نبيل عبد الفتاح

مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

طوفان من المشاعر والأحزان والفرح والغبطة بصواريخ حماس التى أحدثت تغيرات فى بعض المفاهيم حول القوة والتركيبة الداخلية الإسرائيلية، ومعها موجات تلو الأخرى من "الفتاوى" السياسية، والاستراتيجية، تحملها وسائط التواصل الاجتماعى، حيث تغيم المعلومات الدقيقة، والحقائق على الأرض، فى العدوان الإسرائيلي الغاشم على قطاع غزة. انهمارات من التعليقات التلفازية المترعة بالمشاعر الحماسية الفياضة على غالب القنوات الفضائية، ممن يطلق عليهم الخبراء فى السياسة والعسكرية وبعضهم يتصدى لأمور وموضوعات خارج اختصاصه الدقيق لكنه الولع بالظهور المرئي علي القنوات الفضائية، ويبدو أن لا أحد يبدي اعتزاراً بأن الموضوع خارج تخصصه على نحو ما كان يفعل بعض الثقاة في تخصصاتهم. حالة سوسيو-نفسية تشمل من يعرفون ومن لا يعرفون، فى الشئون الدولية والإقليمية والفلسطينية والإسرائيلية، فى أعماق وتاريخ الصراع وتطوراته ومآلاته. ومن ثم سادت اللغة الخشبية التي لا تبين. حالة مستمرة، وليست جديدة، حيث تسيطر حالة فوران مشروع من المشاعر الغاضبة، والتوظيفات السياسية، والدينية، والتحيزات الإيديولوجية، ونوستالجيا إلى سنوات فوران الشباب الغاضب والمتمرد من بعض جيل السبعينيات تغشى شيخوخة جيلية وفكرية من بعضهم. ولا بأس من كل هذا التدفق المشاعرى الغاضب والمشروع إزاء الطابع العنصرى والاستيطانى والعدواني للدولة الإسرائيلية، وجميل العودة إلى استعادة الذاكرة والوجدان الجمعى للدراما الفلسطينية، وتراجيديا الحياة اليومية فى ظل الاحتلال والحصار. بعضهم فى ثنايا هذا الطوفان يحاول العودة للحضور فى المشاهد السياسية، من خلال  الخطاب الدينى السياسى، كما كان الأمر فى العقود الماضية لكسر القيود والضوابط على نشاطه السياسى. وبعضهم الآخر يرفع خطاب الضد إزاء حماس والجهاد الإسلامى! ولا يمايز بين الوجوه المختلفة للحركة كتحرر وطني من ناحية، وجماعة أصولية دينية من ناحية أخرى في ظل تقاعس ووهن وضياع سلطة أوسلو في الضفة الغربية.

طوفان من المشاعر الهائجة والمشروعة في آن، ونادرة هى المعالجات التحليلية العميقة للصراع وتغيراته، وثمة انكشاف لما يطلق عليهم الخبراء وسلطتهم التفسيرية التى تبدو متضخمة باللغو وأحكام القيمة الأخلاقية، والتعميمات المرسلة، وغياب المعلومات، والانفصال عن واقع ما يجري على الأرض من معادلات القوة ومساراتها ونتائجها الفعلية. إنتاج متدفق من التفسيرات العامة التي تصلح لتفسير كل شئ ولا تفسر شيئاً لكنها تعيد إنتاج الوعى المشوه والمغلوط. من هنا يستمر الوعى السياسى والتاريخى شبه الجمعي المشوش والمضطرب وتتسرب بعض من بقايا الرؤى السياسية والاستراتيجية ويغيب غالبها فى حياتنا السياسية، والاجتماعية العربية. ساعد على هيمنة خطابات "الفتاوى" في السياسة والاستراتيجية طوفان خطابات وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يسود اللغو والأمية السياسية والتاريخية إلا قلة نادرة. هذه الحالة الخطرة من الوعى شبه الجمعي المشوه تعود إلى غلبة ثقافة الشعارات، والإيديولوجيا الدينية والعلمانية والقومية، دونما معرفة أو تكوين تاريخى وسياسى وثقافى، ينتج الوعى الفردى والجمعى البصير القادر على التعامل مع الواقع الموضوعى وتغيراته وتحولاته فى الصراع العربى الإسرائيلى، وغيره من مشاكلنا السياسية، وعلاقاتنا بالعالم وأقاليمه المتعددة.

مناهج غائبة

ما وراء هذه الحالة المستمرة للوعى الفردى وشبه الجمعي المشوه –باستثناءات بالقطع- مرجعه أن الصراع العربى الإسرائيلى غائب فى مناهج التعليم على اختلافها، وفى الدراسات التاريخية والسياسية، والأطروحات الجامعية، إلا فى مراحل سابقة قبل حرب أكتوبر 1973، وفي أعقابها، حيث اهتمت السلطات السياسية وأجهزة الدولة الاستخباراتية بالدراسات حول السياسة الخارجية الإسرائيلية ودراسة قرارات الحرب واعتمد غالبها على مؤلفى مايكل بريتشر حول نظام السياسة الإسرائيلية ونظام القرارات حول الحرب وتابعه في ذلك بعض الباحثين العرب وتابع بعض المؤرخين الفلسطينيين والمصريين تاريخ المسألة اليهودية ودراسة الصراع العربي الإسرائيلي والحروب المختلفة في الإقليم من 1948 حتى أكتوبر 1973، ودراسات حول المجتمع الإسرائيلي والشخصية الإسرائيلية والتناقضات الداخلية والأحزاب الإسرائيلية والمؤسسة العسكرية وعلاقة العسكريين والمدنيين بالسياسة، ودراسة مشروعات التسوية السياسية والحكم الذاتي ومشروع الدولة ثنائية القومية أو مشروع الدولتين..الخ، ثم متابعة تطورات الهياكل التسليحية الإسرائيلية وتطوراتها وبيع السلاح الإسرائيلي بعد تطويره والسياسة العلمية المتطورة لاسيما في مجالات الرقمنة والسلاح..الخ. يتحدث بعض المعلقين والمراسلين عن السلطة الفلسطينية فى الضفة الغربية، ولا توجد دراسات راهنة حولها إلا قليلاً، وتركيبة القوة داخلها، وسياساتها الداخلية والخارجية وتحالفاتها، وأساليب عملها، ولا نكاد نعرف إلا قليلاً عن المجتمع الفلسطينى سوسيولوجياً فى الضفة وتركيبته "الطبقية" بعد أوسلو والفصائل وعلى رأسها فتح وأساليب عملها. من ناحية أخرى، لا أحد درس إلا قلة قليلة جداً سياسة حماس والجهاد الإسلامى فى قطاع غزة، وفرضها هندسة القوة الداخلية، وأساليب السيطرة الأمنية والرمزية، والقوانين التي تحكم العلاقات الاجتماعية والقانونية..الخ.

لم تدرس الهندسة الاجتماعية التى تفرضها حماس والجهاد أساساً على التركيبة الاجتماعية داخل القطاع، ولا طبيعة القوى الاجتماعية داخله. هل درست في عمق وموضوعية السياسة الخارجية لحماس مع القوى الإقليمية، باستثناء علاقاتها مع إيران وتركيا وقطر فى تعميمات عامة دون بنية من المعلومات والتحليل؟، ما هى تركيبة القوة داخل حماس والجهاد الإسلامى، وما هى قواعدها الاجتماعية الداعمة لها؟، وأماكن نفوذها في جغرافيا القطاع وفي الضفة؟!، هل درس التكوين الإيديولوجى لهذه المنظمات بعيداً عن الانحيازات الإيديولوجية المسبقة؟، هل تم بحث سياسة التنشئة السياسية والعسكرية السائدة داخلها، والصناعة العسكرية والصواريخ وتطورها ومشكلاتها الفنية والعلاقات مع إيران وحزب الله..الخ؟. بالطبع البحث السياسي محدود والسائد شذرات من التعميمات، وبعض المقالات دون دراسات عميقة إلا قلة قليلة حول الفاعلين الرئيسيين على الساحة الفلسطينية عموماً. تحولت المسألة الفلسطينية إلى فضاءات غائمة يعتريها الغموض والتعميمات. من ناحية أخرى شحب وضعف وندر التخصص حول إسرائيل الدولة والنظام والأحزاب السياسية والتركيبة الاجتماعية وتحولاتها، إلا من بعض الباحثين الفلسطينيين وقلة قليلة في العالم العربي، وذلك بعد تراجع الموقع المركزي للقضية الفلسطينية في قوائم أعمال السلطات السياسية الحاكمة في العالم العربي ونزوع بعضها إلى الانصراف نحو القضايا الداخلية، وخاصة بعد أفول ما سمى مجازاً بالربيع العربي.

تراجع البحث العلمي

يعود ذلك فى تقديرنا أيضاً -ونرجو ألا نكون مخطئين- إلى تراجع الطلب السياسى والاجتماعى والثقافى على البحث العلمى حول إسرائيل وفلسطين 1948، والضفة وقطاع غزة!. فى أعقاب التسويات السياسية مع إسرائيل تراجع هذا الطلب السياسي والثقافي، وغاب عن حياتنا السياسية والعلمية والبحثية فى عالمنا العربى، إلا من خلال أجهزة الدولة الاستخباراتية والأمنية والعسكرية في دول قليلة في المنطقة.

غياب مراكز بحث حول إسرائيل، وفلسطين فى الضفة والقطاع، بدا وكأنه محاولة لنسيان وتهميش المسألة الفلسطينية، لاسيما بعد اتفاقية أوسلو، وتحولها من القضية المركزية إلى قضية هامشية ضمن عديد من القضايا العربية الأخرى.

ضعف الطلب السياسي على مراكز البحث السياسي والاجتماعي أدى إلى هيمنة خطاب الوسائط الاجتماعي، ولغة "الفتاوى" السياسية والاستراتيجية الصارمة من بعضهما أو غالبها دون معرفة ومعلومات، وقدرة على التحليل الدقيق للمشكلات والأزمات المعقدة في العلاقات الدولية والإقليمية والداخلية. ابتعد البحث والتحليل السياسي والسوسيولوجي والاقتصادي في عديد الحقول على نحو أدى إلى تزايد معدلات الصخب والضوضاء السياسية واللغو والأخطر لغة الاتهامات والوصم السياسي والتهكم والسخرية، وهو نمط من خطابات تزييف الوعى الاجتماعي والسياسي. في ظل غياب البحث والمعرفة المتخصصة، تبدو "الفتاوى" السياسية والدينية والإيديولوجية هى المسيطرة على تعبئة المشاعر الغاضبة بطول العالم العربى، وعرضه باستثناءات.

في الحرب الأخيرة، تحققت وحدة الإرادة الفلسطينية في أراضي ما وراء الخط الأخضر مع فلسطينيي القطاع والضفة الغربية واستطاعت حماس والجهاد تحقيق أوراق قوة في المعادلة السياسية الداخلية إزاء السلطة الفلسطينية. المطلوب دراسة موضوعية باردة للحرب وأهدافها ونتائجها على الأرض وليس في الخطاب السياسي لأطرافها من الجانب الإسرائيلي وحماس والجهاد الإسلامي وحجم الأضرار والدمار في قطاع غزة، إلى جانب الاندماج الداخلي في إسرائيل وكفاءة الشاباك والموساد والتكامل بين هذه الأجهزة مع الأمن الداخلي والجيش. 

من الدمار والدماء والنيران، ينبعث طائر الفينيق الفلسطيني ومعه الحاجة الملحة لمراكز البحث حول إسرائيل، وفلسطين، والإقليم، والعالم، لإنتاج الوعى الجديد المؤسس على المعرفة والبحث والعلم وليس الانطباعات المرسلة. إن إرادة التغيير الفلسطيني تبدو صارمة لدى الأجيال الجديدة مع السعى نحو إيجاد حل للقضية الفلسطينية العادلة وإقامة الدولة المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، والمساهمة البصيرة والفعالة من أجل العودة إلى مسارات التطور الحضاري العربي في عالم بالغ التشابك والتعقيد والتغير.