د. عبد العليم محمد

مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

منذ بداية الظاهرة الاستعمارية من القرن التاسع عشر وحتى انتهائها، لم تأل المؤسسة الاستعمارية جهداً فى تشكيل معرفة تزعم أنها موضوعية عن الشعوب التى وقعت تحت وطأة المستعمر وثقافات هذه الشعوب وحضاراتها، وهذا التلازم والتزامن بين الظاهرة الاستعمارية وبين تكوين منظومة معرفية عن الشعوب الخاضعة للاستعمار، رافق كافة أشكال الاستعمار الاستيطانى وغير الاستيطانى، واستهدف هذا التلازم بين القوة الاستعمارية والمعرفة التى توفرت عن شعوب المستعمرات تحقيق الأهداف الاستعمارية فى السيطرة والإخضاع والهيمنة على هذه البلدان، وكيفيات وآليات هذه السيطرة بكافة الوسائل بهدف تفكيك وحدة هذه الشعوب وتحقيق الأهداف الاستعمارية خاصة زعم القوى الاستعمارية بمعرفة سلوك وقيم واتجاهات ونفسية وشخصية الشعوب المستعمرة، وعلى ضوء هذا الزعم تتأسس طبيعة المواجهة والاحتواء وأساليبها الخشنة والناعمة.

المعرفة والاستعمار

استعانت القوى الاستعمارية بجزء مهم من المعرفة الاستشراقية عن حضارات وشعوب البلدان المستعمرة، وهذه المعرفة الاستشراقية التى استعانت بها القوى الاستعمارية تأسست على فرضيات ومنهجيات مغرضة ومتحيزة ضد هذه الشعوب؛ مثل أن البلدان الاستعمارية متحضرة ومتمدنة وأن لها رسالة لنقل هذه الحضارة والمدنية لهذه الشعوب، وكذلك فرضية أن الشعوب المستعمرة أو الخاضعة للاستعمار ليست قادرة على معرفة نفسها وثقافاتها بحكم تخلفها، ولا تمتلك الأدوات المنهجية والعلمية لتوفير هذه المعرفة عن نفسها، وأن المستعمر هو من يملك هذه المنهجية والتطور العلمى والفكرى لجعل هذه الشعوب "موضوعاً" للمعرفة، وقد ثبت تاريخياً وعملياً سطحية هذه النظرة واجتزائها وتشوهها وانحيازها المطلق للقوى الاستعمارية، وترافقت هذه المعرفة المشوهة مع السلاح والقوة ومختلف الأقنعة الأخرى مع الظاهرة الاستعمارية حتى انقضائها.

الزعم الإسرائيلى بمعرفة الشعب الفلسطينى

المؤسسة الاستعمارية الأمنية الإسرائيلية لم تكن استثناءاً من ذلك، بل استفادت من هذا الموروث الاستعمارى واستخدمته على نحو واضح، بل وطورت أساليبه بما يتلاءم مع الحالة الإسرائيلية، حيث توفرت للمؤسسة الاستعمارية الإسرائيلية معارف عن الشعب الفلسطينى من خلال مراكز البحوث والجامعات والكوادر الأكاديمية قبل نشأة الدولة وبعدها، شملت هذه المعارف أنماط الحياة فى المدن والمناطق الفلسطينية والمشكلات القائمة، بهدف تحقيق السيطرة والاحتواء وتنفيذ الأهداف الإسرائيلية، بيد أن هذه المعرفة تم تصميمها منذ البداية من الزاوية الأمنية، والتى تعنى توفير القدرة للمؤسسة الاستعمارية على تحليل الأحداث والتنبؤ بها، وكيفية التعامل مع الوقائع الجارية، وقد منحت هذه المعرفة إسرائيل الزعم والوهم بأنها الأقدر على معرفة وفهم الشعب الفلسطينى وأن هذا الشعب لا يستطيع معرفة نفسه بنفسه، وذلك تعبيراً عن الاستعلاء والغطرسة والعنصرية.

كشفت التجربة الإسرائيلية مع الشعب الفلسطينى عن زيف وسطحية وغرور هذه الأنثروبولوجيا الاستعمارية، والمعرفة التى نجمت عنها حول اتجاهات وشخصية الشعب الفلسطينى، ففى العديد من المحطات والمواقف، تمكن الشعب الفلسطينى بنضاله الباسل من كشف وتعرية المستعمر الإسرائيلى، وإبراز جهله العميق بطبيعة الشعب الفلسطينى ودوافعه وقيمه المتراكمة عبر العصور، والتى تحدد طريقة استجابته وتصديه للاستعمار الإسرائيلى، ففى عام 1987 وعند نشوب الانتفاضة الفلسطينية الأولى فوجئت إسرائيل بتفجيرها واستمرارها وهى التى كانت قد توصلت واستنتجت أن الشعب الفلسطينى قَبِل بالاحتلال "الليبرالى" كما تزعم، ولم تستطع أى من المؤسسات الأمنية أو البحثية أو الدراسية التنبؤ بالانتفاضة أو التحذير من إمكانية وقوعها؛ على النحو ذاته أى مفاجأة إسرائيل بسطحية فهمها للشعب الفلسطينى، تفجرت انتفاضة الأقصى عام 2000 بعد اقتحام ارييل شارون محاطاً بالشرطة المسجد الأقصى، وفى أثناء "هبِّة النفق" عام 1996 لدى اكتشاف الفلسطينيين حفراً لأنفاق تحت المسجد الأقصى، وكذلك الأمر فيما يتعلق بـ"هبِّة البوابات الإلكترونية" التى وضعتها سلطات الاحتلال على مداخل المسجد الأقصى فى عام 2017 واضطرت إسرائيل لإزالتها.

الزعم الإسرائيلى المتعالى والمتغطرس بمعرفة كيف يفكر الفلسطينيون وكيف يستجيبون يثبت بطلانه وزيفه فى أغلب حلقات المواجهة الإسرائيلية- الفلسطينية؛ خاصة فيما يتعلق بالقدس والمسجد الأقصى، لأن هذه المعرفة ذات طبيعة أمنية وليس بمقدورها أن تسبر أغوار الشخصية الفلسطينية، وعمق تجذرها فى الأرض والتاريخ وكثافة التراكمات والخبرات وطبقات الوعى عبر التاريخ، فالشعب الفلسطينى وحده يعرف ماذا يريد، وكيف السبيل إلى الوصول لما يصبو إليه، بيد أن الغطرسة والاستعلاء والإحساس الزائف بالتفوق وغرور القوة يعمى القلوب التى فى الصدور.

من باب العامود إلى حى الشيخ جراح

تعرف إسرائيل أن شهر رمضان لدى الشعب الفلسطينى هو مناسبة للتفاعل الاجتماعى والأسرى والتواصل الجماعى والسهر حتى مطلع الفجر، وقد بدأت الأحداث الراهنة بوضع قوات الشرطة الإسرائيلية فى مطلع الشهر الكريم مجموعة من الحواجز الجديدة على درج باب العامود تحت ذريعة تنظيم الحركة للمصلين وتجنب الأزمات.

باب العامود فى ثقافة المقدسيين وممارساتهم هو مكان عام وفضاء اجتماعى فلسطينى دون قيود، يجتمع الفلسطينيون فيه للسهر وتبادل الحديث والتواصل، وبهذه الصفة فإن باب العامود يستمد أهميته من حيث كونه الفضاء المقدسى الفلسطينى والرئة الوحيدة لتنفس المقدسيين، ولقاءاتهم وتفاعلهم وهو بمثابة الفضاء الثالث بعد المنزل والعمل.

الرسالة التى فهمها الفلسطينيون وعن حق أن الأمر لا علاقة له بتنظيم الحركة، بل بالحؤول دون وجود مقدسى كبير وظهور هذا الوجود إلى حيز العلن، أى طمس معالم الوجود الفلسطينى والمقدسى فى المدينة وإفساح المجال للجماعات الاستيطانية والعنصرية لاستعراض قوتها بوجودها فى القدس.

انتفض المقدسيون ضد هذه الحواجز وأدركوا الغرض من وضعها، وأن هذه الحواجز وضعت لتبقى ولتغييب الوجود الفلسطينى وتهويد القدس، خاصة وأنه سبق ذلك إخلاء منازل بعض الفلسطينيين فى حى سلوان لصالح مستوطنين يهود، كما تزامن وضع هذه الحواجز مع محاولات الشرطة إخلاء منازل عددها 28 منزلاً فى حى الشيخ جراح بناءً على دعاوى قانونية، وعمليات تحايل قانونى من قبل بعض الشركات القانونية وجمعيات المستوطنين، وترافق ذلك مع دعوات لجماعات صهيونية متطرفة لاقتحام الأقصى فى 28 رمضان الموافق 10 مايو عام 2021 وهو اليوم الذى يسميه الإسرائيليون "عيد توحيد القدس"، هذه العوامل والوقائع فى حى سلوان وباب العامود وحى الشيخ جراح هى التى دفعت المقدسيين إلى الدخول في مواجهات مع السلطات الإسرائيلية، مؤيدين من قبل كافة الفلسطينيين من مدن الداخل والضفة من خلال المسيرات والحافلات لتأييد مطالبهم، وكفّل هذا التأييد الشامل لصمود المقدسيين وإصرارهم على إفشال المخطط الانتصار فى هذه المواجهات مع السلطات الإسرائيلية وأزيلت الحواجز واحتفل المقدسيون بالانتصار فى المواجهات وتمكنوا بالإضافة إلى ذلك من إفشال العديد من محاولات اقتحام الأقصى بهدف إخلائه من المرابطين لتسهيل اقتحام المستوطنين له فى يوم 28 رمضان وهو اليوم الذى بدأت فيه معركة "سيف القدس" من غزة برشقات صاروخية من غزة على بعض الأهداف فى إسرائيل.

مصادرة أراضى وممتلكات الشعب الفلسطينى

يتكاتف القانون والقضاء بموجب قانون أملاك الغائبين الذى يقضى بوضع أراضى وممتلكات الفلسطينيين فى فلسطين الذين غادروها حتى 27 نوفمبر 1947 تحت وصاية الدولة التى عينت وصياً على هذه الأملاك، يضاف إلى التواطؤ بين القانون والقضاء والوصى على أملاك الغائبين تحالف الدولة مع المستوطنين وشركاتهم وجمعياتهم والتى تمثل على حد تعبير أحد الكتاب الإسرائيليين "دولة داخل الدولة"، من بين هذه الجمعيات والشركات برزت فى الأحداث الراهنة جمعية "نحالات شمعون" أى أملاك شمعون وبعض المنظمات العنصرية مثل "لهافا" وشركات قانونية للتحايل لمصادرة أملاك الفلسطينيين.

محاولة إخلاء 28 منزلاً فلسطينياً من العائلات الفلسطينية لصالح هؤلاء المستوطنين، تنخرط ضمن هذا التحالف وهذا التواطؤ، حيث امتلكت هذه العائلات منازلها فى حى الشيخ جراح بناءً على اتفاق أبرم بين الحكومة الأردنية عندما كانت تسيطر على القدس الشرقية والضفة الغربية قبل عام 1967 وبين هيئة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، وبموجبه يتنازل هؤلاء الفلسطينيون عن هوية اللاجئ مقابل الحصول على هذه المنازل، وأظهرت الحكومة الأردنية وثائق تمليك هذه المنازل للفلسطينيين الذين تريد إسرائيل إخلائهم لصالح المستوطنين وذلك بهدف تعزيز الموقف القانونى لأصحاب هذه المنازل.

تغير الوضع القائم ""Status quo فى القدس

فى أعقاب عدوان 1967 واحتلال إسرائيل للضفة الغربية والقدس الشرقية، كان ليفى أشكول رئيس الحكومة الإسرائيلية آنذاك قد أعلن أن المسجد الأقصى فى القدس الشرقية "البلدة القديمة" يبقى على ما هو عليه تحت الإشراف الأردنى، ولم يتخذ ذلك شكل الاتفاق المكتوب، بل تفاهمات ظلت قائمة، وأكد عليها وزير الدفاع فى حكومة أشكول فى ذلك الوقت موشى ديان الذى أعلن أن الأقصى مكان عبادة للمسلمين، ليس لليهود حق الصلاة فيه ويمكن لهم أن يصلوا فى جبل الهيكل أو حائط المبكى، وأن تُؤمِّن الشرطة الإسرائيلية هذه المهمة.

ورغم أن هذه التفاهمات تتعلق بالأقصى فقط، إلا أن الشعب الفلسطينى يرى أنها تنطبق على القدس الشرقية أو البلدة القديمة، وظل العمل بهذه التفاهمات قائماً إلى فترة طويلة، ومع ظهور اليمين القومى المتطرف والدينى وتزايد نفوذ المستوطنين فى الدولة ومؤسساتها وقراراتها وتحالف حكومات بنيامين نتنياهو مع هؤلاء المستوطنين وأحزابهم وجمعياتهم وشركاتهم القانونية، فضلاً عن القرار بتوحيد القدس بعد عدوان 1967، بدا أن تغيير هذا الوضع القائم أصبح فى متناول هذه السياسات والجماعات، خاصة بعد نقل السفارة الأمريكية إليها أى إلى القدس وبعد صفقة القرن.

فى أعقاب هذه التطورات الداخلية فى إسرائيل والخارجية "إدارة ترامب"، استهدفت كل القرارات الإسرائيلية والإجراءات الاستيطانية خرق الوضع القائم وتغييره بحيث يتم طمس الوجود الفلسطينى فى القدس ونزع ملكية المقدسيين لمنازلهم وممتلكاتهم وتحويلهم إلى مقيمين يمكن إنهاء إقاماتهم فى القدس بذرائع قانونية شتى وإجراءات اتخذتها سلطات الاحتلال، مثل مصادرة الأراضى وحفر الأنفاق تحت الأقصى وزيادة وتيرة الاستيطان وإنشاء الوحدات الاستيطانية فى القدس.

آفاق المواجهة الراهنة

اختلفت المواجهة الراهنة التى بدأت من باب العامود وحى الشيخ جراح وامتدت إلى الضفة الغربية والمدن المختلطة وغزة، عن غيرها من المواجهات الفلسطينية- الإسرائيلية من عدة نواحٍ.

الأولى، أن القدس أصبحت قاطرة النضال الفلسطينى وحجر الزاوية فيه، حيث أصبحت عنوان وحدة الشعب الفلسطينى، فى غزة والقدس والضفة والفلسطينيون فى الداخل وفى الشتات، وأصبحت المواجهة عارمة وشاملة، وذلك على خلاف هبِّة البراق والحواجز الإليكترونية فى 1996، و2017.

 الثانية، أن هذه المواجهة الراهنة لم تقتصر على القدس والأقصى، بل امتدت لمواجهة العنصرية والتمييز الذى تمارسه الشرطة والمؤسسات الإسرائيلية، ففى المدن المختلطة تفجرت المعاناة من العنصرية والتمييز وأصبحت التهديدات الداخلية للمناعة الإسرائيلية ربما أشد خطورة من التهديدات الخارجية.

الثالثة، أن تفجر هذه المواجهة على هذا النحو تزامن مع عجز نتنياهو عن تشكيل حكومة، وانقضاء المهلة التى منحت له فى 6 مايو 2021، وتكليف رئيس الدولة لرئيس حزب "يوجد مستقبل" مائير لبيد بتشكيل الحكومة، والذى شرع فعلاً فى إنجاز هذه المهمة، مع معسكر "التغيير" الذى يريد إنهاء حكم نتنياهو وكاد لبيد أن ينجح فى جمع الأغلبية اللازمة فى الكنيست لتشكيل الحكومة.

تشير العديد من الكتابات الإسرائيلية إلى دور نتنياهو فى الموقف الراهن، ليس فحسب باعتباره رئيس وزراء تسيير الأعمال، بل لرغبته فى إفشال مساعى لبيد لتشكيل الحكومة، ووضع العصا فى العجلة، وتعقيد مهمته فى التحالف مع القائمة العربية الموحدة أو غيرها. فالجميع يعلم أنه عندما تدق ساعة المواجهة والحرب مع الشعب الفلسطينى وظهور الخطر المحدق بالدولة، لا يملك السياسيون والمسئولون الإسرائيليون ترف المزايدة على الحكومة القائمة، بل إنهم يصطفون وراء القيادة بصرف النظر عن اختلافهم معها أو مناهضتهم لحكمها، وهذا ما حدث فعلاً، فسواء تعلق الأمر ببينى جانتس ممثل "أزرق أبيض" أو مائير لبيد المُكلَّف بتشكيل الحكومة أو جدعون ساعر المنشق عن "الليكود"، فإنهم وراء القيادة عندما تواجه إسرائيل الخطر وفقاً لتصوراتهم، عن خلفية الخطر والمخاطر المحدقة بالدولة الإسرائيلية.

ويبدو من خلال مراجعة بعض الكتابات الإسرائيلية أن وزير الأمن، والذى هو أحد أعضاء "الليكود" ومن المقربين من نتنياهو ويسمى أمير أوحانا، قد تلقى ضوءاً أخضر من رئيس حكومة تسيير الأعمال لقمع الاحتجاجات إن فى الداخل أو فى القدس وغيرهما، فضلاً عن أنه، أى وزير الأمن، وكما تشير العديد من الكتابات، يفتقد إلى الخبرة ويتحمل قسطاً كبيراً من المسئولية عن تفاقم الأمور.

على صعيد آخر، فإن نتنياهو من المؤمنين بأن مزيداً من دماء الفلسطينيين يعنى مزيداً من الأصوات وطريقاً لتعزيز الانتماء لمعسكره، وتقرباً من حلفائه من اليمين الدينى والقومى المتطرف إن فى الكنيست أو فى أحزاب اليمين وأحزاب الصهيونية الدينية.

يرى نتنياهو أن انتخابات خامسة قد ترفعه مجدداً إلى الصدارة، وتخصم من رصيد معارضيه فى الحال، وتمنحه العفو والحصانة من الاتهامات الموجهة له أو تحصنه من السجن والعقاب.

حسابات نتنياهو الخاطئة

تعتمد حسابات نتنياهو على الكيفية التى سيخرج بها من المأزق الراهن والمواجهة الحالية وما إذا كان بمقدوره الحصول على مكاسب جديدة وأوراق تعزز موقفه وتدفع به إلى الصدارة مثل تحقيق الأمن لإسرائيل ومواطنيه من الصواريخ الفلسطينية، أو إخضاع المقاومة الفلسطينية، وهو الأمر الذى لا يزال حتى الآن بعيد المنال.

من ناحية أخرى، فإن ما يزعمه عن إنجازاته فى التطبيع يفقد بريقه رويداً رويداً، وثبت أن ذلك ليس بديلاً للاعتراف بحقوق الشعب الفلسطينى فى الدولة والقدس من خلال حل الدولتين.

كما أن خطابه المتمثل فى حسم وتصفية القضية الفلسطينية يبدو كالسراب الذى يحسبه الظمآن ماءً، حيث تصدرت القضية الفلسطينية المشهد الإقليمى والدولى، وطرح الشعب الفلسطينى مجدداً قضيته بشكل مفاجئ ومبهر وحصل على تعاطف الرأى العام من كل حدب وصوب ومن الصعب تجاهل هذه العناصر أو إدارة الظهر لها إن من قبل نتنياهو أو غيره.

من ناحية ثانية، لم يعد بمقدوره المراهنة على الانقسام بين فتح وحماس، ففى مقابل ذلك ثمة وحدة الشعب الفلسطينى فى الداخل والخارج والشتات واللجوء، وهذه الوحدة الحقيقية هى الدافع للتماسك الفلسطينى ومصدر القوة والمخزون الحقيقى للمقاومة والصمود.

قد يحترق نتنياهو بالنار التى أشعلها وبالحصاد المر لسياساته التى ألحقت الضرر بالشعب الفلسطينى وبالإسرائيليين.

ويبقى أخيراً وليس آخراً، أن المشاركين فى هذه المواجهة إن فى الداخل أو فى الخارج من أبناء الشعب الفلسطينى أغلبهم إن لم يكن معظمهم من غير الحزبيين أو الفصائليين، لا يمكن شراؤهم أو إجبارهم على الصمت، فهم مرابطون فى الساحات والميادين داخل إسرائيل وفى الأراضى المحتلة والقدس، وأفشلوا أجهزة الشرطة والاستخبارات وكشفوا زيف حساباتها وسطحية معرفتها بأعماق الشعب الفلسطينى الذى حاصروه ولم يستسلم وسجنوه ولم يستسلم وقدموا له الإغراءات المالية ولم يستسلم، ضربتهم إسرائيل فى البر فجاءوا من البحر، وعندما لم يتمكنوا من البر والبحر جاءوا عبر الأنفاق ودخلوا على القناة الثانية الإسرائيلية وفكوا شفرة القمر الصناعى الإسرائيلى، هؤلاء هم الفلسطينيون كما يتحدث عنهم بعض الكتاب الإسرائيليين.

يضاف إلى ذلك، أن الصواريخ الفلسطينية قد تطورت من حيث المدى والعدد وطالت العمق الإسرائيلى بعد أن كانت محصورة فى غلاف غزة وفشلت القبة الحديدية أو على الأقل لم تكن كفاءتها قادرة على تعقب تلك الموجات من الصواريخ، نقلة نوعية فى المواجهة بشقيها المدنى والعسكرى سوف يكون لها ما بعدها.