تعادل القفزة النوعية التي شهدتها القوات البحرية المصرية خلال أقل من أربع سنوات جيلين على الأقل بعمر التحديث التقليدي في الأجيال العسكرية، أى أن ما جرى من عملية تحديث وتنامي للقدرات والكفاءة في أربع سنوات يستغرق في المعدل الطبيعي أربعة عقود من الزمن. وبحسابات عامل الزمن أيضاً، فإن النهضة التي شهدتها القوات البحرية، والقوات المسلحة المصرية بشكل عام، لم تتم بمعزل عن عملية النهضة الشاملة التي شهدتها مصر خلال السنوات السبع الأخيرة، بل يمكن القول وفق هذه الصيغة إن حسابات التنمية المصرية الشاملة تضمنت عملية التحديث العسكري، وهو مضمون جوهر وثيقة إنشاء قاعدة "3  يوليو" التي نصت علي أنها تأتي "من منطلق المسئولية نحو تعزيز القوة الشاملة للدولة، وتعظيم القدرات المصرية في كافة المجالات والقطاعات وفي مقدمتها القوات المسلحة ودورها في حماية مقدرات الدولة واستكمالاً لمسيرة تعزيز ركائز الأمن القومي المصري في كافة الاتجاهات الاستراتيجية"، وصدرت الوثيقة باسم "شعب مصر العظيم" ووقعها القائد الأعلى للقوات المسلحة الرئيس عبد الفتاح السيسي.

ومنذ يوليو 2017، امتلكت مصر أسطولين بحريين، شمالي وجنوبي، بدأت بقاعدة "محمد نجيب" (يونيو 2017)، ثم قاعدة "برنيس" التابعة للأسطول الجنوبي (يناير 2020)، وقاعدة "3 يوليو" التابعة للأسطول الشمالي في الاتجاه الاستراتيجي الغربي (يوليو 2021)، ضمن منظومة بحرية متكاملة بمواصفات عالمية تشمل خمس قواعد، حيث تحتل البحرية المصرية موقعاً متقدماً في صدارة البحريات العالمية.

وكقاعدة عامة، يمكن القول إن البحريات العالمية تلعب أدواراً استراتيجية في عملية التنمية ولا تقتصر على الأبعاد الدفاعية فقط، وهذه الأبعاد الاستراتيجية يمكن استخلاصها من الرسائل الخمس التي تضمنتها كلمة قائد القوات البحرية الفريق أحمد خالد حسن في افتتاح القاعدة وهى:

1- قيمة مضافة لتنامي القدرات البحرية المصرية: في إطار برنامج التحديث الشامل، حيث تعد قاعدة "3 يوليو" أكبر قاعدة بحرية مصرية على مساحة 10 ملايين متر مربع، ضمن 5 قواعد بحرية جديدة، تشكل مراكز انطلاق للدعم اللوجستي للقوات المصرية في البحرين الأحمر والمتوسط لمجابهة أى تحديات ومخاطر قد تتواجد بالمنطقة، حيث تضطلع بدور رئيسي في عملية تأمين مقدرات مصر الاقتصادية في البحر المتوسط في منطقة من أهم المناطق الاستراتيجية على مستوى العالم، وكذلك مكافحة عمليات التهريب والهجرة غير الشرعية، كما تضم قاعدة "3 يوليو" 47 قطعة بحرية جديدة وحديثة وفق أعلى المواصفات العالمية (2 فرقاطة طراز برجمينى-  فرقاطة جويند - غواصة 209/144 – 10 لنشات مرور ساحلي طويل المدى - 4 لنشات مرور ساحلي 28 متراً- 28 ريب قتالي مدرع للقوات الخاصة - لنش قاطرة).

ويعكس هذا التشكيل البحري عملية هندسية تغطي أربعة متطلبات رئيسية تنسجم والهدف من إنشاء القاعدة بشكل عام (العملياتية – اللوجستية – البنيوية- التدريبية)، وأن تكون البحرية المصرية موجودة في المكان المناسب وفي الوقت المناسب بالقدرات والكفاءات المطلوبة، بالإضافة إلى أن بعض هذه القطع البحرية لا تمتلكها الدول لمجرد حاجتها إلى اقتنائها، كما أن الدول التي تنتجها لا تمنحها إلا في إطار من الثقة في الدولة التي  ستحصل عليها وبالتبعية مدى تأهيل بحريتها، مثل الفرقاطة "بنجمين" التي تعد من أحدث إنتاج البحرية الإيطالية، والتي تمتلك قدرات فائقة ومتنوعة على مستوى الإمكانيات، كذلك الغواصة الألمانية "تايب 209-144" وهى من أهم الغواصات العالمية، كما أنها سلاح حيوي في المهام تحت السطح، وهنا من المهم الإشارة إلى أن التسليح البحري فائق القدرات يمتلك إمكانيات متعددة في المجالات السطحية والعميقة والجوية التي تناسب مهام البحرية، كما أن الفرقاطة "جويند" هى تصنيع مصري، في إطار الشراكة المصرية- الفرنسية بين ترسانة الإسكندرية و"نافال جروب" الفرنسية، وهو ما يعكس، من جانب آخر، مدى تطور بنية الإنتاج العسكري المصري، فضلاً عن لانش "الرفال" أيضاً الذي تضم القاعدة العديد منه.

2- دعم عملية التنمية الشاملة: لا تمثل تلك القدرات مجرد عوامل للتأمين والحماية كضمانة لعملية التنمية المصرية، وإنما هى شريك فيها، وهو طابع يميز البحريات العظمى – كما سلفت الإشارة- التي تقوم بمهام استراتيجية كسلاح المهندسين ضمن البحرية الأمريكية على سبيل المثال الذي يضطلع بدور تنموي منذ تأسيسه في الداخل والخارج، في إطار ازدواجية المهام العسكرية – المدنية، ويلاحظ أن قاعدة "3 يوليو" تتضمن رصيفاً تجارياً بحرياً، بما يعني إمكانية القيام بعمليات لوجستية لخدمات من هذا النوع في تلك المنطقة الاقتصادية الحيوية من العالم، مع العلم بأن نحو 90٪ من حركة النقل التجاري في العالم تتم عبر البحار.

وبمطالعة خريطة الانتشار البحري المصري من ميناء العريش شرقاً حتى قاعدة "3 يوليو" غرباً بالإضافة إلى قاعدة "محمد نجيب"، يتضح أن هذه الخريطة تتوازى مباشرة مع محاور التنمية المصرية في النطاق الشمالي على كافة اتجاهاته الاستراتيجية، وفي السياق ذاته، محور التنمية على سواحل البحر الأحمر، فهى تُؤمِّن مدخل قناة السويس من باب المندب وحتى بورسعيد التي تتواجد بها في الوقت ذاته منطقة اقتصادية، بالإضافة إلى الاستعداد لتنامي عملية التجارة الخارجية في ضوء التعاون الواعد مع العديد من دول الإقليم، مثل العراق والأردن مؤخراً، إلى جانب الأراضي الفلسطينية شرقاً، وليبيا غرباً.

3- تعزيز الدبلوماسية العسكرية المصرية: فقاعدة "3 يوليو" مجهزة للقيام بكافة المهام والتدريبات المشتركة مع الدول الصديقة والشقيقة، وواكب انطلاقها تدشين مناورة "قادر 2020– 2021"، مع العلم بأنه خلال فترة التحديث المشار إليها، اشتركت القوات البحرية المصرية في 34 تدريباً مشتركاً مع 17 دولة و 70 تدريباً عابراً مع كبريات القوات البحرية العالمية وفي مسارح عمليات متنوعة، في إطار التعاون العسكري مع دول شرق المتوسط كقبرص واليونان (مناورات "ميدوزا")، والبحريات الكبرى لاسيما البحريات الأمريكية والأوروبية في البحرين المتوسط والأحمر، بالإضافة إلى البحر الأسود في إطار مناورات "حماة الصداقة" المصرية – الروسية، بالإضافة إلى الإبحار في المجال الحيوي الإقليمي في ظل التعاون المشترك مع السودان وجيبوتي وكينيا وغيرها من الدول، والتعاون مع دول الدول الصديقة المشاطئة للبحر الأحمر، وأغلب دول مجلس التعاون الخليجي، لاسيما السعودية والإمارات والبحرين، كدلالة على تعدد وتنوع العلاقات التعاونية المصرية الإقليمية والدولية، بالإضافة إلى أن تلك التمرينات تعكس كثافة كمية غير مسبوقة كدلالة على القدرات والتأهيل النوعي لعناصر القوات البحرية المصرية على أعلى مستوى. كما أن عامل التصنيع المشترك السالف الإشارة إليه يدخل في إطار مؤشرات بعد الدبلوماسية العسكرية أيضاً.

4- رسالة سلام وأمن وتعاون واستقرار إلى المنطقة: فـ"المنطقة بدون أمن واستقرار لن يكون فيها تنمية"، وهذه المقولة التي ذكرها قائد القوات البحرية تعكس المغزى المتعدد الأبعاد للتوجهات المصرية إزاء عملية تنامي القدرات وفق مستوى عالمي متقدم، حيث تشهد المنطقة توترات غير مسبوقة تاريخياً، ولم تنخرط مصر بشكل مباشر في أى منها، وإنما شكلت معادلة فريدة جمعت بين امتلاك قدرات الردع الاستراتيجي، وتحقيق عملية الدفاع بمجرد إظهار تلك القدرات وكسب المعارك دون إطلاقها، وبين عامل التنمية الذي يتطلب الاستقرار، وعدم الانخراط في حروب مُكلِّفة، بجدوى أو دون جدوى. لقد بلغت كُلفة الصراعات والأزمات في الإقليم على مدار السنوات العشر الماضية تريليون دولار وفق محصلة تقديرات خبراء الأمم المتحدة، كما أن الدول التي انخرطت فيها ستحتاج إلى عقود من الزمن في اللحظة التي يتم فيها التوصل لقرار وقف إطلاق النار، لاستعادة وضعها عند نقطة ما قبل الانهيار (سوريا من 45 - 50 عاماً، اليمن من 26 – 40 عاماً، ليبيا من 1 5- 20 عاماً).

ومع كل مناسبة تبرم فيها مصر صفقة عسكرية نوعية، أو تعلن عن قاعدة جديدة، تتجه بعض القوى لوضع هذه القدرات في حسابات الصراعات. ورغم ذلك، تواصل مصر عملية التحديث دون توقف، كونها تتسق مع رسالتها المعلنة، والتي تراعي أبعاد التوازن الاستراتيجي على المستوى الإقليمي في إطار حسابات البعد الجيوسياسي المصري المتميز، وبعد الأمن القومي المصري، والرهان على دفع مسيرة التنمية، وتعزيز القدرات للتصدي للمخاطر والتهديدات التقليدية وغير التقليدية. فقد ساهمت القوات البحرية المصرية بقواتها الخاصة في عملية مكافحة الإرهاب في سيناء، ونجحت في إنهاء ظاهرة الهجرة غير الشرعية تماماً، منذ سبتمبر 2016 وفق تقارير الأمم المتحدة. وبالتالي فإن هذه المؤشرات تعكس مدى الانخراط في الحد من الصراعات والأزمات وتقويضها، ما يؤكد على واقعية رسائل السلام والأمن للمنطقة.

5- اسم لذكرى عظيمة: التنمية والتحديث هى فكرة وبرنامج عمل تعكس فسلفة، فالسلاح وحده لا يهزم الأفكار الضالة وتنظيمات التطرف والتطرف العنيف، لقد هزمت مصر جماعات التطرف بوحدة عناصرها وقوة مقوماتها وأدواتها، بما فيها تاريخها وثقافتها الحضارية، وهى أسلحة نوعية لا تقل عن الأسلحة بمفهومها التقليدي. في 3 يوليو بدأت مسيرة استعادة الدولة المصرية لعافيتها، وانطلقت بعد ذلك لبناء قدراتها الشاملة التي وردت في ديباجة ونص وثيقة إنشاء قاعدة "3 يوليو". ولا يمكن لأى دولة أن تبني قواتها الشاملة دون تضافر بين كافة عناصرها ونهضتها في الوقت نفسه، وفق رواد نظريات القوة الشاملة مثل راى كلاين وهانز مورجانثو.

في الأخير، يمكن القول إن محصلة هذه المؤشرات تؤكد على أن تميز القوات البحرية المصرية كبحرية "علم أزرق" لم يأت من فراغ، في ظل ما تعكسه طبيعة المنظومة المتكاملة لها في المرحلة الحالية، كما تؤكد على المكانة المثالية للقوات المسلحة المصرية في الوجدان المصري، وقدرتها أيضاً على تلبية متطلبات الأمن القومي المصري وتحقيق التوازن الاستراتيجي في المجال الحيوي. بالإضافة إلى تكاملية الدور الذي تضطلع به القوات المسلحة في إطار خطة التنمية الشاملة للدولة، فضلاً عن مكانتها الرفيعة في قائمة التصنيف الدولي.