منذ الإعلان عن فوز مرشح تيار المحافظين الأصوليين إبراهيم رئيسي بانتخابات الرئاسة الإيرانية، التي أجريت في 18 يونيو الحالي (2021)، جرت مياه كثيرة في مجرى التفاعلات الإيرانية الدولية تحديداً، على نحو يوحي بوجود حرص من جانب إيران والقوى الدولية المعنية بأزمات المنطقة على توجيه رسائل مسبقة تحدد السقف المتوقع للتحركات والمواقف إزاء الملفات الخلافية المختلفة. وبدا لافتاً أن رئيسي نفسه كان أول من وجه تلك الرسائل، في 21 من الشهر الجاري، عندما أشار إلى أنه لن تجرى مفاوضات حول الملف الصاروخي والدور الإقليمي، وهو ما استتبعه إعلان الولايات المتحدة الأمريكية أنها لن تنخرط في مفاوضات من أجل التفاوض فقط وأن الوقت بدأ في النفاد دون الوصول إلى اتفاق أو صفقة جديدة.
لكن الأهم من ذلك كله، هو تحرك إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن على الأرض من أجل تأكيد جديتها في حماية مصالحها وردع إيران عن استهدافها، على نحو بدا جلياً في الضربات العسكرية التي وجهتها، في 28 يونيو الجاري، على جانبى الحدود العراقية- السورية، واستهدفت من خلالها مواقع وقيادات تابعة لـ"كتائب سيد الشهداء" و"كتائب حزب الله العراقي". وتوازى ذلك، مع إعلان إيران أنها لم تتخذ موقف بعد إزاء تجديد الاتفاق الذي أبرمته مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، في فبراير الماضي، ويتيح للأخيرة الاستمرار في بعض المهام الخاصة بالتفتيش على الأنشطة النووية الإيرانية، والذي انتهى في 24 من الشهر الجاري.
هذه التطورات والرسائل المتلاحقة تطرح في مجملها تساؤلات عديدة عن حدود التغيير المحتمل في السياسة الخارجية الإيرانية في عهد رئيسي، واتجاهات العلاقات بين إيران والقوى الدولية تحديداً خلال الأعوام الأربعة القادمة.
اتجاهات مستقرة وتكتيكات متغيرة
نظراً لارتباط ملف السياسة الخارجية لإيران بالتوجهات العامة للنظام، فإنه من المرجح أن تظل قواعد وثوابت هذه السياسة التي تم اتباعها في عهد الرئيس الحالي حسن روحاني قائمة خلال عهد الرئيس الجديد، لاسيما فيما يتعلق على وجه الخصوص بالعلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية عموماً وإسرائيل، إذ أن هذا الملف الحيوي يتم البت فيه من قِبل المؤسسات الأمنية السيادية في إيران قبل أن يكون لرئيس الجمهورية دور بارز في تحديد اتجاهات وآليات التعامل معه.
فعلى سبيل المثال، على الرغم من تولي حكومة المعتدلين في إيران (2013-2021)، إلا أن الانخراط الإيراني في الخارج تصاعد بشكل غير مسبوق خلال هذه الفترة تحديداً ولم يحدث خلال فترة حكم الرئيس المتشدد السابق محمود أحمدي نجاد (2005-2013). وتجاوز هذا الانخراط الإيراني منطقة الشرق الأوسط ليصل إلى مناطق أخرى في أمريكا الجنوبية، من بينها تكرار إرسال إيران لسفن محملة بالنفط، وربما الأسلحة حسب بعض التقارير، إلى فنزويلا.
ولكن "عدم تغيير القواعد" هذا لا يعني، بأي حال من الأحوال، أن علاقات إيران الخارجية في عهد الرئيس الجديد رئيسي لن تشهد تغييرات، حيث إنها من المرجح أن تتسم بالمزيد من التشدد والعداء، في ضوء احتمال الاتجاه إلى تبني إجراءات تكتيكية تساهم في ذلك، ربما من أجل تحقيق الأهداف التي لطالما أعلن عنها المحافظون في إيران بداية من المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي إلى الأمين العام لمجمع تشخيص مصلحة النظام محسن رضايي، الذي تحدث عن ضرورة "الوحدة الكبرى لجميع القوى الثورية وتشكيل حكومة من الثوريين"، إلى صادق خرازي رئيس حزب "نداي ايرانيان" الذي عارض كثيراً تولي رئيس جمهورية إصلاحي في إيران.
وهنا، يُشار إلى أن رئيسي وخلال توليه رئاسة السلطة القضائية في إيران قد كرر كثيراً تصريحات معادية للغرب وواشنطن، حيث قال في وقت سابق أنه "بدلاً من السعي للتواصل مع العالم وخاصة الغرب، يجب اتخاذ إجراءات جهادية في داخل إيران"، على حد وصفه. ولذا، فمن المتوقع أن تتحرك السياسة الخارجية لحكومة رئيسي في إطار توجهات المرشد الأعلى والحرس الثوري على وجه الخصوص الذي كان من الواضح للعيان أنه طرف داعم له في الانتخابات. وفي رؤية اتجاهات عديدة، فإن السياسة الخارجية لرئيسي فيما يتعلق بالغرب عموماً والولايات المتحدة الأمريكية على سبيل الخصوص، تستند إلى "سوء الظن"، وهو ما بدا جلياً من خلال تصريح آخر له في 2016 حين قال: "لم نر في التاريخ بلداً أصبح مقتدراً على يد الغرب وأمريكا". وفي أول مؤتمر صحفي له بعد انتخابه رئيساً للجمهورية، قال رئيسي أنه لن يلتقي الرئيس الأمريكي جو بايدن حتى لو رفعت العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران.
ومع ذلك، فإن بعض المراقبين لا يستبعدون أن تشهد العلاقات الإيرانية مع بعض دول المنطقة تغييرات ملحوظة، لاسيما في حالة ما إذا تم التوصل إلى صفقة جديدة في مفاوضات فيينا، ورفعت معظم العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران، حيث سوف تتجه الأخيرة إلى رفع مستوى علاقاتها الثنائية مع بعض الدول، لاسيما على المستوى الاقتصادي، وهو الملف الذي سوف يحظى باهتمام خاص من جانب حكومة رئيسي التي سوف تسعى إلى اتخاذ إجراءات فورية للحصول على العوائد الاقتصادية المحتملة للصفقة الجديدة.
الملف النووي: تشدد من أجل تنازلات أقل
خلال المناظرة الرئاسية الثالثة بين المرشحين للانتخابات الرئاسية الإيرانية الأخيرة، أکد إبراهيم رئيسي أنه سيعود للاتفاق النووي بصفته تعهداً وافق عليه المرشد الأعلى ولكن مع ضرورة التزام الدول الأخرى به. كما أعلن، في مؤتمره الصحفي الأول، دعمه للمفاوضات التي تجري حالياً في فيينا. ولكن هذا الانخراط المتوقع من قِبل حكومة رئيسي لن يكون على نفس نهج حكومة المعتدلين خلال عهد الرئيس المنتهية ولايته حسن روحاني. إذ أن حكومة رئيسي من المتوقع أن تدير المفاوضات النووية من خلال معادلة "تنازلات أقل ومكاسب أكثر". وهنا، تجدر الإشارة إلى تصريح رئيسي، خلال المؤتمر الصحفي الأول، الذي قال فيه أن "السياسة الخارجية لحكومتنا لن تبدأ من الاتفاق النووي ولن تنتهي به"، مضيفاً أن "أي تفاوض يضمن المصالح القومية، سيلقى الدعم بالتأكيد"، في إشارة إلى ضرورة أن يُفضي الاتفاق النووي إلى تحقيق مكاسب اقتصادية لإيران.
وإلى جانب المكاسب الاقتصادية، يعارض الرئيس الإيراني الجديد طرح ملف الصواريخ الباليستية لبلاده على طاولة المفاوضات. وسبق أن أكد رئيسي، قبل ذلك خلال حوار له مع قناة "المنار" الناطقة باسم "حزب الله" اللبناني مطلع شهر يناير 2021، على رفض التفاوض حول مسألة الانخراط العسكري لبلاده في الإقليم قائلاً أن "الأكثر أهمية من القوة الدفاعية والصاروخية هى القوة الإقليمية لإيران"، بل إنه أضاف: "لن تتشكل اليوم أية معادلة في المنطقة بدون وجهة نظر والرأي المناسب للجمهورية الإسلامية".
وهنا، لا يمكن استبعاد أن يكون للرد الإيراني غير الواضح تجاه تجديد الاتفاق مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، صلة مباشرة بما جاء على لسان رئيسي في الفترة الأخيرة. فضلاً عن أنه لا يمكن أيضاً استبعاد أن يرتبط أى رد محتمل من جانب الميليشيات الموالية لإيران في العراق وسوريا على الضربات العسكرية الأمريكية الأخيرة بحسابات طهران في مرحلة ما بعد انتخاب رئيسي رئيساً للجمهورية، بالتوازي مع استمرار إجراء مفاوضات فيينا بين إيران ومجموعة "4+1" بمشاركة أمريكية غير مباشرة.
العلاقات مع واشنطن: نحو مزيد من التوتر
رغم أن الوصول إلى صفقة محتملة ما زال احتمالاً قائماً، في ظل رغبة الطرفين في استمرار العمل بالاتفاق النووي، فإن ذلك قد لا يفرض تداعيات إيجابية على العلاقات بين إيران والدول الغربية، لاسيما الولايات المتحدة الأمريكية. إذ من المتوقع أن يستمر التوتر عنواناً رئيسياً للتفاعلات بين الطرفين خلال المرحلة القادمة، وذلك لاعتبارات عديدة: يتمثل أولها، في أنه على النقيض من المعتدلين، لا يبدي رئيسي ثقة كبيرة في إمكانية تحسين العلاقات مع واشنطن، والغرب بوجه عام، وهو التوجه العام الذي يتبناه النظام ويعبر عنه المرشد الأعلى للجمهورية باستمرار. وقد وصف رئيسي في تصريحات سابقة في مايو 2021 الولايات المتحدة الأمريكية بأنها كان "لديها دائماً خطط استكبارية فيما يتعلق بإيران"، مضيفاً أن "أية إدارة تولت هناك اتبعت هذه السياسة". وعليه، يرجح أن يتبنى رئيسي نهجاً مشابهاً لنهج حكومة الرئيس السابق أحمدي نجاد إزاء الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية بصفة عامة.
وينصرف ثانيها، إلى أن قضية رفع العقوبات عن إيران ستستمر كإحدى أبرز محاور الخلاف الرئيسية بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية؛ إذ أن إيران ما زالت مصرة على ضرورة رفع جميع العقوبات المفروضة عليها، وهو أمر مستبعد، باعتبار أن واشنطن سوف ترفض ذلك مستندة في هذا السياق إلى أن هناك عقوبات لا ترتبط بالملف النووي مباشرة وتتصل بملفات أخرى مثل انتهاكات حقوق الإنسان ودعم الإرهاب.
ويتعلق ثالثها، بإصرار إيران على رفض إدراج الملف الصاروخي والدور الإقليمي في المفاوضات، وهو موقف يبدو أنه سوف يتواصل خلال المرحلة القادمة، لاسيما أن رئيسي حريص على التماهي مع التوجهات العامة للنظام والمرشد والحرس الثوري، خاصة تجاه هذه الملفات تحديداً.
متشددون في إسرائيل وإيران: ماذا بعد؟
ربما يؤدي وصول اليمين المتشدد إلى السلطة في كل من إيران وإسرائيل إلى تصعيد حدة المواجهة بين الطرفين خلال المرحلة القادمة، على نحو بدا جلياً في مسارعة وزير الخارجية الإسرائيلي يائير لابيد (الذي سيتولى رئاسة الحكومة الإسرائيلية في أغسطس 2023 في حالة استمرار الائتلاف الحالي في الحكم) إلى وصف الرئيس الإيراني الجديد بـأنه "جزار طهران" و"متطرف" و"ملتزم بطموحات النظام النووية وحملته للإرهاب العالمي". ولا يتوقع بناءً على ذلك أن تتراجع حدة التصعيد والتوتر بين الطرفين، حيث قد تتجه إسرائيل مجدداً، لاسيما في حالة الوصول إلى صفقة نووية في فيينا، نحو شن مزيد من العمليات الأمنية داخل إيران لعرقلة الأنشطة النووية الإيرانية التي ترى أنها وصلت إلى مستوى من الخطورة لا يمكن التسامح معه، وأن أى صفقة محتملة في فيينا لن تنجح في احتواء هذه الخطورة على نحو سيدفعها إلى التحرك منفردة للتعامل مع ذلك وفقاً لرؤيتها ومصالحها.
في النهاية، يمكن القول إن التوتر سوف يبقى سمة رئيسية للعلاقات الإيرانية الخارجية، في عهد الرئيس الجديد، ليس فقط نتيجة لتوجهاته اليمينية المتشددة، وإنما أيضاً لأن أى مسار محتمل للمفاوضات الجارية في فيينا سوف ينعكس مباشرة على تفاعلات إيران مع الخارج، خاصة أنها لن تقدم تنازلات في الوقت نفسه في الملفات التي لا تقل أهمية عن البرنامج النووي، ولاسيما برنامج الصواريخ الباليستية والدور الإقليمي.