بعد تصويت الكنيست لصالح ائتلاف ما سمى بكتلة "التغيير" -التي تتكون من ثماني أحزاب- بأغلبية صوت واحد (60 ضد 59)، أصبح نفتالي بينت زعيم حزب "يمينا" رئيساً للحكومة التي يفترض أن تحكم إسرائيل لمدة أربعة أعوام، على أن يتناوب بينت المنصب مع زعيم حزب "يش عتيد" يائير لابيد في العامين الأخيرين من العمر الافتراضي للائتلاف.
نجاح كتلة "التغيير" في إزاحة بنيامين نتنياهو عن منصب رئيس الحكومة الذي قضى فيه إثنى عشر عاماً متوالية، لم يكن بالأمر السهل، ولكن الأصعب على الائتلاف الجديد أن يثبت أنه جاء ليبقى، وليس فقط من أجل الإطاحة بنتنياهو في ظل حقيقة الاختلافات الأيديولوجية العميقة بين الأحزاب المشاركة فيه، والتي قد تهدد بانهياره بسبب التحديات العديدة التي ستجابهه على الصعيدين الداخلي والخارجي.
التحدي الأول
يتعلق بملفات السياسة الاقتصادية-الاجتماعية التي تنوي الحكومة الجديدة اتباعها. فحسب توجهات بينت، فهو يسعى بقوة لتبني سياسات ليبرالية متشددة تركز على تحرير الاقتصاد من المعوقات التي تحد من نموه، عبر خفض الضرائب وإطلاق حرية السوق دون الالتزام بأى دعم حكومي للفئات التي ستتأثر بمثل هذه السياسات، وهو ما سيلقى اعتراضات كبيرة من أحزاب شريكة في الائتلاف مثل حزبى "ميرتس" و"العمل" ذوي التوجهات اليسارية الداعية لدولة الرفاه، وأيضاً حزب "يش عتيد"- الشريك الأكبر في الائتلاف- الذي يتبنى موقف الدفاع عن مصالح الطبقة المتوسطة التي تطالب بفرض أعباء ضريبية أكبر على الفئات الأعلى دخلاً وعلى المصالح الرأسمالية الكبيرة مقابل خفض الضرائب على الطبقة المتوسطة نفسها. ومن المؤكد أن حكومة بينت ستتعرض لاختبار صعب حينما يحل موعد مناقشة الميزانية الحكومية في الكنيست، وهو الاختبار الذي طالما أسقط حكومات عديدة في إسرائيل كان آخرها الائتلاف الذي قاده نتنياهو مع بيني جانتس زعيم حزب "كاحول لافن" في ديسمبر من العام الماضي. وحسب تصريحات بينت بعد توليه الحكومة، فإنه وعد بالعمل من أجل جميع المواطنين وأن الأولويات ستكون إصلاحات في التعليم والصحة والتخلص من الروتين الحكومي. ولكن بينت لم يشرح كيف سيفعل ذلك في ظل تباين الأيديولوجيات داخل الائتلاف الذي يقوده.
أيضاً من المتوقع أن يثير نواب "القائمة العربية الموحدة"- التي تعتبر أول كيان سياسي من عرب 48 يشارك في ائتلاف حاكم في إسرائيل على مدى تاريخها- المشكلات في حالة عدم تحقق الوعود التي تلقوها من بينت ولابيد بتوجيه مخصصات ضخمة للوسط العربي، والتراجع عن بعض السياسات المطبقة ضد عرب النقب على وجه الخصوص والتي استهدفت أراضيهم وحقوقهم في البناء عليها أو التصرف فيها. ولا يمكن تجاهل واقع أن العلاقات العربية -اليهودية داخل إسرائيل تتسم بالتوتر العنيف في الفترة الأخيرة، وسيتعين على بينت معالجة هذا الوضع بدون أن يخسر اليمين المتشدد الذي ينتمي هو نفسه إليه، أو "القائمة العربية" التي يمكن أن يؤدي انسحابها من الائتلاف حال عدم تحقيق مطالبها، أو حال تجدد المواجهات بين العرب واليهود في المدن المختلطة، إلى إسقاط الحكومة.
وفيما يتعلق بالسياسات الأمنية، فإن بينت الرافض لمبدأ حل الدولتين سيتعرض لاختبار صعب آخر من داخل الائتلاف الذي يقوده، فأحزاب مثل "ميرتس" و"العمل" و"القائمة الموحدة" تقبل بهذا المبدأ وتريد تسوية الصراع مع الفلسطينيين على أساسه، ويتفق معها -بشروط معينة- حزبا "يش عتيد" و"كاحول لافن"، ومن ثم فإنه في حالة دعوة الولايات المتحدة الأمريكية إلى فتح مسار جديد للتفاوض بين إسرائيل والفلسطينيين على أساس مبدأ حل الدولتين، فإن الائتلاف يمكن أن يتعرض للتشقق والسقوط. ورغم ذلك، فإن بينت قد يراهن على إمكانية إقناع الأحزاب الرافضة لحل الدولتين بالقبول بدخول عملية سلام بناءً على هذا المبدأ مع وعد بأن يقتصر ذلك على مجرد الدخول في المفاوضات دون التزام حقيقي بالتوصل إلى حل للصراع من خلاله، وهو عين ما فعله رئيس الحكومة السابق بنيامين نتنياهو عام 2009 عندما قبل حل الدولتين نظرياً فيما وعد حلفائه من جبهة اليمين بأن يرفضه عملياً.
التحدي الثاني
يكمن التحدي الثاني في السياسة الخارجية التي ستتبناها حكومة بينت، خاصة وأنها تولت السلطة في ظل أزمات ثلاث كبرى تلوح في الطريق: الأزمة الأولى، سعى الولايات المتحدة الأمريكية لإحياء الاتفاق النووي مع إيران الذي انسحبت منه عام 2018، وثمة اتفاق بين معظم أحزاب الائتلاف الجديد في إسرائيل على أن التصدي لمثل هذا الاحتمال أمر ضروري، وأن الحكومة يجب أن تبذل كل ما في وسعها لإقناع واشنطن بإعادة التفاوض مع إيران على الأقل بحيث تشترط هذه المفاوضات ضرورة تمديد الفترة الزمنية التي تُفرض فيها قيود على عملية تخصيب المواد النووية في المفاعلات الإيرانية، بالإضافة إلى ضرورة وقف التجارب الإيرانية على الصواريخ الحاملة للقنابل النووية. ولأنه من غير المرجح أن تستجيب واشنطن للمطالب الإسرائيلية، فإن حكومة بينت ستتعرض لاختبار صعب في حالة عودة واشنطن للاتفاق بشروطه القديمة عند توقيعه عام 2015، فهى لا يمكنها المجازفة بالدخول في صدام مع الحليف الأمريكي الضامن الأساسي لأمنها، كما لن تتحمل الوقوف عاجزة أمام القرار الأمريكي حين اتخاذه خوفاً من هجوم المعارضة الإسرائيلية أو بعض أحزاب الائتلاف الحاكم نفسه.
والأزمة الثانية، ازدياد الحملات الدولية ضد إسرائيل، والتي تستخدم المحكمة الجنائية الدولية لتوجيه اتهامات لها بارتكاب جرائم حرب ضد الفلسطينيين، وهو ما قد يتسبب في تعرض مسئولين إسرائيليين سابقين وحاليين للتوقيف عند زياراتهم لأى بلد موقع على اتفاقية هذه المحكمة. كذلك فإن المنظمة التي تدعو لعزل إسرائيل وتوقيع عقوبات دولية عليها بسبب جرائمها ضد الفلسطينيين (والمعروفة اختصاراً بـ(BDS تتزايد حملاتها حالياً لنزع الشرعية الأخلاقية عن إسرائيل. كما تتزايد أعداد الأكاديميين والسياسيين في العالم بأسره الذين يتعاطفون مع مثل هذه الحملات، ومن ثم سيكون من الصعب على حكومة يقودها شخص متشدد مثل بينت يرفض السلام مع الفلسطينيين ويدعو لقتل من يتحدي منهم إرادة إسرائيل في ضم الأراضي المحتلة، أن تتصدى لمثل هذه الحملات المعادية، بل إن وجوده على رأس السلطة قد يعطي مشروعية أكبر لمثل هذه الحملات.
والأزمة الثالثة، محاولات الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي ومصر إطلاق عملية سلام على أساس حل الدولتين. وكما أوضحنا سابقاً، يمكن أن يثير ذلك هذا الطرح مشكلات داخل الائتلاف الحاكم، وستزيد الضغوط الخارجية من حدة هذه المشكلات، كما ستؤدي حتماً إلى توترات في العلاقات الإسرائيلية مع هذه الأطراف.
التحدي الثالث
وهو ما يمكن تسميته بـ"عقدة نتنياهو" التي جسدت أزمة الأحزاب والنظام السياسي الإسرائيلي برمته. فرغم خسارة نتنياهو لمنصبه، إلا أنه لم يختف من الحلبة السياسية، وقد توعد في أول اجتماع عقده مع حلفائه بعد خروجه من المنصب بالاستمرار في العمل من أجل إسقاط الحكومة التي يقودها بينت والتي وصفها بالحكومة اليسارية التي تشكل خطراً داهماً على أمن اسرائيل. ويدرك نفتالي بينت على وجه الخصوص أنه ما لم تكتمل دائرة الحصار على نتنياهو بصدور حكم من المحكمة بإدانته في جرائم الفساد التي يحاكم فيها حالياً، فإنه في المعارضة سيكون أكثر خطراً عليه، لاسيما أن الصراع بين الرجلين لا يتعلق بالمنافسة على موقع رئيس الوزراء فقط، بل يمتد إلى مستوى أبعد يتعلق بطموحات بينت لتولي زعامة جبهة أحزاب اليمين في إسرائيل.
ويدرك بينت أن نتنياهو لم يفقد وهجه وجاذبيته كزعيم لليمين حينما تحدى الزعيم السابق لـ"ليكود" ارئيل شارون عام 2005 وأجبره على الرحيل عن الحزب وتأسيس حزب باسم "كاديما". كما أن نتنياهو الذي كان قد خسر الانتخابات أمام منافسه من حزب "العمل" ايهود باراك عام 1999، عاد أكثر قوة لمنصب رئيس الحكومة عام 2009 وبقى في منصبه إثنى عشر عاماً متواصلة. يعرف بينت كل هذا التاريخ، لذلك فإن قيادة نتنياهو للمعارضة حالياً ستضع بينت تحت ضغوط هائلة، فهو يخشى نجاح حملة نتنياهو في أوساط مصوتي اليمين والتي تصوره (أى بينت) على أنه يمثل "اليمين المزيف" الذي لا يعدو كونه يسارياً مشوهاً، خاصة وأن نتنياهو لن يتورع عن استغلال أى إخفاق لبينت في الداخل أو الخارج للتأكيد على عدم جدارته بحكم إسرائيل، وخاصة في قضايا حساسة مثل منع عودة الولايات المتحدة الأمريكية للاتفاق النووي مع إيران، حيث من المتوقع أن يوجه نتنياهو اتهامات لبينت بالعجز وقلة الخبرة إذا ما فشل في هذا الملف وسيدعى أنه كان قادراً على منع الخطر عن إسرائيل لو كان في السلطة.
كذلك يمكن أن يستغل نتنياهو أى مواجهة عسكرية مستقبلية مع حركة حماس في غزة لتأكيد فشل بينت، حيث كان الأخير على مدى السنوات الماضية يتهم نتنياهو بالضعف في مواجهة حماس، ولم يكن يقنع بمبررات مثل ضرورة التعامل مع الضغوط الخارجية في تحديد مدى المواجهة مع الحركة التي تحكم قطاع غزة. بمعنى آخر، وفي ظل أن الهدنة الأخيرة بين حماس وإسرائيل والتي أعقبت حرب إطلاق صواريخ كثيفة نحو الأخيرة، ليست مستقرة وقد تتجدد المواجهات معها قريباً، فإن نتنياهو، في هذه الحالة، سيشير إلى تناقض مواقف بينت حال اتبع السياسة نفسها التي كان يتبناها هو نفسه مع حماس في كل المواجهات التي وقعت معها منذ عام 2012.
خلاصة القول، إن التحديات التي تجابه حكومة بينت ليست بالقليلة، وسيظل احتمال تفكك حكومته قائماً بشكل كبير، كما أن حلمه بقيادة اليمين خلفاً لنتنياهو قد يتبدد وقد يؤدي حتى إلى اختفائه سريعاً من الساحة السياسية.