عبير ياسين

خبيرة - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

لعل السمة الأساسية المسيطرة على المشهد الفلسطيني- الإسرائيلي الراهن هي زيادة فرص التصعيد وتحديات الحفاظ على التهدئة التي أنهت حرب غزة الأخيرة في 21 مايو الماضي (2021). تصعيد يظهر واضحاً في أخبار وكتابات وتسريبات إسرائيلية عن الاستعداد لمعركة "حارس الأسوار ٢"، في إشارة للاسم الذي أطلقته إسرائيل على حرب غزة، والتي أطلقت عليها فصائل المقاومة في القطاع اسم "سيف القدس".

وعلى الرغم من تصاعد وتراجع فرص التصعيد منذ إعلان التهدئة، فإن هناك العديد من العوامل التي تزيد من تعقيدات المشهد في المرحلة الحالية وتطرح سيناريوهات مختلفة عن التطورات المستقبلية على هامش إعلان الحكومة الإسرائيلية الجديدة وانعكاسات "مسيرة الأعلام" في القدس، وما ارتبط بها من إطلاق "البالونات الحارقة" من غزة، والحديث عن قواعد اشتباك جديدة بين الفصائل وإسرائيل. أوضاع نقف فيها في مواجهة سيناريو التطور إلى حالة حرب أخطر وأكثر تأثيراً من سابقتها في حالة تجاوز مرحلة ضبط النفس والسماح بتصعيد المواجهات في القدس والأقصى أو القطاع، مقابل سيناريو الحفاظ على التهدئة والتوصل إلى هدنة وصفقة أسرى ومسار سياسي يسمح بإعادة ترتيب البيت الفلسطيني، وما بينهما من سيناريو الصفقة والتهدئة متوسطة المدى دون أفق واضح للمصالحة والتسوية.

وفي ظل السياق العام، يمكن القول إن عوامل التصعيد لا تتحرك بشكل منفرد، ولكنها تتحرك في سياق تتواجد فيه أسباب منطقية للحفاظ على التهدئة وضبط النفس سواء على صعيد الداخل الفلسطيني والإسرائيلي، أو على صعيد الموقف الأمريكي والمواقف الإقليمية. بدورها تتوقف المحصلة النهائية على التفاعل بين الفصائل وإسرائيل، والوقائع الفعلية على الأرض، ودور مصر وغيرها من القوى التي تدعم جهود التهدئة والتوصل إلى صفقة.

ومن شأن تسارع جهود التوصل إلى منجزات في ساحة صفقة الأسرى وإعادة إعمار غزة، مع تقييد حركة اليمين الإسرائيلي والمواجهات التي تتم من أجل بناء المزيد من المستوطنات في الضفة الغربية، من شأنها تخفيف فرص التصعيد والسماح بفترة هدوء قد تؤدي إلى توافقات فلسطينية تمهد لمسار سياسي على صعيد التسوية. في حين يهدد الدخول في حرب جديدة فرص التسوية والدولة المنتظرة في ظل تصاعد اليمين الإسرائيلي والاستيطان بكل ما يمثله من تآكل للأراضي الفلسطينية وتراجع فرص التسوية في وقت يتزايد فيه الحديث عن تهديدات إسرائيلية باستهداف قادة فصائل المقاومة، والعودة للحديث عن سيناريو السيطرة على غزة من أجل القضاء على حماس وغيرها من فصائل المقاومة بشكل لا يهدد جهود التهدئة فقط ولكن يهدد الاستقرار والسلام الإقليمي أيضاً.

لهذا وفي ظل التفاعلات الراهنة، ورغم توافر أسباب التصعيد على ساحة القدس والهجمات الإسرائيلية على غزة، ظلت الأجواء هادئة نسبياً وخطاب الفصائل في مجمله، ورغم وجود اختلافات، يؤكد على أن الهجمات الإسرائيلية مجرد استفزاز مفهوم وتعبير عن الفشل في حرب مايو 2021. كما حرص خطاب فصائل القطاع على تأكيد أنها وحدها تملك الحق في تحديد المعركة وتوقيتها، وأنها، كما نقلت رسائلها عبر القاهرة، غير معنية بالتصعيد في الوقت الراهن. ولم تترجم دعوات بعض الأصوات والصفحات الفلسطينية على وسائل التواصل الاجتماعي المُطالِبة بظهور أبو عبيدة، المتحدث باسم كتائب عز الدين القسام- الجناح العسكري لحركة حماس- إلى خطوة إجرائية أو تصعيد يقود إلى حرب.

وبشكل عام، تبرز التطورات التي شهدتها ساحة التفاعلات الفلسطينية- الإسرائيلية ما بعد تشكيل حكومة نفتالي بينيت، التي وافق البرلمان الإسرائيلي عليها مساء الأحد 13 يونيو الجاري، و"مسيرة الأعلام" التي أقيمت في القدس يوم الثلاثاء 15 من الشهر نفسه، رغبة الفصائل في استمرار التهدئة وإعطاء فرصة للمفاوضات التي تتم برعاية مصرية. في حين تعكس الهجمات الإسرائيلية على مواقع للفصائل في قطاع غزة بعد إطلاق "البالونات الحارقة"، رغبة حكومة بينيت في تأسيس معادلة جديدة تتجاوز حدود القطاع إلى الشأن الإسرائيلي الداخلي، ولكن دون الوصول إلى حالة حرب مفتوحة، على الأقل مرحلياً، حيث تظل كل الاحتمالات مطروحة.

التصعيد الإسرائيلي العنيف في مواجهة القطاع المحاصر

واجه رئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو وحكومته إشكالية أساسية في مواجهة الدول الغربية، وخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية، على هامش التصعيد في القدس والحرب على غزة. وتمثلت تلك المشكلة في استخدام العنف بشكل أدى إلى تصعيد الأحداث وصولاً إلى حالة الحرب دون وجود أهداف واضحة من الاعتداءات أو التصعيد. بالإضافة إلى ما كشفت عنه الحرب من عدم تناسب القوة الإسرائيلية المستخدمة مع الأحداث بكل ما ترتب عليها من خسائر بشرية، خاصة بين الأطفال، ومادية في القطاع المحاصر على مدار أكثر من عقد بشكل أضعف الصورة والخطاب الإسرائيلي لدى الغرب وزاد من النقد الموجه للسياسات الإسرائيلية وللقوى الداعمة لها. وشهدنا حديثاً متزايداً وعلنياً من المؤسسات الحقوقية والإنسانية والرأى العام الدولي عن سياسة الأبارتيد أو الفصل العنصرى التي تتبعها إسرائيل، وإمكانية أن تشكل ممارساتها في غزة جرائم حرب، والمطالبة بمحاسبتها وتقليل الدعم الذي تحصل عليه والدفع نحو حل سياسي وغيرها من المطالب التي ظلت غائبة لسنوات عن المشهد الفلسطيني.

كما أدت السياسة الإسرائيلية إلى خروج الولايات المتحدة الأمريكية عن سياسة تهميش الدور الأمريكي في القضية الفلسطينية والعودة للقضية رغم السياسة الأمريكية التي تضع الصين ومخاطر ما تطلق عليه "التهديد الصيني" على قائمة أولوياتها، ورغبة إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن في التركيز على الساحة الآسيوية. كما وجهت واشنطن تحذيراً مباشراً إلى إسرائيل يتعلق باحتمال حدوث خسارة أكبر على صعيد العلاقات مع مصر والأردن في حال استمرت الحرب ضد القطاع بكل ما لها من انعكاسات محتملة على الأمن والاستقرار الإقليمي. ومع دخول مصر وأطراف أخرى على خط الأحداث، وإعلان مصر بشكل واضح ضرورة وقف الحرب والوصول إلى هدنة عبر خطوة وقف إطلاق النار والتفاوض الذي ترعاه، والإعلان عن دور مصري مباشر في عملية إعادة إعمار غزة وعبر شركات مصرية، سمحت الأوضاع بالإعلان عن إنهاء الحرب والبدء في مباحثات الهدنة وصفقة الأسرى.

ولكن على الجانب الآخر، شهدت إسرائيل في تلك الفترة توافقاً أكبر بين القوى المختلفة من أجل تشكيل ائتلاف حكومي جديد لديه هدف أساسي هو إسقاط حكومة بنيامين نتنياهو. وساهمت الأوضاع الداخلية الإسرائيلية في توفير البيئة اللازمة لتهديد التهدئة وجهود التوصل إلى صفقة وهدنة في ظل تصاعد المخاوف في تلك الفترة من لجوء نتنياهو إلى إشعال الأوضاع من أجل البقاء، أو تصعيد الحكومة الجديدة بعد توليها السلطة من أجل إثبات التشدد في مواجهة اتهام نتنياهو والليكود لها بالتنازل في قضايا تمس أمن إسرائيل، وخاصة في ظل التحالف مع حزب إسلامي التوجه من عرب الداخل للمرة الأولى في تشكيل الحكومة وهو حزب القائمة العربية الموحدة برئاسة منصور عباس. وأصبحت العلاقات بين الفصائل وإسرائيل وتطورها بين الصراع والتهدئة بتنويعاتها المختلفة رهناً بالتطورات على الساحة الداخلية الإسرائيلية وكيفية قراءة الفصائل لها والتعامل معها. وفي الخلفية تتوقف الكثير من التطورات على جهود مصر والولايات المتحدة الأمريكية بشكل أساسي في  ضمان الحفاظ على التهدئة أو التأكد من عدم خروج الأحداث وردود الفعل عن حدود السيطرة.

وفي مرحلة تشكيل الحكومة الإسرائيلية الجديدة والإعلان عن التوصل إلى اتفاق، طرحت مرة أخرى قضية "مسيرة الأعلام"، المؤجلة منذ مايو الماضي بعد إعلان حكومة نتنياهو الموافقة عليها قبل إنتهاء حكمه. وتجاوز القرار الحديث عن المخاوف من تجدد المواجهات في القدس، إلى الحديث عن تهديد المسيرة للحكومة الجديدة والإئتلاف المكون لها. وبشكل عام، أصبحت المسيرة محور اختبار للحكومة الجديدة وتشددها، وللفصائل والتزامها بمعادلة الربط بين القدس وغزة، وللوسطاء وقدرتهم على توفير العوامل اللازمة من أجل ضبط النفس.

وتتمثل المشكلة الأساسية في معنى وقيمة "مسيرة الأعلام"، بالنسبة للطرف الإسرائيلي والفلسطيني وموقعها في سياق المواجهات التي تشهدها مدينة القدس والمسجد الأقصى عادة. وترتبط "مسيرة الأعلام"- التي يطلق عليها أيضاً "رقصة الأعلام"- بصورة أساسية بمشاركة اليمين المتطرف الإسرائيلي في الاحتفال باحتلال إسرائيل للقدس الشرقية في عام 1967، أو ما يعرف إسرائيلياً بذكرى توحيد القدس. ويرتبط الحدث عادة بمواجهات بين المشاركين والفلسطينيين في الأقصى وشوارع المدينة المقدسة، مع تواجد أمني مكثف دوره الأساسي هو حماية المسيرة والمشاركين فيها. ومع الاستفزازات والهتافات العدائية ضد فلسطين والعرب والإسلام وغيرها تحمل "مسيرة الأعلام" الأسباب اللازمة للمواجهات، ويتحول الوجود العسكري إلى مواجهات أخرى ضد الفلسطينين مع عمليات الاعتداء والاحتجاز التي أعادت للواجهة صورة قريبة من مواجهات باب العامود والشيخ جراح.

وبالعودة إلى حقيقة ارتباط التصعيد الأول وحرب غزة بالمسجد الأقصى والقدس، والمعادلة التي أعلنتها الفصائل الفلسطينية في تلك الفترة، والمتمثلة في الربط بين ما يحدث في القدس وغزة من خلال الرد على التجاوزات التي تحدث في القدس من القطاع، يمكن إدراك ما مثلته "مسيرة الأعلام" بالنسبة لكافة الأطراف، وما حملته من أسباب لتصاعد العنف والمواجهات بشكل يحتمل معه أن تجد الفصائل في مواجهة معادلة المواجهة. في حين مثلت المسيرة للحكومة الإسرائيلية الجديدة أول تحدي واضح في وقت كان من الصعب التراجع عن المسيرة دون مواجهة الاتهام بالتراجع في مواجهة الفصائل أو الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من الاعتبارات التي زاد منها الاتهامات التي أعلنها عدد من أعضاء حزب الليكود ونتنياهو للحكومة الجديدة وأشارتهم إلى أنها حكومة يسارية ضعيفة وغير قادرة على ضمان أمن إسرائيل بشكل جعل المسيرة في قلب تجاذبات المشهد السياسي الداخلي في إسرائيل.

ورغم التجاوزات التي حدثت في المسيرة من قبل المستوطنين والجنود، حافظت الفصائل على عدم التصعيد مؤكدة على مراقبة الأوضاع والتمسك بقواعد الاشتباك التي أعلنتها خلال الحرب ومع التهدئة وهى "إن عدتم عدنا، وإن زدتم زدنا". وانطلقت "البالونات الحارقة" من القطاع في ما اعتبر رد أقل تكلفة من الصواريخ على المسيرة وما صاحبها من استفزازت إسرائيلية ومواجهات، وعلى استهداف القوات الإسرائيلية للدكتورة الفلسطينية مى عفانة في القدس والتي اختلفت الروايات حول أسباب قتلها وإن كان موتها نوعاً من  "القتل بدم بارد" وفقاً للرواية الفلسطينية أو محاولة لمنع عملية استهداف للجنود طبقاً للرواية الإسرائيلية. ومع الإعلان عن تسبب بالونات القطاع في حدوث عدة حرائق في مستوطنات غلاف غزة، بدأ الحديث عن معادلة إسرائيلية جديدة تهدف إلى تغييب معادلة الفصائل والقطيعة مع حكومة نتنياهو وتتضمن استهداف مواقع للفصائل في القطاع.

"البالونات" في مواجهة الغارات: صراع قواعد الاشتباك

ربما يكون العامل الأول والأكثر وضوحاً في الإطار العام للتهدئة المعلنة هو المرتبط بشكل مباشر بالإعلان عن حكومة جديدة في إسرائيل تتميز بأنها أكثر يمينية وأكثر تعقيداً بحكم تركيبتها المتنوعة الاتجاهات من ناحية، والهجوم عليها من معسكر نتنياهو من ناحية أخرى. ويرتبط بتلك الصورة تفاصيل مختلفة تفترض تشدد الحكومة الجديدة في مواجهة الحق الفلسطيني، وتحويل كل ما يحيط بالمشهد إلى اختبار لها وفرصة للمقارنة بينها وبين حكومة نتنياهو التي ساعدت على توفير أسباب المواجهات قبل مغادرة السلطة.

مواجهات رتب لها نتنياهو الظروف المناسبة بتمرير الموافقة على "مسيرة الأعلام" قبل حصول الحكومة الجديدة على موافقة البرلمان، وفي وقت جعل التراجع عنها من حكومة بينيت بمثابة تراجع عن رؤية رئيس الوزراء الجديد وتياره المدافع عن القدس الموحدة بوصفها عاصمة إسرائيل، والرافض للتسوية أو إقامة دولة فلسطينية، والذي يعلن بوضوح التمسك بالمستوطنات والتوسع فيها. وتظل المشكلة الأساسية في بنية الحكومة القائمة والرغبة في تجاوز مرحلة نتنياهو عبر التشدد في أمن إسرائيل، وتأكيد أن وجود حزب عربي له خلفية إسلامية في التحالف لن يغير من سياسات أطرافه المتشددة في مواجهة القضايا الخلافية الأساسية بصورة ظهرت واضحة مع تأكيد بينيت عدم استبعاد خيار الحرب والتصعيد رغم مشاركة حزب عباس في الائتلاف.

بهذا، ومن وجهة نظر إسرائيلية، كان على الحكومة الجديدة أن توازن بين تصعيد الاتهامات لها بالتراجع في قضايا تمس أمن إسرائيل ووحدة القدس، وعدم إغضاب الولايات المتحدة الأمريكية من خلال تجنب إشعال الأوضاع مرة أخرى بدرجة تتحمل المسئولية عنه بشكل واضح، دون استبعاد إمكانية اللجوء إلى مسار آخر يقوم على تصعيد الموقف بما يجبر الفصائل على استخدام الصواريخ ويبرر للحكومة الجديدة التصعيد بذريعة الدفاع عن النفس وحماية أمن إسرائيل في مواجهة صواريخ الفصائل، وهو الوضع الذي تتجنبه الفصائل الفلسطينية حتى الآن. في نفس الوقت، لا تتوقف "البالونات الحارقة" التي تزيد من خسائر مستوطنات غلاف غزة والغضب المُطاِلب بحرب جديدة على القطاع داخل المستوطنات وخارجها، مقابل خطاب إسرائيلي يؤكد أن ما يحدث تعبير عن غضب الفصائل من استمرار القيود المفروضة على القطاع بشكل يجعل الحياة صعبة من جانب، ويقلص من مكاسب حرب غزة من جانب آخر.

في هذا السياق، ظهر الحديث عن رغبة حكومة بينيت في تجاوز معادلة الفصائل التي دشنت ما قبل معركة سيف القدس والتي ربطت بين القدس وغزة، من خلال تأسيس معادلة إسرائيلية مضادة ملخصها الرد على البالونات الحارقة التي تخرج من القطاع في اتجاه مستعمرات غلاف غزة باعتداء على القطاع، وتأكيد أن كل تحرك فلسطيني سوف يواجه بعمليات في القطاع، مع إعلان قاعدة جديدة للاشتباك تفصل بين مرحلة ما قبل حرب مايو 2021 وما بعدها، أو بين حكومة بينيت وما قبلها، وتتمثل في معادلة أن "ما سيكون مغاير عما كان"، حيث تتغير قواعد الاشتباك وتصبح غزة هى الرد على "البالونات الحارقة" في سياق أوسع يؤكد على أن التصعيد بالتصعيد.

تؤسس الحكومة الإسرائيلية الجديدة وضعية مختلفة تضع معادلة الفصائل للربط بين غزة والقدس في مواجهة معادلة إسرائيل للربط بين غزة ومستوطنات غلاف غزة والقدس وغيرها، وتتحول غزة إلى نقطة أساسية في قواعد الاشتباك القائمة بين الفصائل وإسرائيل. وفي حين تتركز الصورة على القدس ومستوطنات غلاف غزة، تظل قضايا القطاع المهملة محركاً أساسياً في التصعيد وفقاً لقراءات متعددة تؤكد صعوبة الحفاظ على التهدئة في القطاع في ظل عدم تسريع سياسات الإعمار، والقيود المفروضة على الصيد، بالإضافة إلى القيود التي فرضت على المساعدات المالية القطرية.

الأطراف الخارجية ومعادلة ضبط ردود الفعل

مع الكثير من التناقضات الإسرائيلية التي ظهرت في التعامل مع "مسيرة الأعلام" منذ تجدد الحديث عنها قبل إنتهاء فترة نتنياهو، بين إلغاء المسيرة والعودة للموافقة عليها، والتأكيد على سيرها وفقاً لمخططها الطبيعي قبل الحديث عن تغيير مسارها من أجل تجنب الاشتباك في القدس، كان واضحاً كيف تهدد المسيرة التهدئة. تهديد يعود إلى حقيقة أن المسيرة وما تعبر عنه من أفكار وحراك تقع، مادياً ورمزياً، في قلب معادلة الفصائل وأسباب التصعيد التي بدأت من باب العامود والشيخ جراح في أبريل الماضي. وكان واضحاً أن الحكومة الإسرائيلية الجديدة تواجه الكثير من التحديات بشكل يمكن أن يساهم في التصعيد على طريقة استهداف قطاع غزة من أجل الإعلان عن موقف مختلف عن حكومة نتنياهو، ولكنها ظلت حريصة، على الأقل حتى اللحظة، على الرد دون توسيع الهجمات أو الأهداف.

وركزت ردود الفعل الإسرائيلية الرسمية على استهداف بعض مواقع الفصائل في القطاع مع تسريبات تؤكد على  تهديد إسرائيل باستهداف قادة الفصائل في حالة عدم توقف البالونات الحارقة. رسائل تتجاوز توجيه تهديد للفصائل إلى توضيح موقف للداخل الإسرائيلي تؤكد الحكومة من خلاله أنها تملك خيارات أخرى في مواجهة الفصائل الفلسطينية غير الحرب المفتوحة. وفي حين يرى قادة في مستوطنات غلاف غزة وغيرهم من المتشددين أن الرد الإسرائيلي ضعيف، ويصل البعض للحديث عن فشل بينيت في مواجهته الأولى مع الفصائل، تحافظ ردود الفعل الإسرائيلية على قدر من ضبط النفس مقارنة بفترة حرب غزة الأخيرة في ظل هشاشة الائتلاف والحديث عن رغبة الولايات المتحدة الأمريكية في إعطاء فرصة للحكومة الجديدة من جانب، والضغط من أجل التوصل إلى اتفاق، ليس سهلاً، على صعيد الأسرى والإعمار ودور السلطة الفلسطينية في مواجهة دور الفصائل في إدارة ملف الإعمار من جانب آخر.

وفي مواجهة الحديث عن تحذير إسرائيلي لحماس من استمرار "البالونات الحارقة" وإمكانية عودة الحرب، ورفع قاعدة التصعيد بالتصعيد، حرصت الحركة والفصائل عموماً على تأكيد رغبتها في الحفاظ على التهدئة وعدم التصعيد. ورغم تسريب تلك الرسائل التي يحاول فيها كل طرف إبراز انتصاره وسيطرته على الأوضاع، تظل سلوكيات الأطراف المعنية محكومة بالمواقف المعلنة بوصفها محددات التصعيد المحتملة. محددات تتمثل فلسطينياً في  الخطوط الحمراء التي أعلنتها فصائل المقاومة قبل وبعد حرب غزة ممثلة في القدس والأقصى والشيخ جراح، وإسرائيلياً في المواقف المعلنة من الحكومة الجديدة والخاصة بالتعامل مع التهديد القادم من القطاع باستهداف القطاع، والتي برزت على هامش "مسيرة الأعلام" عبر الرد على "البالونات الحارقة" باستهداف مواقع الفصائل وربما تتسع الأهداف تالياً.

تعبر تلك التفاصيل عن قواعد الاشتباك الحالية، حيث الخطوط الحمراء والتناقضات المنذرة بمواجهات جديدة مع أول صاروخ يطلق من غزة أو اعتداء عنيف على المقدسيين أو في الأقصى، أو حرائق شديدة من البالونات الحارقة، أو ردود غير محسوبة من اليمين المتشدد في مستوطنات غلاف غزة أو المناطق المهددة بالتهجير في القدس والبؤر الاستيطانية الجديدة في الضفة الغربية وغيرها من أسباب تفعيل قواعد الاشتباك القائمة. وفي ظل التشابكات الفلسطينية - الإسرائيلية، والتعقيدات الداخلية، والخسائر المترتبة على مواجهات أبريل ومايو 2021، تظل القيمة الأساسية، إلى جانب ضبط النفس من قبل الأطراف المعنية مباشرة ممثلة في الفصائل وإسرائيل، في جهود التهدئة والأطراف التي تتوسط وتدير وتفاوض وبشكل خاص مصر بكل ما تملكه من أوراق وقدرات يمكن أن تساعد في ايقاف التصعيد قبل حافة الحرب التي تهدد بأن تكون أكثر عنفاً وأن تتجاوز خسائرها غزة إلى مستوى القضية والإقليم.