د. أماني الطويل

مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية والخبيرة فى الشئون الأفريقية

تشكل الحروب الأهلية السودانية الممتدة منذ عام 1955 سبباً رئيسياً في تعدد المكونات العسكرية السودانية، بما يتضمنه ذلك من احتمالات مفتوحة لعدم الاستقرار السياسي. وقد قفزت هذه الأزمة إلى السطح حالياً مع رفض قائد قوات الدعم السريع الفريق محمد حمدان دقلو الاندماج في المؤسسة العسكرية الرسمية، وذلك في ضوء احتقانات واضحة للعيان بين المكونين.

في هذا السياق، نناقش ملامح المكونات العسكرية السودانية، وطبيعة أوزانها السياسية والعسكرية. كما نتعرض للتداعيات السياسية المرتبطة بهذا التعدد العسكري داخل السودان وتنوعه ما بين مؤسسة رسمية، من ناحية، وتكوينات يتراوح تصنيفها بين الفصائل المسلحة والميليشيات، من ناحية أخرى.

ملامح التكوينات العسكرية

عرفت السودان التكوينات العسكرية غير النظامية في فترة مبكرة من تاريخها، وذلك في أعقاب اندلاع الحرب الأهلية بين شمال وجنوب السودان عام 1955، والتي ترتب عليها وجود حركتى "أنانيا-١" ثم "أنانيا-٢" واللتين خاضتا الحرب الأهلية ضد المركز في الخرطوم حتى عام 1972، إلى أن عُقد اتفاق للسلام تم بموجبه إدماج المكونات العسكرية غير النظامية في الجيش الرسمي، وأصبحت هناك إمكانية لانضمام مواطني جنوب السودان للجيش الوطني للسودان. لكن بعد عقد تقريباً اندلع تمرد جديد على المركز، تزعمه جون جارانج عام 1983 مُكوناً "الحركة الشعبية لجنوب السودان" حينما كان يحمل رتبة نقيب في الجيش الوطني، وهى الحرب التي استمرت حتى عام 2005.

على النمط نفسه، توالدت المكونات العسكرية غير النظامية في كل من دارفور وجبال النوبا والنيل الأزرق، وذلك كنتيجة مباشرة للحرب على دارفور التي اندلعت عام 2003، بجانب تجاهل كل من النوبا والنيل الأزرق في اتفاقية سلام نيفاشا. وقد اتخذت معظم التكوينات العسكرية اسم الحركة الشعبية لتحرير كل منطقة طبقاً لمسماها، حيث انخرطت في نزاعات مسلحة ضد القوات المسلحة السودانية لأسباب متعلقة بالتهميش السياسي والتنموي.

وقد تراوحت الأوزان العسكرية والسياسية لكل هذه المكونات طبقاً لطبيعة مطالبها، ومدى تعبيرها عن الكتل السكانية الممثلة لها، وكذلك حجم الدعم الخارجي الذي حظيت به. لكن المفارقة أن الحكومة السودانية نفسها في عهد البشير لجأت إلى تكوين ميليشيا غير نظامية بموجب مرسوم رسمي عام 2013، وذلك لحسابات تعلقت بأمرين: أولهما، تخفيف الأعباء عن القوات النظامية التي كانت تحارب المكونات المناوئة لها على أكثر من جهة بالسودان، وهو ما أثر على فاعليتها. وثانيهما، سعى الرئيس السابق عمر البشير إلى تأمين نظامه السياسي من انقلاب الجيش عليه.

وقد بلغ حجم قوات "الدعم السريع"، وقت تكوينها، 5000 عنصر، انحدر معظمهم من عشيرتى "المحاميد" و"الماهرية" العربيتين، وكذلك قوات محمدين إسماعيل من قبيلة "الزغاوة"، والتي انشقت عن جيش تحرير السودان في دارفور، إلى جانب قبيلة الفور.

وقد تبلور تشكيل قوات الدعم السريع عبر عقد من الزمن تقريباً، بدأ مع لجوء الحكومة للقبائل العربية التي سميت بـ"الجنجويد" للانخراط في حرب بالوكالة عنها في إقليم دارفور، لكن مع الضغط الدولي على الخرطوم تم التخلي عن "الجنجويد"، وتم التوقف عن دفع رواتبهم، حتى جرى تطور كيفي عام 2007 لهذه القوات مع تعزيز موقع قائد القوات الجديد محمد حمدان دقلو (حميدتي)، وباتت القوات تعمل تحت ولاية جهاز الاستخبارات السوداني ولها صلاحيات لحماية الحدود.

ومع اكتشاف الذهب في ولاية شمال دارفور عام 2012 استولت قوات "الجنجويد" التي كان يقودها وقت ذاك موسى هلال (عم حميدتي) على مواقعه، وقتلت في هذه المعركة 800 شخصاً. ومع حلول عام 2017 أصبح مورد الذهب يشكل 40٪ من موارد الحكومة السودانية، حيث سيطر حميدتي على مناطق التعدين، ومارس دور الوكيل عن الحكومة السودانية لبيع الذهب بعد منافسة مع عمه الذي اُعتقل في نوفمبر من العام نفسه. أما على المستوى العسكري، فقد أصبح لقوات الدعم السريع أدوار إقليمية مع موافقة الحكومة السودانية عام 2015 على إرسال كتيبة من القوات النظامية للخدمة مع قوات التحالف العربي في اليمن.
مخرجات العلاقات الإقليمية والقدرات المالية لقوات الدعم السريع أسفرت عن تشكل إمبراطورية مالية لمحمد حمدان دقلو، وقوات عسكرية تقدر بـ20 ألف عنصر قامت بعمليات قتالية، كما استولت على معسكرات الأمم المتحدة في دارفور التي انسحبت منها بعد انتهاء مهمة حفظ السلام مطلع العام الحالي.

أما على المستوى السياسي، فقد نتج عن تغيير حميدتي لولائه السياسي وانحيازه لمعسكر الثورة السودانية عام 2019 حدوث تحول في التوازنات التي أفضت إلى إسقاط الرئيس السابق عمر البشير، وهو ما ضمن لحميدتي نفوذاً سياسياً كبيراً في معادلة ما بعد الثورة، عززها بأصوات إعلامية من صحف ومواقع إلكترونية لها نفوذها داخل الرأي العام السوداني، وتأثيرها على التفاعلات السياسية.

إشكالية التعدد العسكري

شكلت اتفاقية جوبا للسلام أساساً للتعاون العسكري بين القوات المسلحة السودانية وبعض التنظيمات العسكرية غير النظامية في السودان، حيث نصت الاتفاقية على عمليات دمج لهذه التنظيمات داخل القوات المسلحة الرسمية، وذلك طبقاً لإجراءات محددة. لكن قوات الدعم السريع لم تكن طرفاً في هذه الاتفاقية، وهى أكثر أنماط التنظيمات العسكرية غير النظامية وزناً على الأرض حالياً. وربما هذا ما يفسر رفض قائدها حميدتي عملياً الدمج مؤخراً، على نحو بات يفرض مشكلة بالنسبة لمستقبل الاستقرار السياسي في السودان، خصوصاً أن قواته شريكة في الترتيبات الأمنية المتعلقة بسلام دارفور.

ويمكن القول إن موقف حميدتي مؤسس على حالة استقواء قامت بها قوات الدعم السريع على المؤسسة العسكرية في أعقاب الثورة مباشرة بدعم من قوى الحرية والتغيير، سواء كانت أحزاباً سياسية أو منظمات مجتمع مدني، وهى القوى المتخوفة من سيطرة القوات المسلحة على الحكم، خصوصاً أن عناصر المكون العسكري الرسمي تنتمي بالأساس للجنة الأمنية التي كانت معنية بما أُطلق عليه سياسياً وقتذاك "الهبوط الناعم"، أي إزاحة البشير مع استمرار نظامه.

هذه التوازنات السياسية دفعت حميدتي لأن يكون نائباً لرئيس المجلس الانتقالي عبد الفتاح البرهان، وأن يتم الحديث عن إدماج قوات الدعم السريع في القوات المسلحة، وأن تكون قوات حفظ السلام في دارفور المعنية بتنفيذ اتفاقية سلام جوبا عبارة عن قوى أمنية مشتركة من الجانبين. وقد سمحت هذه الوضعية لحميدتي بوجود سياسي في كافة الملفات الداخلية، لاسيما ملفات السلام السوداني. وقد شكلت هذه الحالة استفزازاً للمؤسسة العسكرية وللرأى العام معاً لاعتبارات عديدة، أبرزها أن قوات الدعم السريع قد صادرت ثروات معدنية لحسابها، وأن عناصرها غير مؤهلين عسكرياً طبقا لمعطيات المؤسسات العسكرية المعروفة على المستويين الأكاديمي والفني.

ويمكن القول إن تصاعد التوتر بين كل من البرهان وحميدتي بدا ملحوظاً لدى الرأى العام والمراقبين الخارجيين وذلك في ضوء خطوتين: الأولى، الإفراج عن عم حميدتي، موسى هلال، والذي كان مسجوناً بأوامر من البشير، ولم يُفرج عنه بعد الثورة، وهو أحد أهم قيادات القبائل العربية في دارفور، ويملك نفوذاً عليها ينافس به حميدتي نفسه. والثانية، إصدار البرهان أمراً بعدم سفر أى من أعضاء المجلس خارج البلاد دون إذن. ويبدو أن هذا القرار جاء في سياق هندسة شاملة لتقليص نفوذ حميدتي، ومنعه من ممارسة أدوار سياسية خاصة في ملفات السلام السودانية، حيث تتفاوض الحكومة حالياً مع حركة عبد العزيز الحلو في جبال النوبا، ويُنتظر أن يُفتح ملف السلام مع أحد أهم حركات دافور المسلحة بقيادة عبد الواحد نور.

ويبدو أن حميدتي انتبه لمحاولات تقزيمه، على نحو دفعه إلى الإقدام على تحدي القرار الصادر من رئيس المجلس الانتقالي والسفر دون إذن إلى تركيا، وعقد اتفاقيات اقتصادية مع الأخيرة، وهو ما تم الرد عليه بتسريب فيديو مشاركة شقيق حميدتي في فض اعتصام القيادة العامة للجيش إبان الثورة السودانية، وهى العملية التي ما زالت محل تحقيق ممتد، ولم تُسفِر عن نتائج محددة حتى الآن.

ويبدو أن هذه الحالة من التوتر قد تنذر باحتكاك مسلح بين طرفى المكون العسكري السوداني، لاسيما وأن البرهان، ومن خلفه القوات المسلحة، باتا مدعومين من جانب قوى إقليمية ودولية عديدة، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية التي أصدرت بياناً، عشية المظاهرات الداعمة لحق شهداء فض الاعتصام، مشيرة بطريقة غير مباشرة لقوات الدعم السريع بشكل سلبي.

مساران رئيسيان

تحت مظلة هذا التوتر، تشهد المعسكرات لكل طرف عملية استعداد قصوى، خاصة أنه امتد إلى قنوات الرأى العام، وأصبح المشهد مفتوحاً على عدد من السيناريوهات تصب جميعها في خانة عدم الاستقرار السياسي، وربما إنهاء الفترة الانتقالية، ويتمثل أبرزها في مسارين:

الأول، ممارسة مزيد من الضغط على حميدتي، من قناة أدلة لجنة التحقيق في حوادث فض الاعتصام، وهو ما قد يسفر عن نزاع مسلح يهدد كيان الدولة، وربما تلجأ القوات المسلحة للاستيلاء على السلطة في هذه الحالة لحسم الموقف، وهو سيناريو يدفع إليه أقطاب النظام القديم.

والثاني، أن يقع الصدام ولكن في إطار محسوب بين طرفى زعامة القبائل العربية موسى هلال وابن أخيه حميدتي، ويكون محصوراً في إنهاك قوات الدعم السريع الموجودة في دارفور بما يضعف قدراتها العسكرية، ولكن ذلك لا يقلص من مخاطر خروج الصدام عن حدود هندسة أطرافه، فينفجر على نطاق أوسع ليكون بين القوات الرسمية في المؤسسة العسكرية، وغيرها من مؤسسات غير نظامية، وهو ما سيفرض تداعيات مؤثرة ليس على السودان فحسب وإنما على الإقليم بشكل عام.