه أن يجني ثمار تلك المكتسبات في المستقبل المنظور، بالإضافة إلى أنه يدرك أنه لن يخوض مواجهة مع إسرائيل منفردة، وهو ما يمكن استنتاجه ضمنياً من رسائل الرئيس الأمريكي جو بايدن بالتزامن مع التوترات الأخيرة، حيث جدد قرار الطوارئ الوطنية الذي تضمن ما يمثله الحزب من تهديد على الأمن القومي الأمريكي.
هذه التقديرات في مجملها تعكس كيف يفكر الطرفان - إسرائيل وحزب الله – حالياً تجاه سيناريو الحرب. وفي واقع الأمر، يبدو أن كليهما يرسم حالياً خطوطه الحمراء، التي يتصور أن انهيارها يعني انهيار قواعد الاشتباك المتعارف عليها بينهما خلال السنوات الماضية، والتي لا تزال قائمة رغم تطور مستوى التصعيد، ورغم التغيير النسبي في مؤشرات القدرات والانتشار. فالضربة التي وجهتها إسرائيل إلى المواقع العسكرية للحزب على منطقتى "السفيرة" و"القصير" في ريفى حلب وحمص، رد عليها الأخير بشكل غير مباشر من داخل لبنان عبر الفصائل الفلسطينية وفق الرواية العسكرية الإسرائيلية التي تستند إلى نوعية الصواريخ "جراد 122 مم"، والموقع "منطقة قليلة"، بالإضافة إلى وجود صاروخ لم يتم إطلاقه عثر عليه الجيش اللبناني، ومن المرجح أن مُطلِقي الصواريخ أرادوا بالإبقاء على أحد الصواريخ ترك دليل على أن الحزب ليس وراء الهجوم، وربما يكون القصف المدفعي الإسرائيلي رداً على إطلاق الصواريخ قد دفعهم إلى الهروب من الموقع، ولكن رئيس الأركان الإسرائيلي آفيف كوخافي يرى أن الحزب في الأخير يظل مسئولاً عن تلك العمليات كونها لا يمكن أن تتم دون علمه على حد قوله.
عواقب الخروج عن السيطرة
إن انهيار الخطوط الحمراء على الجانبين يعني عملياً "انفلات استراتيجية الردع" التي يتبعها الطرفان، أو بمعنى آخر خروج الأوضاع عن السيطرة. وفي هذا السياق، يمكن القول إنه على الرغم من مظاهر التوتر الحالية على الجانبين، إلا أنها لم تصل بعد إلى حالة فقدان السيطرة، فإسرائيل تعوض تنامي المهددات التي يشكلها الحزب بالتركيز على استهداف ترسانة أسلحته في سوريا أكثر من أى وقت مضى على طول مسار الحرب السورية. كما أن الرسائل العسكرية المُغلَّفة سياسياً التي يتبادلها الطرفان تعكس قدرتهما على القراءة الدقيقة لموقف كل منهما تجاه الآخر. فعلى سبيل المثال، ترى إسرائيل أن الحدود الجنوبية المشتركة أصبحت هشة للغاية، في ظل مساعي الحزب لـ"اختراق العمق" الإسرائيلي، لكنها في الوقت ذاته تعمل على مقاومة هذه الأنشطة، من خلال الحد من عمليات التسلل، والاستمرار في مكافحة الأنفاق الحدودية، والتعاون مع قوة المراقبة الأممية "يونيفيل"، بالإضافة الى التعبئة الاستراتيجية ضد الحزب في الداخل اللبناني، مستغلة دوره في تعميق الأزمة اللبنانية، وكان لافتاً أن وزير الدفاع بيني غانتس أشار إلى أن إسرائيل لن تسمح بأن تؤثر الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية في لبنان على أمن إسرائيل، كما عرض مساعدة عبر قوة الارتباط في "يونيفيل" لدعم لبنان التي رفضت ذلك. وفي وقت لاحق، فسر شلومي بيندر قائد الفرقة 91 الإسرائيلية المسئولة عن الجبهة الشمالية موقف غانتس، الذي يلمح إلى أن إسرائيل لا تريد أن تشكل الأزمة اللبنانية تهديداً إضافياً للأمن القومي الإسرائيلي، بأن إسرائيل تخشى أن يؤدي انهيار لبنان إلى انهيار الجيش اللبناني بالتبعية، وحصول الحزب على أسلحة متقدمة تزيد من قدراته العسكرية، وهو ما يعني – بحسب بيندر- هيمنته على لبنان وتمدد ايران فيها مباشرة.
وتستند هذه التقديرات بشأن الجيش اللبناني إلى عدة مؤشرات من بينها تصريحات لقادة الجيش اللبناني، لاسيما فيما يتعلق بضعف عامل الالتزام العسكري كعدم عودة بعض العسكريين من الأجازات في ظل عدم التمكن من الوفاء بالرواتب بسبب الأوضاع الاقتصادية المتردية، بالإضافة إلى تلميح بعض التقديرات الإسرائيلية والأمريكية إلى أن بعض الأسلحة التي يتم تهريبها هى أسلحة حديثة لا يمتلكها الحزب، خاصة أسلحة الأفراد، على نحو يطرح احتمال أن تكون الأزمة الاقتصادية اللبنانية قد دفعت بعض العناصر إلى بيع الأسلحة مقابل الحصول على الأموال.
متغير جديد في إدارة الصراع
إن الاستنتاج الرئيسي في هذا السياق هو ظهور متغير جديد في حسابات الصراع بين إسرائيل والحزب، يتمثل في تطور الأزمة اللبنانية وتداعياتها المستقبلية. إذ يمكن القول إن تبادل الضربات الصاروخية أو هشاشة الحدود هو مجرد أعراض أوَّلية لسيناريو أسوأ قادم إذا ما دخل لبنان في مرحلة "الثقب الأسود" بتعبير التقديرات الإسرائيلية، فهناك وجهة نظر إسرائيلية ترى أن الحزب يتبنى نهجاً تكتيكياً لفرض أمر واقع بانهيار لبنان، حينها سيكون التحدي أكبر بالنسبة لإسرائيل في ظل تحول نظرية تطويق إيران لحدود إسرائيل مع سوريا ولبنان إلى واقع عملي، وهو ما يفسر، من جانب آخر، سعى إسرائيل بكل السبل إلى دعم لبنان في أزمته الاقتصادية على الرغم من رفضه المتكرر لتلك المساعدات، فالهدف هو قطع الطريق على تغلغل إيران أكثر على الساحة اللبنانية عبر بوابة المساعدات، وهو ما تؤيده تصريحات الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله في الأيام التي تلت التصعيد حينما طالب بدعم نفطي إيراني للبنان لتجاوز أزمة المحروقات، ففي الفترة السابقة كشفت تقارير دولية عن تمكن إيران من توفير احتياجاتها النفطية في سوريا بوسائل مختلفة للتمويه كانت تصل إلى ميناء "بنياس"، بينما كانت تمر تلك الشحنات قبالة سواحل بيروت، ما يفيد بإمكانية قيام إيران بذلك لصالح الحزب في المستقبل، على نحو ترى إسرائيل أنه سيفتح الباب أمام مزيد من عمليات تهريب الأسلحة الإيرانية بشكل مباشر، لكن تم تجاوز أزمة المحروقات مؤقتاً باتفاق لبناني- عراقي تقوم بموجبه العراق بتزويد لبنان بشحنات نفطية ربما ستكفيه أربعة أشهر مقبلة، ويبدو من المرجح أن تكون الولايات المتحدة قد دعمت إبرام هذا الاتفاق لقطع الطريق على تلبية إيران دعوة الحزب بشأن إمدادات النفط.
حسابات موسكو
إلى جانب ذلك، هناك تطور آخر يجب وضعه في الاعتبار، يتعلق بتغير الحسابات الروسية من تلك التطورات. ففي السابق كانت روسيا غالباً ما تتجاهل هذا التصعيد، وتترك الأمر للجيش السوري ليتولى بيان الموقف، لكن في سابقة هى الأولى من نوعها أصدرت روسيا بيانين متتاليين في أعقاب الضربات الإسرائيلية على كل من حمص وحلب، تركزا حول عملية اعتراض الدفاعات السورية – الروسية الأصل- للصواريخ الإسرائيلية. في المقابل، نشرت إسرائيل تقارير كاملة حول الضربات التي تم توجيهها إلى سوريا، والتي بلغت في النصف الأول من العام الجاري، نحو 14 ضربة بقذائف جوية وصواريخ موجهة أسفرت عن تدمير 41 هدفاً ما بين مبانٍ ومستودعات للأسلحة والذخائر ومراكز وآليات عسكرية، كما أشارت تقارير محلية سورية إلى عدم صحة البيانات الروسية، موضحة أن القصف الإسرائيلي الأخير طال بالفعل مواقع عسكرية من بينها مبنى للأبحاث العسكرية، وركزت تلك التقارير على أن مواقع الضربات هى مناطق نفوذ مشترك بين روسيا وإيران بالإضافة إلى حزب الله والنظام السوري.
لكن بالنسبة للتقديرات الروسية، يبدو أن السياق مختلف. فعلى المستوى التكتيكي، تسعى روسيا هى الأخرى شكلياً إلى الحفاظ على موقعها باعتبارها قوة رئيسية في سوريا لقيادة وضبط التفاعلات. لكن على المستوى الاستراتيجي، فإن روسيا معنية بعدم توسع نفوذ إيران أكثر مما هو عليه عبر التمدد في لبنان، حرصاً على عدم اختلال التوازن في سوريا بالتبعية. كذلك، فإن توقيت التصعيد الإسرائيلي توازى مع مشاركة البحرية الإيرانية في نشاط عسكري روسي بمناسبة ذكرى تأسيس البحرية الروسية، بالإضافة إلى تزايد الحاجة للتنسيق المشترك في أفغانستان في ضوء الانسحاب العسكري الأمريكي من هناك، وبالتالي فإن مقتضيات تعزيز الشراكة تطلبت إشارات روسية إيجابية تجاه إيران ظهرت في معارضة موسكو للضربات الإسرائيلية بشكل بدا لافتاً للنظر. في المقابل أيضاً، فإن تزايد الاهتمام الأمريكي من التطورات السياسية في لبنان يعطي مؤشراً على استدراك واشنطن لمتغير الموقف الروسي، سواء فيما يتعلق بتعزيز الشراكة المحسوبة مع إيران أو ما يتصل بتراجع مستوى التنسيق بين روسيا وإسرائيل على الساحة السورية.
ضبط الردع المتبادل
في الأخير، من المتصور أن سيناريو اندلاع حرب إسرائيلية – لبنانية في المرحلة الحالية يظل احتمالاً ضعيفاً في ضوء مأزق الخيارات. فإسرائيل لم يعد بإمكانها تدمير القدرات الصاروخية للحزب كما كانت تهدف من قبل. كما أن الأخير بحاجة إلى عملية هيمنة محسوبة على بيروت تسمح بانهيار سياسي يمكن السيطرة عليه دون الانزلاق للحرب الأهلية مرة أخرى. وبالتالي سيحافظ الطرفان- قدر الإمكان- على سياسة "عدم انفلات الردع المتبادل".
كذلك من المرجح أن أى متغير على الساحة اللبنانية، لاسيما السيناريو الأسوأ الذي يمكن أن ينزلق إليه لبنان، لن تقتصر آثاره على الساحة اللبنانية، فحتماً ستكون له انعكاساته الخطيرة على المستويين الإقليمي والدولي. ويظل هناك مؤشر يتعين وضعه في الحسبان، وهو أن تلك التفاعلات كاشفة عن اتساع مجال حركة كافة الأطراف الدولية والإقليمية المنخرطة في الأزمة اللبنانية من مقاربة الصراع السوري، بحيث يعاد هندسة إعادة لبنان مرة أخرى إلى الحاضنة نفسها بشكلٍ أو بآخر، لكن محصلة هذه التحركات كاشفة أيضاً عن محدودية تأثير الدور العربي في الأزمة اللبنانية، على الرغم من انعكاساتها على الأطراف العربية، وهو ما يعني أن أغلب الأطراف العربية لم تستوعب بعد الدرس السوري وانعكاساته على الأمن القومي للدول العربية، الأمر الذي يستدعي استدراك الأمر والتحرك قبل فوات الأوان، وقبل أن تنزلق المنطقة لحرب جديدة تضاعف من حالة الفوضى التي تشهدها بطبيعة الحال.