بعد مرور أكثر من عقد على ما يسمى بـ"ثورة الياسمين"، دخلت تونس مرحلة جديدة ربما تشهد تحولات سياسية مهمة وفارقة، وذلك من خلال القرارات التي اتخذها الرئيس قيس سعيّد، في 25 يوليو الجاري (2021)، بالتوازي مع خروج آلاف المتظاهرين في العاصمة ومدن أخرى للمطالبة بتنحي الحكومة التي تسيطر عليها حركة النهضة والتي اتهمها المتظاهرون بالفشل في إدارة شئون الدولة والتعامل مع الأزمات المختلفة، وذلك استنادًا للفصل 80 من الدستور التونسي لعام 2014 الذي يتضمن صلاحيات لرئيس الجمهورية بشأن إعلان الحالات الاستثنائية.
وقد تضمنت قرارات الرئيس إعفاء رئيس الحكومة هشام المشيشي من منصبه، وتجميد كل اختصاصات البرلمان ورفع الحصانة عن نوابه مما يفتح المجال أمام محاسبتهم ومساءلتهم من قبل النيابة العامة، وتولي رئيس الجمهورية السلطة التنفيذية بمساعدة حكومة يرأسها رئيس حكومة جديد يقوم بتعيينه الأول لاحقًا. ومن المُقرر أن تستمر تلك التدابير 30 يومًا، وبعد مضى تلك المدة، وفي كل وقت بعد ذلك، يعهد إلى المحكمة الدستورية، بطلب من رئيس مجلس نواب الشعب أو ثلاثين من أعضائه، البت في استمرار الحالة الاستثنائية من عدمه.
وقد جاءت هذه القرارات بالتوازي مع التظاهرات التي تم الإعداد والتخطيط والدعوة لها على مواقع التواصل الاجتماعي منذ أسابيع، لتأتي تزامنًا مع الذكرى الـ64 لعيد الجمهورية، والذكرى الـ8 لاغتيال محمد البراهمي، عضو المجلس الوطني التأسيسي، الذي يتحدر من ولاية سيدي بوزيد التي انطلقت منها شرارة الثورة التونسية التي أطاحت بالرئيس الأسبق زيد العابدين بن علي في يناير 2011.
لكن في ظل غياب المعلومات الدقيقة حول الجهة الداعمة لتلك الاحتجاجات الشعبية، أعلنت العديد من الجهات السياسية والحزبية عدم مسئوليتها عنها، بل وتوالت الاتهامات لها من قبل حركة النهضة التي زعمت وقوف "عصابات إجرامية" مدعومة من أطراف خارجية بهدف "زعزعة استقرار البلاد وإثارة الفوضى لصالح أجندات خارجية تسعى للإطاحة بـالمسار الديمقراطي"، كما اتهمت بعض الأطراف المُناصرة للرئيس قيس سعيّد -وعلى رأسهم عبير موسى رئيس الحزب الدستوري الحر- بالوقوف وراء تلك الاحتجاجات، لاسيما بعد إعلان الرئيس عن رغبته في العمل على تعديل الدستور الذي قال أن "كله أقفال"[1]، بحيث يتم تحويل النظام السياسي من نظام مختلط إلى نظام رئاسي يكون لرئيس الجمهورية فيه صلاحيات أكبر، وهو ما قوبل بالرفض من قبل حركة النهضة[2].
أسباب مُتعددة
ربما يمكن القول إن الأزمة السياسية الحالية في تونس ليست وليدة اللحظة، إنما هى انعكاس لحالة من السخط الشعبي، والتراكمات التي فرضها فشل إدارة حركة النهضة للبلاد منذ عام 2011 وحتى الآن في كافة الملفات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ويمكن تناول أبرز الأسباب التي أدت إليها على النحو التالي:
1- أزمة دستور 2014: ترى اتجاهات عديدة في تونس أن الأزمة الحالية تمثل نتيجة مباشرة لدستور 2014، الذي تضمن إشكاليات قلصت من قدرة مؤسسات الدولة على مواجهة الأزمات العديدة التي تصاعدت حدتها في الأعوام السبعة الأخيرة، وهو بدا جلياً في أزمة انتشار فيروس كوفيد- 19. ووفقاً لذلك، فقد أدى ما يسمى بـ"الدستور الهجين"- الذي دافعت عنه حركة النهضة لتعزيز نفوذها وسيطرتها- والذي يجمع بين النظامين الرئاسي والبرلماني، إلى تصاعد الخلافات حول الصلاحيات بين رئيس الجمهورية المنتخب ورئيس الحكومة المعين. ومن هنا، دعا الرئيس سعيّد، في مناسبات عديدة، إلى ضرورة تعديل الدستور، الذي وصفه بأنه يتضمن "أقفالاً عديدة". وفي هذا السياق، قال الرئيس سعيّد، أثناء اجتماعه مع رئيس الوزراء المقال هشام المشيشي وثلاثة رؤساء حكومات سابقين، في 16 يونيو الفائت: "لندخل في حوار جدي... يتعلق بنظام سياسي جديد وبدستور حقيقي لأن هذا الدستور قام على وضع الأقفال في كل مكان ولا يمكن أن تسير المؤسسات بالأقفال والصفقات"[3].
2- تصاعد الاتجاه المناوئ لحركة النهضة: أدت القرارات والسياسات التي تتبناها حركة النهضة- التي تسعى إلى تكريس سيطرتها على المشهد السياسي في تونس- إلى استقطاب قوى وأطراف عديدة مناوئة لها في القطاعات المختلفة، وذلك في ضوء اعتبارات عديدة، تتمثل في الانتقادات الموجهة للحركة بتهمة إفساد المسار الديمقراطي واستغلال المؤسسة القضائية للتستر على ملفات التقاضي في عدد من الملفات المهمة ذات الصلة الوثيقة بقيادتها والتي على رأسها ملفات اغتيال زعماء المعارضة السياسية وفي مقدمتهم شكري بلعيد ومحمد البراهمي وغيرهم.
وقد كان لافتاً في هذا السياق، أن الرئيس سعيّد حرص على توجيه تحذير واضح لبعض الأطراف في كلمة ألقاها من شارع الحبيب بورقيبة بعد الإعلان عن القرارات الأخيرة، بقوله أن "من سرق أموال الشعب ويحاول الهروب أنّى له الهروب.. من هم الذين يملكون الأموال ويريدون تجويع الشعب؟"[4].
ويتوازى ذلك مع تصاعد حالة عدم الاستقرار الداخلي في الحركة بسبب موجة الاستقالات التي تشهدها، وما أسفر عنها من انقسامات، وهو ما أثر بطبيعة الحالة على تماسكها وبالتالي على استقرار الحكومة، وفاعلية أداءها. ولعل أبرز ما يُبرهن على حالة السخط الشعبي ضد الحركة هو ما شهده الجنوب التونسي من تظاهرات واسعة على معاقل ومقرات الحزب رغم أنه لطالما اعتبرت الحركة الجنوب أهم معاقلها الرئيسية[5].
3- غياب دور المحكمة الدستورية: أدى استمرار عدم اكتمال تشكيل المحكمة الدستورية إلى غياب دورها القضائي في الفصل بين السلطات الثلاث والبت في النصوص المُتنازع بشأنها مما كان له دور في تصاعد الأزمة بين السلطات الثلاث: رئيس الدولة، والبرلمان، ورئيس الوزراء، لاسيما في ظل اختلاف تأويل النصوص الدستورية ومحاولات بعض الأطراف- لاسيما حركة النهضة- مصادرة مزيد من الصلاحيات سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي.
فعلى الرغم من أن إقالة هشام المشيشي لوزير الصحة فوزي المهدي في 20 يوليو 2021، قد جاءت على خلفية الضغوط التي فرضتها ما شهدته مراكز التلقيح من فوضى ومشاحانات وغياب تنظيمي خلال عطلة عيد الأضحى إثر اصطفاف حشود كبيرة أمام المراكز لنقص اللقاحات، إلا أن تلك الإقالة كانت مُتوقعة لاسيما بعد التعديل الوزاري الذي تم طرحه بداية عام 2021، وقُوبل بالرفض من قبل الرئيس قيس سعيّد، حيث تضمن التغيير الوزاري الإطاحة بكل من وزير الداخلية ووزير الصحة، وهو ما يُمكن النظر إليه كمحاولة من قبل المشيشي للإطاحة بالوزراء المحسوبين على رئيس الدولة واستبدالهم بآخرين موالين لحركة النهضة وأجندتها[6].
هذا، فضلاً عن مشروع "قانون الطوارئ الصحية" الذي قدمته الحكومة التونسية إلى البرلمان وكان من المُنتظر أن يتم عرضه على الجلسة العامة خلال الأسبوع الأخير من يوليو 2021، وأثار جدلاً وإشكالية جديدة بين رئيس الحكومة ورئيس الجمهورية حول مدى احترام الدستور والصلاحيات المخولة لكل منهما فيما يخص اعلان حالة الطوارئ، حيث ينص المشروع على أن يتم إعلان حالة الطوارئ الصحية بمقتضى أمر حكومي وباقتراح من وزيري الداخلية والصحة، رغم أن حالة الطوارئ العامة تدخل وفقًا للدستور ضمن اختصاصات رئيس الجمهورية[7].
4- تصاعد تأثير جائحة كورونا وتداعياتها الاقتصادية: كشفت الأزمة الصحية غير المسبوقة التي تعاني منها تونس في ظل انتشار وباء كوفيد - 19 الستار عن الأوضاع المُتردية التي يعاني منها قطاع الصحة، لاسيما في ظل التصاعد المستمر في الأسابيع الأخيرة لحالات الإصابة. فتونس وفقًا لمنظمة الصحة العالمية هى الأعلى في أفريقيا والعالم العربي من حيث حالات الإصابة اليومية، حيث وصلت النتائج الإيجابية إلى نسبة 30% من إجمالي الفحوصات اليومية[8]، وهو ما زاد من المخاوف الشعبية من عدم قدرة الحكومة الحالية على احتواء الأزمة ومكافحة الوباء، لاسيما في ظل بطء حملة التطعيم ونقص اللقاحات.
فضلاً عن ذلك، ألقت أزمة كوفيد - 19 بظلالها على قطاع السياحة، حيث تراجعت عوائد السياحة في تونس بنسبة 74% عن معدلاتها الطبيعية قبل الجائحة، بينما ارتفعت خسائر قطاع السياحة بما يفوق السنة الأولى من انتشار الجائحة منذ مارس 2020، وذلك بعد أن بلغت موارد القطاع 874 مليون دينار فقط حسب تقارير البنك المركزي التونسي. وقد أدى انتشار الوباء إلى اعتبار تونس "نقطة حمراء"، وألغت الدول الأوروبية وفودها السياحية إلى الأخيرة، والتي كان من المُقرر لها أن تنظم رحلاتها في شهرى يونيو ويوليو 2021[9].
والجدير بالذكر في هذا الشأن هو انعكاس تدهور النشاط السياحي على تفشي البطالة في قطاع السياحة، لاسيما مع تراجع النشاط السياحي لوكالات الأسفار في يوليو بنسبة 80% مقارنة بالفترة نفسها من عام 2020. فبحسب أرقام نشرتها الجامعة التونسية للفنادق، فإن 60% من العاملين في القطاع السياحي مُهددين بالفقر، فيما خسر 27 ألف عامل منهم وظائفهم. وهذا بدوره ما ساهم في تصاعد حدة الاحتجاجات ضد الحكومة لعدم قدرتها على احتواء أزمة الجائحة، ودعم القطاعات الأكثر تضررًا منها، فضلاً عن عدم اتخاذ التدابير اللازمة لتقليص حدة الضغوط التي يتعرض لها آلاف العاملين في الأنشطة المرتبطة بقطاع السياحة، خاصة مع العجز الداخلي عن تأمين وظائف بديلة لهم بسبب إجراءات الحجر الشامل التي أقرتها الدولة منذ يناير 2021[10].
ختامًا، يمكن القول إن القرارات الأخيرة التي اتخذها الرئيس قيس سعيّد تهدف إلى معالجة الأزمة البنيوية التي يعاني منها النظام السياسي التونسي خلال المرحلة القادمة، إلا أن تأثيرها على تطورات المشهد السياسي في تونس سوف تعتمد على متغيرات مهمة يتمثل أبرزها في المواقف التي سوف تتخذها القوى السياسية والأطراف الأخرى من الأزمة الحالية التي تبقى مفتوحة على أكثر من مسار خلال المرحلة القادمة.
[5] كريمة دغراش، الشارع التونسي على صفيح ساخن... احتجاجات "مشبوهة" أم سيناريو مماثل لثورة 2011؟، 25 يوليو 2021، متاح على الرابط التالي:
https://bit.ly/3rxCUDm
[6] هدى الطرابلسي، الرئيس التونسي: الجيش سيدير أزمة كورونا في البلاد، 21 يوليو 2021، متاح على الرابط التالي: https://bit.ly/3i52uwj
[7] حمادي معمري، تونس تترقب انقساماً دستورياً على وقع "الطوارئ"، 18 يوليو 2021، متاح على الرابط التالي: https://bit.ly/3BRZFXx
[8] لجين الحسيني، "ألفا" و"دلتا" بمعظم المحافظات.. كورونا يفسد العيد في تونس، 21 يوليو 2021، متاح على الرابط التالي: https://bit.ly/2V6Etfj