قابلت الأوساط السياسية والإعلامية نبأ توصل يائير لبيد زعيم حزب "يش عتيد" إلى اتفاق مع عدة أحزاب لتشكيل حكومة جديدة بنوع من الحذر، حيث لا يعني هذا الإعلان سوى كونه خطوة "ضرورية" ولكنها ليست "كافية" لإنهاء الأزمة السياسية المستمرة منذ عامين ونصف، والتي منعت إسرائيل من أن يكون لديها حكومة منتخبة ومستقرة حتى الآن. إذ يتعين على شريكى الائتلاف الجديد يائير لبيد ونفتالي بينت زعيم حزب "يمينا" الحصول على ثقة ما لا يقل عن 61 نائباً في الكنيست حتى تتمتع الحكومة بالشرعية القانونية.
وثمة مخاوف لا تنكرها كتلة "التغيير"- التي يقودها لبيد وبينت- من أن يؤدي أى تأخير في التصويت على الحكومة داخل الكنيست إلى ظهور تشققات في الكتلة تعيد الوضع إلى المربع الأول مرة أخرى، ومن ثم فإن حذر المراقبين من التعامل مع إعلان لبيد توصله إلى اتفاق لتشكيل ائتلاف ينهي الحقبة الطويلة لسيطرة "الليكود" وزعيمه بنيامين نتنياهو على السلطة، يصبح أمراً منطقياً، خاصة مع التحركات المحمومة من الجانبين (نتنياهو، وكتلة "التغيير") والتي يهدف كل منهما من خلالها إلى عرقلة الآخر ومنعه من تحقيق أهدافه.
محاولات نتنياهو عرقلة الائتلاف
بعد فشل نتنياهو في وقف محاولات خصومه في كتلة "التغيير" لتشكيل ائتلاف يتولى السلطة ويقصيه عن منصبه، الذي استمر فيه لإثنى عشر عاماً متصلة، لجأ إلى محاولات إعاقة وصول الائتلاف إلى نقطة إجراء التصويت بالثقة في الكنيست عليه، متبعاً ثلاثة مسارات:
الأول، مواصلة الضغط على نفتالي بينت وأعضاء من حزبه "يمينا" بشن حملة ضده في وسائط الإعلام تتهمه (أى بينت) بأنه خان مصوتي اليمين الذين منحوه أصواتهم لكونه من جبهة اليمين وليس من أجل الانضمام إلى أحزاب يسارية يمكنها أن تُعرِّض إسرائيل لكوارث اقتصادية وأمنية غير مسبوقة. كما اتهم بينت بأنه يسعى فقط لأجل طموحه الشخصي في تولي منصب رئيس الحكومة حتى لو كان على حساب انتمائه الأيديولوجي وضميره الوطني. ويأمل نتنياهو في أن تؤدي هذه الحملة ضد بينت إما إلى تراجعه عن اتفاقه مع لبيد، أو على الأقل إلى انشقاق بعض نواب "يمينا" عنه والتصويت ضده في الكنيست، وهو الأمر الذي يمكن أن يسقط هذه الحكومة قبل أن تتولى السلطة قانونياً، حيث لا يتمتع ائتلاف لبيد - بينت سوى بتأييد 61 نائباً فقط، ويكفي انشقاق نائب واحد من كتلة "التغيير" لمنع حصول هذا الائتلاف على الشرعية القانونية.
الثاني، المسار القانوني، حيث يعتقد نتنياهو وأنصاره أن تشكيل ائتلاف يقوده نفتالي بينت في العامين الأولين من عمره الافتراضي هو أمر خاطئ من الناحية القانونية، فهناك بند في قانون أساس الحكومة (القانون المنظم لعمل الحكومة) ينص على أن رئيس الحكومة يجب أن يكون هو عضو الكنيست الذي حصل على التفويض من رئيس الدولة، وليس أى عضو آخر حتى لو كان متحالفاً معه، وحيث أن التفويض كان بيد يائير لبيد فعليه أن يتولى هو مقعد رئيس الوزراء أولاً، وذلك عكس الاتفاق الموقع بين لبيد وبينت والذي يعطي الأخير الحق في تولي المنصب أولاً قبل تبادله مع الأول بعد عامين.
ويمكن أن تتحول محاولات نتنياهو وأنصاره في هذا الاتجاه إلى معركة قانونية داخل المحكمة العليا، ومن الصعب التكهن بقرار المحكمة في هذا الشأن، وبالتالي يمكن أن تؤدي هذه المعركة، إن مضت في مسارها، إلى تأخير جلسة التصويت بالثقة على حكومة بينت-لبيد، وهو ما يسعى إليه نتنياهو حالياً.
الثالث، المسار المتعلق بحشد الرأى العام الإسرائيلي ضد الائتلاف المنتظر، عبر الزعم بأن هذا الائتلاف لم يتشكل من أجل مواجهة المشكلات التي يعاني منها المجتمع الإسرائيلي بل فقط من أجل تحقيق طموحات شخصية لبعض قادة أحزاب كتلة "التغيير"، ويستند نتنياهو في ذلك إلى المقارنة بين ما قدمه لمنصور عباس زعيم "القائمة العربية الموحدة" لإقناعه بالانضمام لجبهته، وبين التنازلات الضخمة التي قدمها كل من لبيد وبينت لعباس لإقناعه بالانضمام إليهما. وفي هذا الصدد صرح نتنياهو بأنه قدم لعباس وعداً بتمويل احتياجات الوسط العربي في إسرائيل بقيمة 15 مليار شيكل، فيما قدم بينت ولبيد له عرضاً بـ53 مليار شيكل بالإضافة لوعود أخرى تتعلق بمعالجة مشكلات قرى البدو في النقب على نحو يخل بأمن الدولة العبرية بشكل خطير. وحسب تصريحات نتنياهو حرفياً: "لقد باع بينت النقب إلى القائمة العربية الموحدة، جميع نواب الكنيست الذين تم انتخابهم بأصوات اليمين يجب أن يعارضوا حكومة اليسار الخطيرة هذه".
ويحاول نتنياهو إذن تصوير خصومه على أنهم أقرب إلى العرب منهم إلى اليهود، وهو التكتيك نفسه الذي اتبعه ضد رئيس وزراء إسرائيل الأسبق يتسحاق رابين، عندما قاد اليمين نحو رفع شعارات معادية لرابين عام 1994 تقول: "رابين أفضل للعرب".
تحركات مضادة لكتلة "التغيير"
في مواجهة المسارات الثلاثة التي يعمل عليها نتنياهو ضد خصومه في كتلة "التغيير"، فإن الأخيرة تسعى لمواجهته في جبهتين أساسيتين :الأولى، داخل الكنيست، ففي ظل شعور كل من لبيد وبينت بالقلق من إمكانية تأخر عرض ائتلافهم على الكنيست في وقت قريب، عمدت أحزاب كتلة "التغيير" إلى تقديم طلب إلى الكنيست للتصويت على بقاء الرئيس الحالي له في منصبه. وتعتقد الكتلة أن ياريف ليفين- المنتمي لـ"الليكود" والمقرب من نتنياهو- يمكن أن يستغل رئاسته للكنيست لتأخير انعقاد جلسة التصويت بالثقة على الحكومة، مما يمنح نتنياهو فرصة أكبر في مواصلة السعى نحو شق الكتلة وتأليب بعض النواب ودفعهم للتصويت ضد الائتلاف وإسقاطه في النهاية. ويبدو أن هذا المسعى يمكن أن يكتب له النجاح بعد أن انضمت "القائمة العربية المشتركة"- وهى غير مشاركة في الائتلاف الذي أعلن لبيد عن تشكيله - إلى مطالب كتلة "التغيير" بالتصويت على استبدال رئيس الكنيست الليكودي، وقالت القائمة في بيان لها أن "ليفين رئيس الكنيست الحالي يعطل الدور البرلماني لنواب الكنيست ويمنعهم من أداء دورهم البرلماني لأنه يخدم أجندة نتنياهو السياسية ويتحكم بجدول أعمال الكنيست لأسباب سياسية بحتة".
واذا ما نجح خصوم نتنياهو في إقصاء ليفين وتحديد موعد عاجل لانعقاد الكنيست وإجراء التصويت بالثقة على الحكومة، لن يكتفوا بذلك بل سيسعون إلى تمرير قانون كانوا قد فشلوا في تمريره في العام الماضي، وكان ينص على منع أى عضو كنيست يتعرض للمحاكمة في قضايا جنائية من الحصول على تفويض بتشكيل الحكومة. إذ تتحسب كتلة "التغيير" من إمكانية تفكك حكومة لبيد - بينت حتى بعد حصولها على ثقة الكنيست، بسبب التفاوت الأيديولوجي الواسع بين مكوناتها الحزبية، وفي حالة وجود نتنياهو كعضو عادي في الكنيست وضمن كتلة المعارضة، وفي حالة عدم وجود قانون يمنعه من تلقي تفويض بتشكيل الحكومة بعد أى انتخابات مقبلة، فإنه يمكن أن يعود مجدداً ويدفع الوضع السياسي إلى أزمة أخرى ربما تكون أعمق تأثيراً وأطول زمناً.
والثانية، هى جبهة الوضع الأمني، إذ تحاول أحزاب كتلة "التغيير" الإيحاء بأن نتنياهو ربما يسعى في الفترة القادمة وقبل خروجه من منصبه رسمياً إلى اختلاق أزمات أمنية لتأجيل استحقاق تمرير الحكومة في الكنيست، وفي هذا الصدد ظهرت في الإعلام الإسرائيلي مؤخراً تقارير تحذر من إمكانية تدهور الوضع الأمني على الحدود مع قطاع غزة، فعلى سبيل المثال، قالت القناة 12 نقلاً عن مصدر أمني إسرائيلي قوله أنه في الفترة القريبة المقبلة سيهتمون في جهاز الأمن بـ"ألا يسخن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أى جبهة الآن". وكان تقرير أذاعته القناة نفسها قد أشار إلى تصريحات قائد القيادة الجنوبية للجيش الإسرائيلي اليعازر توليدانو التي ذكر فيها أنه يتوقع اندلاع التصعيد مرة أخرى في قطاع غزة، قائلاً أن "صراع الشهر المنصرم ليس سوى الخطوة الأولى لحملة أكثر أهمية".
ولم يقتصر استخدام كتلة "التغيير" للقضايا الأمنية على ما يمكن أن يحدث في جبهات القتال، بل امتد للتحذير من المخاطر التي تهدد بعض خصوم نتنياهو بسبب حملته ضدهم في أوساط الرأى العام، ففي خطوة غير اعتيادية أعلن جهاز الأمن العام "الشاباك" أن وحدة حراسة وتأمين الشخصيات العامة في الجهاز ستبدأ منذ اليوم في توفير الحراسة الأمنية لرئيس الحكومة المرتقب نفتالي بينت، وذلك بعد توقيعه على اتفاقيات ائتلافية مع رئيس "يش عتيد" يائير لبيد. وعلّقت بعض الصحف الإسرائيلية على ذلك بقولها: "القرار اتخذ على خلفية ارتفاع التحريض ضد بينت، ومن منطلق أنه سيقوم قريباً بأداء مهامه كرئيس للحكومة"، رغم أنه من المعروف أن توفير الحماية والحراسة لبينت قبل تعيينه بشكل رسمي يعتبر خطوة غير عادية، حيث أن هذه الوحدة توفر الحماية فقط للشخصيات التي تعتبر "رموزاً" للسلطة، بينهم رئيس الحكومة، ورئيس الدولة، وزراء الأمن والخارجية، ورئيس المحكمة العليا، ورئيس الكنيست، ورئيس المعارضة.
وفي إطار هذه التحركات من جانب أحزاب كتلة "التغيير" وما يوازيها من تحركات مماثلة لنتنياهو، ستبقى الأوضاع في إسرائيل على حالها من التوتر لمدة ربما لن تقل عن أسبوع، قد ينجح نتنياهو خلالها في إفساد تمرير حكومة بينت - لبيد، وقد يحدث العكس وتصمد كتلة "التغيير" وتتمكن من إقصاء نتنياهو، وفي كلتا الحالتين لن يكون من السهل التنبؤ بما ستؤول إليه الأوضاع السياسية والأمنية في إسرائيل في المدى المنظور والذي لن يتجاوز بضعة شهور على أقصى تقدير.