تعد عمليات بناء الدساتير فى مراحل ما بعد الصراع واحدة من أعقد العمليات وأهمها على الإطلاق. وتكتسب هذه العمليات أهميتها من حقيقة أن قضايا الصراع الأساسية التى يسعى الأطراف إلى حسمها وإيجاد توافقات بشأنها هى القضايا نفسها التى يسعى البناء الدستورى إلى تضمينها؛ فمسائل مثل شكل الدولة، وطبيعة نظام الحكم، والمبادئ الأساسية الناظمة للدولة الجديدة، والترتيبات المؤسسية للسلطات الثلاث وعلاقاتها ببعضها البعض، والتعامل مع الماضي، وكيفية إدارة وتقاسم الثروة وغيرها من القضايا وثيقة الصلة بالصراع- كلها مسائل ينظمها الدستور الذى يعد بمنزلة عقد اجتماعى جديد للدول الخارجة من الصراع، ومن ثم فإن هذه العمليات تعد جزءًا مهمًا فى عمليات بناء السلام بل أحيانًا فى العمليات الهادفة إلى تحويل الصراع.

وفى هذا الإطار، تأتى هذه الدراسة لتتناول عملية بناء الدساتير فى مراحل ما بعد الصراع وعلاقتها بالعمليات السياسية الأوسع الهادفة إلى تسوية هذه الصراعات. وتنطلق الدراسة من فرضية أساسية وهى أن أى فهم دقيق للعمليات الدستورية فى سياق الدول المأزومة بالصراعات ينبغى ألا يركز فقط على محتوى الدستور ومضامينه (النص الدستورى)، وإنما ينبغى أن تتجاوزه للنظر إلى العملية نفسها التى أفرزت هذا الدستور. وتتسع العملية لتشمل جملة من الأمور ابتداء من الاتفاق على الأطر الأساسية الحاكمة للعملية، مرورًا بطبيعة الهياكل المنوط بها إعداد مشروع الدستور، وأدوار الفاعلين الدوليين وطبيعة المشاركة الشعبية فى العملية وحدودها، انتهاء بتبنى الدستور والعمل به.

وتناقش الدراسة الحالة الليبية بصفتها نموذجًا لعمليات بناء الدساتير فى السياقات الصراعية، فهى حالة دالة لعدد من القضايا الشائكة المطروحة فى سياق بناء الدساتير فى مراحل ما بعد الصراع. فمن ناحية، عكست الحالة الليبية العلاقة المتشابكة بين العملية الدستورية والسياق الأوسع الخاص بالتسوية السياسية. فقد اتخذت عملية بناء الدستور مسارًا مستقلًا منذ البداية على اعتبار أنه لا يجوز أن تكون جزءًا من التجاذبات السياسية. إلا أن هذا الفصل بين المسارين لم يكن مفيدًا لعملية بناء الدستور التى تحتاج دعمًا سياسيًا من جميع الأطراف التى ستكون معنية بتنفيذ بنوده حال إقراره، وبالتالى فإن تصور إمكان الفصل لم يكن واقعيا بالأساس.

ومن ناحية ثانية، عكست الحالة الليبية تعقُد القضايا التى يتعين على المشاركين فى العملية الدستورية مناقشتها وحسمها إذ برزت قضيتان أساسيتان هما شكل الدولة وحقوق الأقليات. فقد طُرحت مسألة الفيدرالية منذ الأيام الأولى للثورة الليبية، ووجدت لها مناصرين لاسيما فى إقليمى برقة فى الشرق وفزان فى الجنوب. وفى المقابل، أيدت طرابلس خيار الدولة الموحدة. وقد أثر هذا التجاذب على العملية الدستورية منذ بدايتها ما أدى إلى تعديل دستورى أدخل تغييرًا على الطريقة التى تم بمقتضاها اختيار الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور ليمثل الأقاليم الليبية الثلاثة على قدم المساواة. وانتهى الدستور بتبنى نظام لامركزى تُركت العديد من تفاصيله للتشريعات المستقبلية. أما القضية الثانية فقد تمثلت فى حقوق الأقليات غير العربية وتحديدًا الأمازيغ والطوارق والتبوء. فقد ترك تعامل نظام القذافى مع هذه الأقليات آثارًا لا تزال تمثل إشكاليات فى ليبيا لاسيما فيما يتعلق بالاعتراف بالهويات الثقافية واللغوية لهذه المجموعات، وفيما يتعلق بحقوق المواطنة التى لا يتمتع بها أعداد كبيرة من هذه الأقليات رغم استقرارهم فى المجتمع الليبى منذ سنوات طويلة.

وأخيرًا، عكست الحالة الليبية أدوار الأطراف الدولية، التى كانت مؤيدة لمسار الدستور منذ بدء العملية حتى إقرار مسودة الدستور فى يوليو 2017. غير أن هذا التأييد قد شهد فتورًا لاسيما فى السنوات الأخيرة، ما يثير تساؤلات حول ما يخلفه الموقف الدولى من آثار على العملية.

وبعد أكثر من ثلاث سنوات من موافقة الهيئة التأسيسية على مشروع الدستور الليبى فى يوليو 2017، فإنه لم يتم عرض المشروع للاستفتاء، وبدلًا من ذلك تتناقش الأطراف الليبية حول إقرار قاعدة دستورية تكون هى المرجعية فى الانتخابات التشريعية المقبلة والمقرر عقدها فى ديسمبر 2021. ما يثير تساؤلات حول مستقبل العملية الدستورية فى ليبيا. وفى هذا الإطار تطرح الدراسة سيناريوهين رئيسيين: السيناريو الأول: أن يتوافق أطراف اللعبة السياسية الليبية على الالتزام بالمسار الدستورى وفقًا للخريطة الأصلية التى تقضى بعرض الدستور على الاستفتاء الشعبى قبل الانتخابات التشريعية المقررة فى ديسمبر 2021. السيناريو الثانى: أن يتم الاتفاق على القاعدة الدستورية للانتخابات البرلمانية والرئاسية التى اقترحتها اللجنة القانونية المنبثقة عن ملتقى الحوار السياسى الليبى خلال اجتماعها فى تونس فى أبريل 2021 وفى أثناء المشاورات التى جرت لاحقًا بتيسير من بعثة الأمم المتحدة للدعم فى ليبيا. وفى هذه الحالة يتم إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية وفقًا للقاعدة القانونية المتفق عليها، ويتم تأجيل الاستفتاء على الدستور إلى ما بعد تشكيل السلطة التشريعية الجديدة المنتخبة وفقًا للمقترح الوارد فى القاعدة القانونية.