أحمد عليبه

خبير- مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

بشكل عام، لم يتم إخضاع معادلة القوى بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية للموازين العسكرية التقليدية، فغالباً ما حكمت هذه العلاقة معادلة "توازن الرعب" بين الطرفين، وإلى أى مدى يمكن أن تشكل الصواريخ الفلسطينية تهديداً على إسرائيل. لكن الحرب الحالية أظهرت وجود قدرات جديدة لفصائل المقاومة الفلسطينية تشكل بعداً جديداً فى هيكل القوى على المدى الطويل. وعلى الرغم من أن كفاءة هذه القدرات لا تزال محدودة، إلا أن مجرد امتلاكها يؤكد أنها أصبحت قابلة للتطوير مستقبلاً، منها طائرات من دون طيار، وصاروخين جديدين، وغواصات بحرية موجهة. ومن اللافت أيضاً قدرة الفصائل على إدارة تشكيلاتها العسكرية بشكل متزامن من جهة، وفى إطار دائرة مسرح عمليات أوسع بكثير مما شهدته الحروب السابقة من جهة أخرى، وهو ما يشكل عاملاً إضافياً فيما يتعلق بقدرات القيادة.

التطور العملياتي للحرب

طوّرت إسرائيل مستوى الاشتباك على مرحلتين: الأولى، بدأت من اليوم الثالث للحرب (13 مايو 2021)، حيث وسّعت من دائرة استهداف مواقع إطلاق الصواريخ بقصف نحو 40 موقعاً، بالإضافة إلى توجيه حملتين هجوميتين متواصلتين من الضربات بمسافة 15 كلم على طول الخط الحدودي بين قطاع غزة وإسرائيل لهدم الأنفاق التي تطلق عليها "مترو الأنفاق"، واستخدمت في الضربة الأولى 80 طناً من القنابل، كما اغتالت عناصر قيادية من طاقم التطوير وإدارة إنتاج الصواريخ والطائرات المسيّرة، بالإضافة إلى عمليات هدم الأبراج السكنية فى القطاع بشكل ممنهج.

أما المرحلة الثانية، فبدأت من اليوم الثامن (18 مايو الجاري)، ورغم أنها لم تختلف كثيراً على مستوى بنك الأهداف باستثناء اعتراض الغواصات البحرية (المصطلح يعود لتسمية الفصائل الفلسطينية ولا يتطابق بالضرورة مع الوصف العسكري)، لكنها أعنف فى مستوى القصف، وأوسع نطاقاً في تدمير البنية التحتية المدنية ومن دون سابق إنذار على عكس ما كان يجري فى المرحلة السابقة، حيث كانت إسرائيل توجه إنذاراً قبل عملية الاستهداف بنحو ساعة إلى ما هو أقل، وذلك على الرغم من أن تقارير الجيش الإسرائيلي كانت تشير قبل بدء المرحلة الثانية إلى نفاد بنك الأهداف، بل وعادت لتكرار الضربات على بعض المواقع، كما أعلن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو عن توجيه 600 ضربة تقريباً.

وتتزامن المرحلة الثانية مع تكثيف التحركات الدولية والإقليمية التي بدت أكثر تنسيقاً بين الولايات المتحدة ومصر والأردن والسعودية وقطر والرباعية الدولية، إلا أن إسرائيل أعلنت أنها ستواصل تلك المرحلة دون الإعلان عن سقف زمني واضح، حيث قال نتنياهو للرئيس الأمريكي جو بايدن أنه سيستكمل العملية حتى تحقيق الأمن على حد قوله، إلا أن مسئولين عسكريين إسرائيليين أشاروا إلى أن إسرائيل ستواصل الضربات ليومين أو ثلاثة أخرى ضمن المرحلة الثالثة، ويرجح أن الهدف من ذلك هو استهداف قيادات من الصف الأول فى المقاومة الفلسطينية وتدمير أكبر كم ممكن من القدرات التي يمكن الوصول إليها لإضعافها، بالإضافة إلى زيادة عامل الضغط على الوسطاء كخطوة استباقية قبيل وقف إطلاق النار.   

وتكشف هذه المؤشرات عن معطيات جديدة فى سياق "الحرب الرابعة" فى إطار مقاربة متغير معادلة القوى على الجانبين، وهو ما يمكن تناوله فى المحاور التالية.

مأزق إسرائيلي

تعكس عملية تطوير إسرائيل للعمليات الاستجابة لأنماط مختلفة من الهجمات فى ظل تعدد قدرات الفصائل الفلسطينية التي ظهرت فى مسرح العمليات، وبعضها لم يكن مفاجئاً مثل صاروخ "بدر 3" الذي تمتلكه حركة الجهاد الإسلامي وأقامت له عرضاً عسكرياً فى مايو 2019، فيما كان الآخر مفاجئاً على غرار صاروخ "عياش 250" بالنظر إلى طول مداه، بالإضافة إلى "الغواصات الموجهة" التي أعلنت إسرائيل عن اعتراضها تحت السطح قبيل شنها هجوماً بحرياً على هدف اسراتيجي يعتقد أنه محطة غاز عسقلان. لكن إجمالاً حتى مع معرفة إسرائيل بامتلاك الفصائل لهذه القدرات لكنها تعرضت للاختبار الأول الذي حمل جانباً من المفاجآت ربما دفعتها إلى رفع مستوى العنف فى الهجمات، فضلاً عن تمديد المراحل الزمنية لتوسيع دائرة الانتقام والتدمير.

ومن المتصور أنه سيترتب على هذا المتغير موقف جديد بالنسبة لتقييم نتائج المعركة عندما تنتهي الحرب. فعلى الأرجح، ستتشكل لجنة عسكرية إسرائيلية لتقييم هذه النتائج، لكن بشكل استباقي هناك سيل من التقديرات والتحليلات الإسرائيلية فى هذه النقطة، القاسم المشترك بينها يكشف عن وجود "مأزق استراتيجي" فيما يتعلق بحسابات ما قبل اندلاع الحرب مقابل النتائج التي سيتم التوصل إليها بنهاية الحرب. فلا يمكن التوقف فقط عند تقييم مستوى إنجاز أو إخفاق "القبة الحديدية" دفاعياً رغم التمويل الهائل والمناورات العديدة التي أجريت قبل الحرب لتقدير مستوى استجابتها لاعتراض الصواريخ القادمة من جبهات متعددة وليس فقط من القطاع، وتقييم الجانب الاستخباري فى رصد وتقدير القدرات المتعددة والنوعية نسبياً التي امتلكتها الفصائل الفلسطينية على مدار 7 سنوات ما بين حربى 2014 و2021. فعلى سبيل المثال، في هذه النقطة تحديداً، فإن الضربات بالقنابل الموجهة على الشريط الحدودي بين القطاع وإسرائيل تعني أن إسرائيل لا تمتلك معلومات دقيقة حول مواقع الأنفاق، لذا توجه ضربات عنيفة خارقة وارتدادية لهدمها، وبالتالي فإن تقديراتها فى هذا السياق تفتقد للدقة ويطغى عليها الطابع الاحتمالى.

ووفقاً لحسابات الحروب السابقة، كان الهدف الاستراتيجي هو تدمير قدرات حماس والجهاد الإسلامي بحيث لا يمكن استئناف بناء تلك القدرات قبل مرور عدة سنوات، لكن الواقع أثبت صعوبة تحقيق هذا الهدف، فهناك غموض أولاً فى حجم ترسانة الصواريخ التي كانت تقدر فى 2014 بنحو 10 آلاف صاروخ، وهناك تقديرات إسرائيلية تتساءل أين تخزنها المقاومة، طالما أن الضربات استهدفت مواقع إطلاق ثابتة ومتحركة وليس مواقع التخزين، بالإضافة إلى تنويع القدرات على نحو ما سلفت الإشارة.

 الأمر الآخر يتعلق بكفاءة الدفاع المدني الإسرائيلي للاستجابة لتلك التهديدات، إذ أن أحد مصادر القلق الإسرائيلية التي أشار إليها الرئيس رؤوفين ريفلين يتمثل فى تصدع الجبهة الداخلية واستخدام مصطلح "الحرب الأهلية" بعد أن أصبح "عرب 48" كتلة حرجة بالنسبة لإسرائيل تضامنت فى الأخير مع فصائل المقاومة بالنظر إلى الانتهاكات الإسرائيلية بحقهم فى حى الشيخ جراح وباب العمود.

ومن جهة أخرى، فإن هناك نحو 3 مليون إسرائيلي اضطروا إلى البقاء فى ملاجىء تحت الأرض بالنظر إلى توسيع قطر دائرة الاستهداف وهو ما يعني أن وسائل الدفاع المعلن عنها لم تكن آمنة بالقدر الكافي وفقاً لما كانت تتجه له التقديرات قبيل اندلاع المعركة.

إلى جانب ذلك، هناك ملمح جوهري أشار إليه العميد عودي ديكل مدير معهد الأمن القومي الإسرائيلي INSS فى تقدير له، يتعلق بكفاءة عملية القيادة أو القدرة التشغيلية بين المؤسسات العسكرية والأمنية أو غرف العمليات أثناء الحرب (إدارة المعركة)، حيث كشفت المعركة عن وجود فجوة فى هذا السياق. وينقلنا هذا المنحى الذي يقدمه ديكل إلى إشكالية مزمنة فى العلاقات المدنية- العسكرية الإسرائيلية، على مستوى العلاقة بين رئيس الحكومة ووزير الدفاع ورئيس الأركان، فمن الواضح تماماً أن هذه المعركة افتقدت للزخم السياسي بينما غلب عليها الطابع العسكري فى خطاب نتنياهو رغم كونه لا ينتمي للمؤسسة العسكرية، حيث ظهر للإعلام أكثر من مرة وهو يتحدث عن معدل الضربات والنتائج والتوجيه الاستراتيجي.

ومع الوضع فى الاعتبار أيضاً بُعد التنافس والخصومة بينه وبين وزير الدفاع بيني جانتس فى إطار الأزمة السياسية الخاصة بتشكيل الحكومة، يظهر هذا الأمر بشكل أكثر وضوحاً، ومن الناحية العملية تاريخياً هناك جدل حول هذه النقطة ومن يحق له القرار وفقاً للمعطيات العسكرية، خاصة إذا كان رئيس الوزراء بلا خلفية عسكرية. وفى ظل حالة نتنياهو، فإنه سعى إلى الاستئثار بهذا الملف ومنح الأولوية للطابع الأمني على السياسي فى إدارة ملفات السياسة الخارجية، بزعم تنامي التهديدات الإقليمية. وعلى الأرجح، يسعى نتنياهو إلى بناء مجد شخصي أكثر منه أداء مؤسسي ليؤرخ لـ"حقبته" كما تم التأريخ لحقبة بن جوريون، لذلك يطرح ديكل فى خلاصة تقديره توصيات مفادها إعادة الاعتبار للعملية السياسية، وفى رؤيته قد يكون من المهم إضعاف حماس لكن عبر تقوية السلطة الفلسطينية، وسحب البساط الخاص بقضية القدس منها عن طريق تعزيز إشراف الأردن على المقدسات وإطلاق عملية تسوية بدلاً من الجمود الحالي.

الحسابات المستقبلية

من المتصور أن حسابات النصر والهزيمة بالنسبة لكل من فصائل المقاومة وإسرائيل تختلف فى التقييم العسكري عن التقييم الإعلامي الذي يدعي فيه كل طرف أنه أحرز الانتصار. ومع تكرار جولات الحرب أصبح واحداً من الأهداف يتعلق بالدروس المستخلصة منها وإلى أى مدى يمكن الاستفادة من التقييم فى الاستعداد لجولة الحرب المقبلة، مع رفع هامش عنصر المفاجأة.

فى هذا السياق، يمكن القول على مستوى التقييم إنه بالنسبة للفصائل الفلسطينية، هناك متغير محسوب لصالحها من ناحية، لكن هناك تحديات ومأزق مستقبلي سوف يواجهها من ناحية أخرى، كما هو الحال بالنسبة لإسرائيل، وهو ما يمكن تناوله فى السياق التالي.

فيما يتعلق بالمتغير المحسوب، يمكن القول إنه على عكس الموقف الإسرائيلي الخاص بفجوة القيادة وانعكاسات الأزمة السياسية على كفاءة إدارة المعركة عسكرياً، يبدو الأمر بالنسبة للفصائل الفلسطينية التي ظهرت أكثر كفاءة على مستوى القيادة، فهناك قيادة أركان فى كتائب عز الدين القسام تدير تشكيلات تتولى مهاماً مختلفة فى الوقت نفسه، بالإضافة إلى تحسن العامل الاستخباري الذي انعكس فى توسيع بنك الأهداف، فضلاً عن القدرة على إخفاء قسم من القدرات العسكرية.

ورغم أنها تواجه بدورها مأزق "كفاءة القدرات" التي تمتلكها، بشكل عام، لكن يحسب لها أن تلك القدرات لازالت فى طور الاختبار التجريبي. فعلى سبيل المثال، معامل الانحراف فى توجيه الصواريخ كان كبيراً للغاية، وقد تصدت "القبة الحديدية" تقريباً لثُلث الصواريخ بينما سقط ما يقارب ثُلثها الآخر فى مواقع خالية، في حين يوزع الثُلث الأخير ما بين صواريخ سقطت داخل القطاع نفسه (حوالي 450 صاروخ من بين 3 آلاف صاروخ تقريباً) – حتى اليوم الثامن من المعركة – وصواريخ تمكنت من الاقتراب من الهدف أو إصابته بالفعل. ويعود ذلك إلى غياب تقنية التوجيه فى تلك الصواريخ مقارنة بمثيلاتها على اعتبار أنها إيرانية المنشأ - صاروخ "بدر 3" تمتلكه الحركة الحوثية فى اليمن منذ أبريل 2019 أى قبل الإعلان عنه بشهر من جانب حركة الجهاد الإسلامي- لكن قياساً يبدو هنا اختلاف فى عامل الدقة لصالح القدرات الحوثية.  

كذلك، فإن الطائرة من دون طيار "شهاب" التي تمتلكها حماس، أقرب إلى نسخة "أبابيل تي" -  الإيرانية المنشأ - وجيل "أبابيل" تقادم نسبياً مقارنة بـ"مهاجر 6" و"قاصف 2K" التي يمتلكها الحوثيون. لكن تمت صناعتها محلياً، كما أضافت إليها حماس تركيب "صاروخ كروز"، وهى تكنولوجيا إيرانية حديثة على الأرجح تم نقلها لحماس فى إطار عملية نقل الخبرات، وتكشف طريقة الاعتراض من جانب إسرائيل عن محدودية كفائتها، بالإضافة إلى أن استخدام سرب منها على الرغم من طول المدى الزمني للمعركة يكشف أنها ليس لديها مخزون كبير، وهو ما يشكل تحدياً لدى حماس التي سيتعين عليها وضع برنامج خاص للتطوير والإنتاج وهى عملية صعبة.    

استفادت حماس أيضاً من عدم دخول وكلاء إيران الآخرين على خط الإسناد فى المواجهة مع إسرائيل، لاسيما حزب الله اللبناني الذي شن ضربتين صاروخيتين بمعدل 3 صواريخ فى الضربة، لكن تم اعتراض الأولى بينما سقطت الثانية داخل الأراضي اللبنانية، وبالتالي لم يتعدى دوره المشاركة الرمزية. فدخول الوكلاء على الخط كان سيقلص من حجم التعاطف العربي والإسلامي مع حماس تحديداً التي سعت إلى تحسين صورتها فى هذه الحرب بدافع يتعلق بقضية وطنية وهى قضية القدس، وربما كان سيقلب موازين المعركة فى اتجاهات أخرى، قد تصل إلى مستوى الحرب الإقليمية، وهو أمر لن يكون فى صالح أى طرف أو حتى لصالح القضية الفلسطينية بشكل عام.

الأصعب فى حسابات الفصائل هو الحجم الهائل للدمار والأضرار التي تعرضت لها البنية التحتية الفلسطينية، فربما خفّضت إسرائيل من مستوى استهداف الضحايا المدنيين فى حرب 2021 مقارنة بحرب صيف 2014 (1462 إلى 200 تقريباً)، إلا أنها زادت من مستوى تدمير البنية التحتية، وهو ما سيشكل تحدياً كبيراً بالنسبة لحماس التي سيتعين عليها التخلي عن أولوية إعادة بناء القدرات العسكرية، لصالح التركيز على إزالة آثار الدمار ومعالجة الأضرار كأولوية لفترة طويلة.  

فى الأخير، يمكن القول إن مؤشرات التقييم الأوّلية للمعركة تعكس مدى تعقيد هذه الحرب إذا ما قورنت بالحروب الثلاثة السابقة (2008 - 2012 - 2014). فبالنسبة لإسرائيل، فإنها ستضاعف من الجدل حول "نظرية الأمن الإسرائيلي" فى ظل التحديات التي تم استعراضها فى ضوء متغيرات معادلة القوى مع الفصائل الفلسطينية، ومهما تم إضعافها فإنها ستظل قادرة على إيذاء إسرائيل فى كل مرة تخوض فيها مواجهة مهما كانت ضارية. كما ستلفت الانتباه لمدى عمق الأزمة السياسية التي تمر بها إسرائيل. أما بالنسبة لحماس، فسيتعين عليها إعادة النظر فى الإقدام على خوض معركة فى المستقبل فى ظل حسابات الجغرافيا التي تشكل مأزقاً كبيراً غير قابل للتغير، وأيضاً حسابات تحمل كلفة الدمار الهائل التي ستتحمل قدراً من المسئولية السياسية عنه بخلاف كُلفة إعادة الإعمار التي لن تمرر بسهولة دون استحقاق سياسي آخر هو إنهاء الانقسام.