نجحت مصر فى رعاية اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية، الذى أنهى 11 يوماً من المواجهات بين الطرفين، أو ما أطلقت عليه كتابات عديدة «الحرب الرابعة»، التى يبدو أنها سوف تفرض تداعيات استراتيجية عديدة، سواء على المستويين الداخلى فى إسرائيل والأراضى الفلسطينية، أو على المستوى الإقليمي، خاصة فى ظل ارتباطها بملفات داخلية وإقليمية مختلفة ربما تشهد تحولات استراتيجية لا تبدو هينة خلال المرحلة القادمة.

دور مصرى إقليمى رائد

أظهرت السياسة الخارجية المصرية، خلال المواجهة الأخيرة فى حى الشيخ جراح وقطاع غزة، قدرة لافتة على التحرك السريع بين الفلسطينيين وإسرائيل، وعلى الصعيدين الإقليمى والدولي، لدرء أزمة حادة كان يمكن أن تتفاقم كثيراً، الأمر الذى مكّن من قبول وقف إطلاق النار، قبل أن تتحول المواجهة إلى حرب مدن وشوارع تنتهى بسقوط مئات المدنيين. ونالت مصر الإشادة على جهودها تلك من مختلف الجهات الدولية.

لقد تحركت مؤسسات الدولة المصرية بشكل منسق خلال الأزمة لتشكل جميعها خلية عمل مشتركة لخدمة القضية الفلسطينية، فكانت تعليمات القيادة السياسية بنقل الإصابات الحرجة من غزة للعلاج بالقاهرة، وكلفت وزارة الصحة الأطباء بالعمل فى مستشفيات سيناء لاستقبال الفلسطينيين، وأعلنت مصر فتح معبر رفح لاستقبال المصابين من القطاع، وقام الهلال الأحمر المصرى بإرسال مواد إغاثية وطبية لشمال سيناء. وجاءت المبادرة الكبرى بإعلان الرئيس عبدالفتاح السيسى عن تقديم مبلغ 500 مليون دولار لمصلحة عملية إعادة الإعمار فى قطاع غزة. وترافق الموقف الرسمى مع تفاعل شعبى قوي، تردد صداه مع خطبة د.أحمد عمر هاشم على منبر الجامع الأزهر، وحديثه عن الانتهاكات الإسرائيلية والمطالبة بتوحيد الصف العربي، وإطلاق الإمام الأكبر شيخ الأزهر د.أحمد الطيب حملة بكل لغات العالم لدعم القضية الفلسطينية. لقد مثلت مصر على مدى أيام الأزمة محطة تفاعل دولية وإقليمية لا غنى عنها، وقامت القيادة المصرية والمسئولون باتصالات كثيرة بين أطراف الأزمة الفلسطينيين وإسرائيل، ومع جهات عربية وأجنبية. وبالمثل تلقت القيادة اتصالات دولية على أعلى مستوى، كان أبرزها اتصال الرئيس الأمريكى جو بايدن، الذى ثمّن خلاله جهود الرئيس السيسى لوقف التصعيد بين إسرائيل وحماس. وقد أكد كل ذلك أنه على الرغم من انشغال مصر بملفات أخرى عديدة، فإن مركزية القضية الفلسطينية تفرض ذاتها على السياسة المصرية والضمير المصرى على الدوام.

وكان أهم ما أكدته الأزمة بالنسبة لمصر ما يلي:

أولاً، الاعتراف الدولى بالدور المصري، كمحط الرهان الأساسى فى تسوية القضية الفلسطينية وضمان السلام الإقليمي، وأنه مهما كان من أدوار جزئية لقوى إقليمية أخرى، وقوى أخرى ترفع سقف التصريحات العدائية توظيفاً لأزمات الفلسطينيين، فإن القاهرة وحدها هى التى تحوز ثقة الأطراف على الأرض فى لعب دور لمصلحة القضية الفلسطينية والسلام والأمن الإقليميين.

ثانياً، أنه بعد 10 سنوات انشغلت فيها مصر والعالم العربى بالمواجهة مع قوى الإرهاب، تعود القضية الفلسطينية مجدداً إلى مكانتها المركزية، ومعها يتأكد دور مصر المركزى فى هذه القضية وفى النظام العربى إجمالاً. وبرغم الخلافات العربية مع حركة حماس، وخلافات الفصائل الفلسطينية معها، وخلافات القاهرة نفسها مع هذا الفصيل الفلسطيني، فإن لدى القاهرة القدرة على التفرقة بين هذا كله، وبين القضية الفلسطينية.

ثالثاً، أكدت الأزمة أن مصر تعتبر أكثر الأطراف اقتراباً من الملف الفلسطيني، وخبرة بتفاصيله، وأن هذه المعرفة قصّرت من عمر المواجهة، ولولا هذه الخبرة الفنية والمعرفة بالتفاصيل، لطال أمد الأزمة وتكرر ما حدث فى جولات سابقة، ولذلك كانت لافتة موافقة حماس السريعة على المبادرة المصرية، وما أكده البيان الصادر عن ديوان رئاسة الحكومة الإسرائيلية، الذى أورد أن «مجلس الوزراء الأمنى انعقد وقَبِل بالإجماع توصية جميع المكونات الأمنية بقبول المبادرة المصرية».

رابعاً، سلّطت الأزمة الضوء على التشابكات بين دوائر السياسة الخارجية المصرية؛ وأظهر الأداء الدبلوماسى المصرى خلال المواجهة بين إسرائيل والفلسطينيين انحياز السياسة المصرية إلى الحلول السلمية، وأنها لا تحبذ الحروب إلا كخيار أخير وبعد استنفاد مختلف الخيارات، فهناك اتساق فى إدارة مصر للأزمات. فضلاً عن ذلك، هناك تداخل بين القرن الأفريقى وحوض النيل والبحر الأحمر والشرق الأوسط، وكل ذلك يؤكد أنه لا تزال بيد مصر أوراق ضغط كثيرة لم تستغلها بعد فى ملفات أخرى مثل ملف السد الإثيوبي.

توازنات فلسطينية جديدة

يتوقف تحليل النتائج النهائية للحرب على التوازنات الفلسطينية الجديدة على طريقة التعامل مع المقدمات والنتائج المترتبة على الأحداث بداية من تأجيل الانتخابات التشريعية الفلسطينية التى كان من المقرر إجراؤها فى 22 مايو الجاري، مروراً بالتصعيد فى باب العامود واقتحام المسجد الأقصى، وملف تهجير سكان حى الشيخ جراح، وسياسة تهويد القدس الشرقية التى يفترض أن تكون عاصمة الدولة الفلسطينية المنتظرة. لقد أسهمت تلك الأحداث فى دفع الفصائل وخيار المقاومة للواجهة، وتحولت غزة إلى ساحة الحرب، وتحولت فصائل مثل حماس والجهاد الإسلامى إلى ما يسمى بـ «قاطرة المقاومة». ومع توالى التطورات لم يعد الحديث عن فصائل غزة فى مواجهة إسرائيل فقط، ولكن المقاومة فى مواجهة الخيار السياسي، الذى تمثله السلطة الفلسطينية. وبعد أن فشلت الفصائل فى المشاركة فى صناعة القرار والتعبير عن حجمها عبر صناديق الانتخابات، أصبحت المواجهات المباشرة والهتافات التى تطالب محمد الضيف، القائد العام لكتائب عز الدين القسام- الجناح العسكرى لحركة حماس، بالرد على الاعتداءات الإسرائيلية، بمثابة ساحة للفرز والتأكيد على قيمة ومكانة خيار المقاومة فى المشهد الفلسطيني. وساهمت القدرات العسكرية للفصائل، بما شملته من أسلحة جديدة مثل صاروخ «عياش 250» والطائرة المسيرة الانتحارية «شهاب»، بالإضافة إلى أساليب مواجهة القبة الحديدية، واستهداف مدن وأماكن حيوية مثل القدس وتل أبيب ومطار بن جوريون ومطار رامون، ساهمت فى إعادة تقييم حالة توازن القوى والردع القائم بين إسرائيل والفصائل.

ورغم اختلاف الأسلحة المستخدمة من حيث التكلفة والقدرة التدميرية والخسائر المترتبة على كل منها، استمدت الأحداث قيمتها، إلى حد كبير، من قدرة الفصائل على المواجهة واستهداف مناطق على امتداد فلسطين التاريخية، وتهديد الأمن الإسرائيلي، والاستمرار فى المواجهة رغم حجم الدمار البشرى والمادى الذى لحق بالقطاع. وأضفت عدة عوامل أهمية خاصة لما قامت به الفصائل، منها حالة الحصار الإسرائيلى المفروضة على القطاع منذ 2007، والفجوة بين صواريخ المقاومة والقبة الحديدية، والتناقض فى الحديث عن قدرات القبة الحديدية بين خطاب إسرائيلى رسمى يؤكد تصديها لما يصل إلى 90 بالمائة من الصواريخ الفلسطينية وحديث غير رسمى عن محدودية تلك القدرة وأنها لا تتجاوز 20-30 بالمائة. وبالوصول إلى اللحظة التى تحولت فيها المقاومة إلى عامل مؤثر فلسطينياً وإسرائيلياً كان من الطبيعى أن يتم التعامل بجدية مع اقتراح التهدئة أو خفض التصعيد بشكل مرحلى ضمن خطوات التفاوض للوصول إلى تهدئة ممتدة. وبالنظر للخسائر التى تكبدها القطاع، وحالة الحصار المفروضة عليه بكل ما ترتبه من احتياجات معيشية، يُتصور أن تكون الأولوية للتنمية وإعادة الإعمار، خاصة مع إعلان مصر مشاركتها المباشرة فى تلك الجهود، لكن لا يُتصور أن تتنازل الفصائل عن خطاب الانتصار وحالة التأييد الذى تتمتع به ويحظى به خيار المقاومة. ولا يُرجح أن تتراجع الفصائل عن المواجهة أو تجديد وتطوير ترسانتها العسكرية بعد أن أعلنت على لسان زياد النخالة، الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي، الاستمرار فى المقاومة والجهاد حتى النصر. كما أكد إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسى لحركة حماس، أن المقاومة هى الطريق الأقصر للتحرير. وحددت الفصائل سياستها فى بيان غرفة العمليات المشتركة الصادر بعد التهدئة بقولها «أيادينا على الزناد وإن عدتم عدنا».

وإلى جانب ذلك، يتصور أن يتيح إعلان الرئيس الفلسطينى محمود عباس عن إمكانية تشكيل حكومة وحدة وطنية المجال للنقاش حول البعد السياسى وآليات مواجهة حالة الانقسام عبر التوافق على حكومة موسعة يتم التوصل لها بعيداً عن إفرازات الحرب أو العودة للانتخابات بكل النتائج المترتبة على تأييد المقاومة وترجيح الفصائل التى قادت المواجهات على غيرها من الفصائل والقوى التى تدفع فى اتجاه التسوية، وما يترتب على أى انتخابات فى هذا التوقيت من نتائج وانعكاسات على القضية والأطراف المعنية وخيار التسوية.

معركة داخلية فى إسرائيل

اختلفت لغة الحديث فى إسرائيل عن الحرب التى دارت فى غزة أثناء الحرب عن اللغة التى استخدمت بعد وقف إطلاق النار. أثناء الحرب، تعمد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو العودة للغة الستينات، أو تحديداً لغة ما قبل حرب 1967. فى هذه الفترة، كان الخطاب الإسرائيلى الموجه للعالم يقدم الدولة العبرية كدولة صغيرة محاطة بالأعداء الذين يعلنون بكل وضوح أن هدفهم إنهاء وجودها رغم أنها تحظى بالشرعية الدولية كونها عضواً فى الأمم المتحدة وفى العديد من المنتديات الدولية. هذه اللغة وفرت تعاطفاً دولياً واسعاً مع إسرائيل التى كانت تبرر جرائمها ضد مواطنيها من عرب 48، وضد الدول العربية خاصة الأردن ولبنان وسوريا، بأنها تدافع عن نفسها ضد ما اعتبرته هجمات لـ «مخربين». أثناء الحرب الأخيرة على غزة، اهتم نتنياهو بجمع سفراء أكثر من 70 دولة لكى يشرح لهم كيف بادرت حماس والمنظمات الفلسطينية بإطلاق هجمات صاروخية مكثفة وعشوائية على التجمعات السكانية فى إسرائيل، بينما كان يعرض لهم فيديوهات تظهر تحذيرات الجيش الإسرائيلى لسكان قطاع غزة قبل قصف المواقع التى رصد الجيش إطلاق الصواريخ منها. وردد نتنياهو ووزراء الدفاع والخارجية تعبير أن الجيش الإسرائيلى يبرهن على أنه «الأكثر أخلاقية» بين جيوش العالم. وإلى حد كبير، نجحت إسرائيل فى جذب تأييد العديد من الدول الهامة لصفها، وهو ما أوضحه موقف الولايات المتحدة وألمانيا، وعلى نحو تجلى أيضاً فى فشل وزراء خارجية دول الاتحاد الأوروبى فى استصدار بيان يدعو للتهدئة قبل يوم واحد من وقف إطلاق النار رسمياً.

أما فى مرحلة ما بعد نهاية الحرب، فقد عاد نتنياهو للحديث بلغة القوة متحسباً للانتقادات التى ظهرت من المعارضة الإسرائيلية والتى اتهمته بأنه وافق على إنهاء المعركة قبل تصفية ترسانة حماس الصاروخية، وأنه لم يشترط عودة أسرى إسرائيليين لدى حماس منذ سنوات. وقد رد نتنياهو على ذلك بقوله: «قتلنا أكثر من 200 مخرب بينهم 25 مسئولاً وقادة ميدانيون، ومن لم تتم تصفيته يعرف أن يدنا طويلة. دمرنا جزءاً كبيراً من شبكة أنفاق حماس ولا تستطيع حماس أن تستغله مجدداً. ألحقنا ضرراً كبيراً بحماس بأقل قدر من الضرر لإسرائيل وحرمنا حماس من سلاح الأنفاق».ويبدو أن إسرائيل ليست واثقة من استمرار كسب بعض المواقف الدولية التى أيدتها أثناء الحرب، ويتوقع نتنياهو إمكانية تطور الوضع إلى حد نجاح الفلسطينيين فى إثارة قضية ارتكاب إسرائيل جرائم حرب ليس فى الحرب الأخيرة وحدها بل ضد الفلسطينيين فى الضفة الغربية وغزة والقدس، ولذلك تحاول إسرائيل التركيز على أن قصف تجمعاتها السكانية بشكل عشوائى كما حدث فى الحرب الأخيرة يعد بدوره جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وربما تسعى إسرائيل لمساومة السلطة الفلسطينية لدفعها إلى سحب دعواها ضدها فى المحكمة الجنائية الدولية مقابل ألا تشن حرباً دعائية ضد السلطة بسبب تضامنها المعلن مع حركة حماس فى الهجوم على المدن الإسرائيلية.

وفى الاتجاه نفسه، يحاول نتنياهو التركيز على أن إيران هى من تقف وراء تسليح حماس والجهاد الفلسطينية، وهى أيضاً من تشجعهم على مهاجمة إسرائيل. ويأمل نتنياهو فى استغلال مسألة إطلاق الصواريخ بشكل عشوائى ودور إيران فى ذلك، لمنع أى إدانة مستقبلية لإسرائيل ولتشديد العزلة الدولية حول إيران والتأثير على فرص عودة واشنطن للاتفاق النووى معها.

على الجانب الآخر، وبصدد الوضع الداخلى فى إسرائيل، يبدو أن نتنياهو قد نجح فى إفساد أى محاولة لزعيم حزب «يش عتيد» يائير لبيد- الذى يمتلك التفويض حالياً لتشكيل حكومة جديدة- للنجاح فى مسعاه، حيث أصبح من المستحيل عليه تشكيل الحكومة مع انسحاب حزب «يمينا» بزعامة نفتالى بينت من المفاوضات الائتلافية، ومع رفض الأحزاب اليهودية إشراك «القائمة العربية الموحدة» فى مفاوضات تشكيل الحكومة، حتى لو كانت هذه المفاوضات تقتصر على الحصول على دعم «القائمة العربية» من الخارج.

فضلاً عن ذلك، وعد نتنياهو بوقف التدهور الحادث فى العلاقات العربية- اليهودية فى الداخل، كما يحاول تفادى سعى أحزاب المعارضة التى من المتوقع أن تطلب تشكيل لجنة حكومية للتحقيق فيما وقع من إخفاقات، خاصة فى مجال سياسات الدفاع المدنى والفشل فى حماية سكان الجنوب من الهجمات الصاروخية لحماس، حيث وصف زعيم حزب «إسرائيل بيتينو» افيجدور ليبرمان ما وقع مع حماس وعرب إسرائيل بقوله: «المستوى السياسى فشل»، موضحاً أن «الأمر الأكثر إثارة للقلق فى هذه القصة هو سيطرة حماس على الشارع الفلسطيني، فى القدس الشرقية وفى الضفة الغربية».

فى كل الأحوال، سيظهر الأثر الأكبر للحرب فى غزة داخل إسرائيل على ساحة الوضع السياسى الذى بات يهدد إسرائيل بالذهاب إلى انتخابات خامسة فى غضون هذا الصيف دون يقين كبير بأنها ستكون حاسمة لجهة إنهاء الفشل المستمر منذ عامين ونصف لتشكيل حكومة مستقرة.

________________________________

نُشر أيضا بجريدة الأهرام، 23 مايو 2021.