أحمد عليبه

خبير- مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

تكشف محصلة الفارق ما بين مخرجات مؤتمر برلين الأول فى 19 يناير 2020 والثاني بعد قرابة عام ونصف العام فى 23 يونيو 2021 حول القضية الليبية، عن عدة مؤشرات، فى مقدمتها التأكيد على أن مؤتمر برلين لم يعد يشكل فقط مجرد صيغة مرجعية للمرحلة الانتقالية فى ليبيا، وإنما أيضاً آلية متابعة مستمرة لتقييم مدى التشابكات والتوافقات الدولية والإقليمية وانعكاساتها على الساحة الداخلية بحسب المراحل المتعاقبة.

المؤشر الآخر أنه أصبحت هناك سلطة تنفيذية موحدة ممثلة عن ليبيا شاركت فى الجولة الثانية لبرلين، كدلالة على تجاوز مرحلة الانقسام السياسي الليبي، بالإضافة إلى متابعة ودفع آليات العمل الوطنية المنبثقة عن برلين وما يوازيها من مؤتمرات ولقاءات جنيف المتعددة كآلية ملتقى الحوار السياسي الليبي الذي يشكل كياناً أقرب إلى صيغة "المؤتمر الوطني".

وبالتبعية، شخصت النسخة الثانية من برلين المهددات والعقبات والإشكاليات التي لا تزال قائمة كاستمرار حالة الانقسام في بعض المؤسسات والتي ستؤثر على إنجاز العملية السياسية الليبية وفقاً للجدول الزمني واستحقاقات خريطة الطريق، إضافة إلى تسليط الضوء على ملفات أخرى لاتزال متعثرة، مثل المصالحة الوطنية والتوزيع العادل والمتناسب للثروة، وقضايا حقوق الإنسان، وملف مكافحة الإرهاب، وتنامي حضور المرتزقة الأجانب فى الجنوب الليبي فى إطار معالجة ملف المرتزقة الأجانب والقواعد العسكرية الأجنبية بشكل عام. وبالتالي، فإن "برلين 2" تناول قضايا وتطورات طارئة لم تكن قائمة فى المؤتمر السابق، حيث تزايدت القواعد العسكرية الأجنبية بالإضافة إلى تضاعف ظاهرة المرتزقة الأجانب فى البلاد.

وقد قسمت وثيقة مخرجات "برلين 2" -التي وردت فى 58 بنداً- إلى أربعة ملفات: الأول، ملف العملية السياسية. والثاني، ملف الأمن. والثالث، ملف الإصلاحات الاقتصادية والمالية. والرابع، ورد تحت بند احترام القانون الدولي والإنساني وحقوق الإنسان. وبالإضافة إلى ذلك، كان من اللافت أن الوثيقة لم تتضمن ديباجة وخلاصة، وحولت ما يمكن اعتباره كذلك إلى بنود محددة حتى يمكن اعتبارها بمثابة قواعد حاكمة وليس مجرد استهلالة وختام. ويمكن تناول هذه المحاور والملفات فى سياق الأطر التالية:

المشاركون وطبيعة الالتزامات والتعهدات

اشتملت البنود من 1-11 على القوى والأطراف المشاركة، والتي تضم ألمانيا -الدولة المضيفة للمؤتمر بالمشاركة مع الأمم المتحدة- بما يعني أنها ليست فقط هى الجهة الداعية للمؤتمر على نحو ما كان عليه الأمر فى الجولة الأولى للمؤتمر، حيث أن إشراك الأمم المتحدة يعكس قوة المؤتمر ويمنح مخرجاته حجية، إذ يحال إلى المنطمة الدولية لإقراره على نحو ما بات يجري فى كافة اللقاءات والجولات الليبية التي باتت تتطلب وتتمسك بهذه الحجية.

كذلك شاركت الولايات المتحدة والصين وروسيا والكونغو الديمقراطية -التي تترأس الاتحاد الأفريقي- ومصر وفرنسا وهولاندا وتركيا والجزائر وتونس وبريطانيا والاتحاد الأفريقي، ومن ثم حلت تونس التى تغيبت عن المؤتمر الأول، فيما غابت المغرب التي شاركت فى النسخة السابقة، كما أصبحت ليبيا عضواً فى المؤتمر بعد تشكيل السلطة التنفيذية الموحدة، بينما كان ممثلون عن الأطراف الليبية قد حضروا فى الجولة السابقة على هامش المؤتمر.

وقد حددت المادة الثالثة من هذه المواد الإنجازات التي تحققت وأوردتها فى 4 نقاط أساسية وهى: وقف إطلاق النار، واستئناف إنتاج النفط، واستئناف الحوار السياسي تحت رعاية الأمم المتحدة، وتشكيل السلطة التنفيذية ومصادقة مجلس النواب عليها. كما حددت فى المواد من 5-6 الملفات التي تتعلق بالاستحقاقات المطلوبة لاستكمال خريطة الطريق، والتي اعتبرت الملفات التي تشكل معالجتها ضرورة للتعامل مع الأسباب الجذرية للصراع الليبي، وتعزيز السيادة الليبية، وقد ركزت بشكل جوهري على ملف الانتخابات الرئاسية والتشريعية التي توافق الجميع على إنجازها فى موعدها المقرر فى 24 ديسمبر 2021 والقبول بنتائجها، تليها الملفات الخاصة بالترتيبات الدستورية والتشريعية، ثم ملف القوات الأجنبية والمرتزقة دون تأخير، ثم ملف الشفافية والعدل فى توزيع الموارد. وبعد ذلك يأتي ملف عملية المصالحة والعدالة الانتقالية الشاملة والقائمة على حقوق الإنسان. وفى المواد من 7-11 من هذا الجزء، تناولت الوثيقة التعهدات الخاصة بالأطراف المشاركة والمنظمات الدولية والإقليمية والبعثة الأممية وحكومة الوحدة الوطنية والمجلس الرئاسي.

فى هذا السياق، من المتصور أن الوثيقة بدت متوازنة فى استعراض القضايا الرئيسية التي سيتم تناولها تباعاً عبر باقي مواد الوثيقة، وبالتالى شكلت مدخلاً لها يحمل تعهدات الأطراف تجاهها كنوع من المسئولية الدولية والإقليمية إزاء ليبيا، ولكنها حملت الملاحظة الوحيدة التي وضعت فى هامش الوثيقة وهى تحفظ تركيا على جملة (يتعين سحب جميع القوات الأجنبية والمرتزقة من ليبيا دون تأخير) والتي وردت فى نص المادة الخامسة من الوثيقة. وفى واقع الأمر، فإن هذا التحفظ لا ينعكس فقط على ما تضمنته هذه العبارة، وإنما على المادة بأكملها، لعدة اعتبارات، منها أنه لا يمكن القول أن وجود تركيا كقوة أجنبية لا يشكل تهديداً لسيادة ليبيا، كما يثير هذا الملف فى الوقت نفسه إشكالية أخرى، وهى "إشكالية التحديد" بالنسبة للقواعد الأجنبية، ففى أعقاب "برلين 1" أعلنت المبعوثة الأممية بالإنابة ستيفاني ويليامز أن هناك 10 قواعد أجنبية فى ليبيا، وبما أن تركيا تحتل 3 قواعد منها، فهناك 7 قواعد أجنبية أخرى بها قوات أجنبية، يعتقد أن هناك توازناً روسياً – تركياً فى العدد وبالتالى على الأقل هناك 4 قواعد عسكرية أجنبية لم يرد ذكرها أو مخاطبة القوى المعنية بشأنها.

وفى حين أن نص الوثيقة يحمل التعهدات، فإن عدم قبول تركيا بهذه التعهدات، مقابل إصرار القوى الدولية على إنهاء الوجود الأجنبي، يكشف عن مدى التعقيدات الخاصة بها، والتي نوقشت وفق تقارير وبيانات رسمية، تبنى عن مايلي:

1-  هناك انفراجة نسبية فى معالجة ملف المرتزقة أولاً، وهو ما أشارت إليه تصريحات الخارجية الأمريكية، وتصريحات وزيرى الخارجية الألماني والليبي، حول التوصل إلى جدول زمني واضح لإجلاء المرتزقة، وسيبدأ فى تنفيذه قريباً، وأشارت العديد من التقارير إلى أن الولايات المتحدة ركزت على هذا التوجه فى إطار المؤتمرات الدولية التي عقدت الشهر الجاري، منها مجموعة (G7)، ومؤتمر حلف شمال الأطلسي "الناتو"، وخلال لقاء بوتين– بايدن، وفيما أشارت الخارجية الأمريكية إلى أن الدور الروسي فى ليبيا مقلق، فإنها فى الوقت ذاته أشارت إلى ضرورة إنهاء الوجود الأجنبي بما فيه الوجود التركي.

2-  ما تكشف عنه التصريحات والتقارير خلال برلين وما سبقها من أن هناك صفقة تجري فى الكواليس حول خروج متناسب ومتزامن، بمعنى أن كل فريق سيخرج عدداً من المرتزقة يعادل الآخر، فى حين أن التقديرات الأممية تكشف أن أعداد المرتزقة تصل إلى 18000، ثلثيهم تقريباً جلبتهم تركيا، وبالتالى سيكون هناك خلل فى التناسب، كما أن عملية التناسب والتزامن تعني أن هذا السياق سيتم وفق آلية تم التوافق حولها للإشراف على العملية وتمويلها. لكن فى المقابل، فإن التقارير الروسية والتركية غير الرسمية تلمح إلى أن من سيشملهم الإجلاء هم "المرتزقة السوريين"، ما يؤكد على ذلك التسريبات الواردة بشأن ترتيبات بين موسكو وأنقرة فى هذا الإطار.

3-  إبداء بعض الأطراف تحفظات على ضمانات بشأن مصالحهم الاقتصادية فى ليبيا، وبالنسبة لتركيا هناك اتفاقيات كانت مبرمة مع النظام السابق وأخرى لاحقة فى عهد حكومة الوفاق وتم إقرار التزام حكومة الوحدة الوطنية بها، أما بالنسبة لروسيا فتم التعهد لها بضمان مصالحها الاقتصادية بشكل مشروط يتعلق بضمانات الأمن الأوروبي، وبالتالى فإن هذا الملف هو قاسم مشترك بين الملفات الثلاثة الاقتصادي والأمني والسياسي ويتم التعامل معه بسياسة "الخطوة خطوة".

وفى واقع الأمر، لم يعد ملف المرتزقة فى ليبيا مرتبطاً فقط بهذه الأطراف سواء بشكل رسمي أو عبر شركات المقاولات التي تتولى إدارة أوضاعهم، والتي رصدتها تقارير خبراء الأمم المتحدة، وأغلبها فى الجنوب الليبي، ووضعها أكثر تعقيداً من حالة المرتزقة المشار إليها لأنها غير منظمة بنفس الشكل، وتتمدد فى منطقة رخوة أمنياً، ولديها قدرة على تجنيد المزيد من العناصر من العديد من دول الجوار، وتشابكت مصالح هذه المجموعات مع مجموعات أخرى منها ميليشيات محلية، وعصابات الجريمة المنظمة المتخصصة فى عمليات تهريب السلاح والبشر والنفط والثروات الاستخراجية، وجماعات التمرد، وتنظيمات التطرف والإرهاب، وأصبحت لديها أجندات عابرة لليبيا لكنها تتعايش فى بيئة حاضنة توفر لها مزايا متعددة.

ملف العملية السياسية

وهو الملف الذي تم تناوله فى 12 فقرة فى الوثيقة وهى الفقرات من (12- 23) والتي تعكس بدورها عدداً من المؤشرات، يتمثل أبرزها في التأكيد على الآليات التي تتولى إدارة العملية السياسية، والتي تتمثل فى الملتقى السياسي ومجلس النواب والمجلس الرئاسي وحكومة الوحدة والمجلس الأعلى للدولة، والتي تم تناولها فى المواد من 12- 14 ودعتها إلى القيام بواجباتها ومسئولياتها خلال المرحلة الانتقالية.

أما باقي المواد فتنقسم إلى خمس محاور تتعلق بشكل جوهري بملف الانتخابات من حيث الالتزام بموعدها، ما يتطلب إنجاز التشريعات المتعلقة بها من خلال البرلمان، بالإضافة إلى العمليات اللوجستية الخاصة بالمفوضية العليا للانتخابات وتمويلها اللازم، ودور الملتقى السياسي فى إنجاز القاعدة الدستورية، ودعوة مجلسى النواب والدولة إلى الاتفاق على المناصب السيادية، فضلاً عن العمل على الالتزام بوقف إطلاق النار ومقرراته بهدف توفير البيئة الآمنة لإجراء الانتخابات.

وعلى المستوى العملي، بلورت هذه المواد حالة التوافق الدولي على عملية الانتخابات، والالتزام بموعدها، وهى تحصيل حاصل لمواقف كافة المشاركين فى المؤتمر من قبل، لكن لم تحل دون إبداء العديد من المخاوف، التي أشار إليها الأمين العام للأمم المتحدة انطونيو غوتيريش فى مداخلته الافتتاحية، والتي ألمح فيها إلى تداعيات هشاشة الوضع الأمني على العملية السياسية، وهى نفس التلميحات التي أشار إليها رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد دبيبة فى مداخلته لكنه كان أكثر تحديداً بإلقاء المسئولية على عاتق اللجنة العسكرية المنوطة بتلك الملفات. لكن هذه التلميحات إجمالاً جاءت فى سياق احتمال أن يكون الوضع الأمني سبباً فى تأجيل عملية الانتخابات. بالإضافة إلى التعقيدات السياسية التي تمت الإحالة إليها فى عهدة الملتقى السياسي، والذي تم الإعلان عن انعقاده فى جنيف فى 28 يونيو الجاري. وهنا يمكن الإشارة إلى عدة نقاط وهى:

1-  هناك تشابكات معقدة بين كافة الملفات السياسية التي تطرقت إليها بنود العملية السياسية، فالقاعدة الدستورية لا تزال محل خلاف، لاسيما فيما يتعلق بعملية الاستفتاء على الدستور، والتزامن بين عملية الانتخابات التشريعية والرئاسية، وطريقة انتخاب الرئيس عبر الاقتراع المباشر أو عبر البرلمان، وفى هذا الصدد فشلت لقاءات عديدة بين مجلسى الدولة والنواب المعنيين بهذه الملفات خلال الأشهر الثلاثة السابقة، فى حوارات غير مباشرة فى المغرب، التي لم تحضر لقاء "برلين 2"، فكل طرف يضع قواعد خاصة به يحاول دفع الطرف الآخر إلى  القبول بها، فعلى سبيل المثال شكل مجلس البرلمان لجنة لتلقي ترشيحات المناصب السيادية، وبعد فشل لقاء المغرب الشهر الماضي، شكل مجلس الدولة لجنة مماثلة ولم يعترف بالأولى، ثم ربط رئيس مجلس الدولة الملف بإنجاز ملف توحيد المؤسسة العسكرية، وبعد ذلك أدرج منصب رئيس المفوضية العليا للانتخابات ضمن المناصب السيادية، وطعن فى دور المفوضية، وهكذا بدا أن هناك مركزى قوة كلاهما لا يسعى إلى الحسم بالنظر لخلفيات سياسية، أبرزها موقف جماعة الإخوان المسلمين التي تصر على الانتخاب غير المباشر لرئيس الدولة وأن يتم عبر البرلمان كونها تدرك أنها لا تمتلك القاعدة الاجتماعية التي يمكن أن تفرز رئيس موالٍ لها، فإما أن تأتي بالمشير حفتر حال ترشح لهذا المنصب، أو سيف الإسلام القذافي أيضاً حال سمح له بذلك، لذا تسعى إلى إدراج بند يمنع العسكريين من الترشح وتقديم ما يفيد تقاعدهم بالإضافة إلى ما يتعلق بالحالة الجنائية.

2-  الدوران فى دائرة مفرغة، فلم تتمكن اللجنة القانونية من الانتهاء من الصياغة النهائية للقاعدة الدستورية، وأحيلت للبرلمان ولم يتمكن من حسمها، فأحالها المبعوث الأممي يان كوبيش إلى الملتقى السياسي وفشل الأخير أيضاً، وبالتالي ستعاد الكرة مرة أخرى بالمعكوس، عبر الملتقى السياسي وصولاً إلى البرلمان، وتعكس مواقف الأطراف أنه كانت هناك مساعٍ إلى ابرام صفقة، لكنها لم تتم فى أىٍ من تلك الجولات السابقة، وإن لم يتم التوصل إليها على هامش الملتقى السياسي سيكون من الصعب إنجاز هذا الملف. ومن المتصور أن إبرام صفقة فى كافة تلك الملفات هو أمر صعب، وبالتالي قد ينجز بعضها ويُرحَّل بعضها الآخر، بالنظر لوجود طلب دولي وضغط على الأطراف لإنجاز هذه المهمة، ولكن يظل السيناريو الأقرب للواقع هو البدء بما يمكن بأى من تلك الاستحقاقات كبالونة اختبار، فعلى سبيل المثال، لو تم إنجاز القاعدة الدستورية والتوافق على الاستفتاء عليها، سيتنحى خيار التصويت على إعلان دستوري عبر البرلمان، وسيجري الاستفتاء، وإن حصل الدستور على موافقة الشعب سيرسم ذلك خريطة الطريق التالية، والعكس لو تم رفضه فلن يكون هناك مفر من تأجيل عملية الانتخابات. والخيار الثالث الذي يسعى مجلس الدولة إلى تبنيه هو خيار الدستور المؤقت أيضاً، وهو طرح جدلي لكنه قد يعتمد كخيار صفقة أيضاً.

الملف الأمني

تضمن هذا الملف 14 بنداً من (24- 37) تم التأكيد خلالها على الاستمرار فى الحفاظ على قرار وقف إطلاق النار ودعم لجنة (5+5) العسكرية، فى ما أنجزته من ملفات ودعوتها للاستمرار فى العمل على توحيد المؤسسة الأمنية وفق اتفاق القاهرة، والدعوة لتطبيق قرارات مجلس الأمن ذات الصلة بحظر التسلح. كما أعرب المشاركون عن قلقهم تجاه الأوضاع الأمنية فى الجنوب، بسبب تكديس الأسلحة بشكل مخل وتدفق المجموعات المسلحة، داعين حكومة الوحدة والمجلس الرئاسي إلى تأمين كافة حدود البلاد، واستعادة احتكار الدولة للقوة والعمل على مكافحة الإرهاب، كما تمت الإشارة إلى عملية تسريح وإعادة إدماج المقاتلين بشكل فردي.

ويمكن إبداء ملاحظات عديدة على ما تناوله هذا الملف تحديداً، وذلك على النحو التالي:

1-  هناك مبالغة فى الإشارة إلى ما تم إنجازه فى هذا الملف، لاسيما دور لجنة (5+5) العسكرية، خاصة وأنه تم التركيز على فتح الطريق الساحلي، وهى عملية شكلية تماماً، حيث قام رئيس الوزراء عبد الحميد دبيبة بإزالة ركام عند إحدى النقاط، معلناً بذلك فتح الطريق الساحلي، فى حين أن القوات على الأرض من الجانبين شرقاً وغرباً أكدت على أن هذا الأمر لم يحدث وأنه وضع مؤقت لأن هناك عقبات كثيرة لا تزال قائمة، وفى واقع الأمر عكست تصريحات الطرفين عدم الرغبة فى فتح الطريق، لكن تم تمرير الأمر كنوع من الدعاية قبل مؤتمر برلين بأيام.

2-  يكشف هذا المشهد أن كافة البنود والملفات الأخرى التى أحيلت إلى المجلس الرئاسي والحكومة ومجموعة (5+5) تفوق قدراتها من الناحية العملية، وأن ميزان القوى لا يزال فى يد المجموعات المسلحة فى الغرب، وفى المقابل ترفض القيادة العامة فى الشرق أن يتم الأمر بشكل دعائي قبل تلبية الاستحقاقات المطلوبة، والتي أكد عليها المتحدث باسم القيادة أكثر من مرة مشترطاً إبعاد الميليشيات وإخراج المرتزقة وإنهاء الوجود العسكري الأجنبي، وهو ما ترد عليه المجموعات المسلحة فى الغرب بالصيغة نفسها.

3-  اختزل البند 28 من الوثيقة الوضع الأمني فى الجنوب بالإعراب عن القلق إزاء ما يحدث وأحال الأمر إلى السلطة التنفيذية بشكل كامل لإحكام الحدود، وتقويض نشاط المرتزقة والميليشيات، وهى أيضاً عملية صعبة إن لم تكن مستحيلة كلية أن تضطلع بها السلطة التنفيذية، بالإضافة إلى أن مؤشرات العلاقة بين الحكومة والرئاسي من جهة والقيادة العامة من جهة أخرى تعكس تباعداً وتبايناً واضحاً فى التوجهات الخاصة بالتعامل مع هذه الملفات، بدأت بعدم تلبية رئيس الحكومة لحضور عرض عسكري فى ذكرى تأسيس الجيش الوطني، بينما ظهر بعدها فى احتفال عسكري بتخريج دفعات عسكرية فى الغرب وبحضور عناصر محسوبة على المجموعات المسلحة، وتبع ذلك صدور بيان من الرئاسي يشير إلى رفضه للاحتفال العسكري، لكن المحك الرئيسي كان فى وقوع عملية إرهابية فى الجنوب ونشوب صراع بين الميليشيات (من الزاوية والعجيلات) ليكشف مدى هشاشة الوضع الأمني ومخاطره من جهة وتحدي بناء الثقة بين الطرفين من جهة أخرى، ويؤكد على خرائط النفوذ من جهة ثالثة، حيث أعلنت القيادة العامة عن نشر قوات فى الجنوب، ورغم صعوبة ذلك، لكن يظل فى المقابل أنها منطقة نفوذ للجيش الوطني.

الملف الاقتصادي

وتضمن هذا الملف 11 بنداً من (38 – 48)، شملت دعوة السلطة التنفيذية إلى القيام بعمليات الإصلاح المطلوبة فى الخدمات العامة وتحسين المرافق، والإشادة بشفافية الإنفاق العام، ومطالبة مجلس النواب باعتماد الموازنة، ودعوة مجلس الأمن إلى رفع قرار تجميد أصول المؤسسة الليبية للاستثمار، التي أفرد لها مادتين (46 – 47) كدلالة على أهمية هذه الخطوة. ويمكن التطرق إلى هذا الملف فى إطار عدد من الأبعاد ومنها:

1- باستثناء الإشادة بدور السلطة التنفيذية، تعكس كافة البنود فى هذا الملف مصالح الأطراف المشاركة فى مؤتمر برلين، والتي تسعى إلى الاستفادة من الاستقرار النسبي فى ليبيا، والحصول على مكاسب من عملية تشغيل البنية النفطية، وملف إعادة الإعمار والاستثمارات التي ستتولاها المؤسسة الليبية للاستثمارات.

2- لم يتم التطرق فى هذا السياق إلى تقارير الأمم المتحدة والبنك الدولي حول مستوى التسرب المالي من العوائد المالية، وحجم الموارد المالية والأصول التي تديرها القوى المحلية مثل المجموعات المسلحة خارج نطاق القانون والتي تبلغ مليارات الدولارات، بالإضافة إلى الصراعات القائمة على مناصب اقتصادية مثل المصرف المركزي بين القوى المختلفة، وفى إطار حسابات ومساومات سياسية، وهو ما يتعارض مع النزاهة والشافية التي أشار إليها البند 45.

3- الملف الاقتصادي هو الملف الوحيد بين كافة الملفات الذي تم فيه عرض القيام بجهود ودعم ومساعدة السلطات الليبية على إدارته، وهو ما يؤكد على عامل المصلحة، بالإضافة إلى أنه فى كل عبارة يتحدث عن الاستقلالية والنزاهة وتناول المؤسسات وفروعها وإدارتها وسياساتها بشكل مفصل، وفى المقابل فإن البنود الخاصة بعدالة توزيع الثروة كانت مجرد شعارات وتم تناولها بشكل عابر.

احترام القانون الدولي وحقوق الإنسان

تم التطرق إلى هذا الملف فى 8 بنود، تشمل الإشادة بالخطوات الأولى التي قامت بها الحكومة والمجلس الرئاسي فى عملية المصالحة وحماية المدنيين، ودعوة دول الجوار، لاسيما الجزائر، إلى مشاركة ليبيا فى تجربة المصالحة الأهلية، وإدانة العمليات غير المشروعة من الإتجار فى البشر وملاحقة المسئولين عن ذلك، ومساعدة السلطات فى ملف الهجرة غير الشرعية.

ومن الواضح أن هذا الملف أدرج بشكل كامل لتفصيل عدد من القضايا التي تبدو ظاهرياً قضايا برتوكولية، ولكنها تتعلق فى الوقت ذاته بأزمات متنامية على الساحة الليبية، وبالإضافة إلى اختزال الكثير منها فى ردها إلى اعتبارات القانون الدولي وحقوق الإنسان، فإنها فى الوقت نفسه لم تعكس مسئولية القوى الأوروبية تحديداً المعنية بهذا الملفات، فى حين أن الحكومة الانتقالية ذاتها كررت عدم قدرتها على التعامل مع هذه الملفات.

فى الأخير، يمكن القول إنه على الرغم من أن وثيقة برلين استعرضت بشكل منظم وتراتبي كافة القضايا والإشكاليات، لكنها فى أغلب بنودها بدت برتوكولية، وتستعرض بيانات الإشادة والترحيب، لكنها لم تتطرق إلى التفاصيل فى كافة الملفات لتفادي المناطق الشائكة فيها، لدرجة أنها أدرجت التحفظ التركي على بند يكاد يعرقل كافة الجهود ويعيد تصميم الصراع المسلح مرة أخرى فى حال عدم هندسته بما يتوافق والمصالح التركية، دون أن يكون هناك حزم فى هذه الملفات.

من المتصور أن هناك إصراراً على العملية الانتخابية بشكل أساسي بغض النظر عن ما إذا تمت تلبية استحقاقات خريطة الطريق بشكل إجمالى من عدمه، فلا شك أن الملف الأمني سيظل متعثراً، والسياسي بالتبعية سيعتمد على طبيعة موازين القوى، وبالتالي يمكن القول إن مقاربة العلاقة بين الملفين تكشف عن أن عملية وقف إطلاق النار وما تلاها من ترتيبات هى مجرد سياق كاشف عن نقطة توازن فى المعادلات العسكرية، لكن قواعد الاشتباك لم تتغير ومن السهل العودة إلى مشهد الصراع فى ظل بيئة هشة، بل إن معطيات الهشاشة فى تزايد، وهناك محاولة لفتح جبهة توتر خلفي عبر الجنوب كأزمة إضافية.

هناك محاولة للإسراع فى تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية وتمرير الموازنة الحكومية وفتح مجالات الاستثمار وإعادة الإعمار بالنظر لمصالح القوى الدولية والإقليمية، بغض النظر عن ما إذا كان ذلك يكافىء دفع باقي المسار السياسي من عدمه، وبالتالى تحول الإطار العام إلى عملية شكلية، بينما لا تزال مفاعيل الصراع والاستقطاب السياسي والدولي والإقليمي قائمة على حالها.

وتبقى مظلة برلين تشكل فرصة كآلية عمل، ولكن مستوى فعالية ما تتضمنه من آليات رهن التجربة والقدرة على إبرام صفقات تحقق مصالح كافة الأطراف، وبالتالي فالفرصة الوحيدة للحفاظ على الاستقرار النسبي هى محاولة الوصول إلى نقطة توازن فى تلك المصالح على كافة المستويات.