سعيد عكاشة

خبير مشارك - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

تتواصل الضربات المتبادلة بين إسرائيل وحركة حماس في وقت لا تبدو فيه نهاية لهذه الاشتباكات في ظل حسابات طرفى الأزمة في الوقت الراهن. ولكن على الجانب الآخر، هناك جهود تقودها مصر بشكل أساسي لاستعادة التهدئة بين الجانبين، والمأمول أن تدخل الولايات المتحدة على خط الأزمة بشكل أكبر في القريب العاجل لكى تدعم الجهود المصرية. ويمكن القول إن احتمالات نجاح هذه الجهود ستبقى مرهونة بقناعة إسرائيل وحماس معاً بأن إطالة أمد الصدام ليس في مصلحتهما. وحتى تلك اللحظة، ترفض إسرائيل أى حديث عن التهدئة، فيما تبدو مؤشرات عدة على أن حماس مستعدة لذلك بشرط الوقف المتزامن للاعتداءات المتبادلة. فما هى دوافع الطرفين لاتخاذ هذا الموقف؟.

حسابات إسرائيل

بعد أن شعرت إسرائيل بارتباك كبير نتيجة المدى الجغرافي الواسع داخل أراضيها الذي غطته صواريخ حماس، ونتيجة أيضاً لانتشار المواجهات بين اليهود والعرب في المدن الإسرائيلية المختلطة، عادت لتحاول استعادة  زمام  المبادرة من جديد في اليوم الرابع من المواجهة، حيث كثّفت من هجمات الطيران والمدفعية على مواقع حركة حماس وزعمت الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية أنها تمكنت خلال اليومين الماضيين (الخميس والجمعة 13 و14 مايو الجاري) من تحديد مواقع منصات الصواريخ البعيدة والمتوسطة المدى والتي كانت حماس تطلق منها الصواريخ نحو وسط وشمال إسرائيل. وحسب المزاعم نفسها، فإن حماس فقدت القدرة على تهديد مدن تل أبيب والقدس ولم يعد لديها سوى الاستمرار في إطلاق الصواريخ القصيرة نحو المناطق الحدودية في الجنوب، وهى الصواريخ التي تتعامل معها منظومة القبة الحديدية بشكل أفضل. 

من ناحية ثانية، يبدو أن الأمن الإسرائيلي يراهن على إمكانية السيطرة على الصدامات التي تدور بين العرب واليهود في المدن الإسرائيلية المختلطة مثل القدس وحيفا واللد وعكا وغيرها، وكان رئيس الدولة رؤبين ريفيلين قد حذر مما أسماه بنشوب حرب أهلية في إسرائيل نتيجة الاحتقان بين الإسرائيليين اليهود والعرب. 

ومن ناحية ثالثة، يمنح الموقف الأمريكي الراهن من الصراع الجاري على الأرض إسرائيل الفرصة للاستمرار في توجيه الضربات العنيفة لحماس، حيث صرح الرئيس الأمريكي جو بايدن بأن لـ"إسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها وعن مواطنيها"، كما شهد لإسرائيل بأن "هجماتها لم تتجاوز السقف المقبول للرد على اعتداءات حماس" (ربما يقصد عدم وقوع آلاف الضحايا جراء هذه الهجمات). كذلك رفضت واشنطن استعجال عقد جلسة لمجلس الأمن لمناقشة الأزمة وتم تأجيل موعد الانعقاد إلى يوم الأحد 16 مايو الجاري (يمكن أن تواصل واشنطن محاولات عقد الجلسة لأبعد من هذا التاريخ). وأخيراً، فإن الرئيس جو بايدن يبدو أنه قد وضع الشرط الضروري للتحرك الدبلوماسي الأمريكي بقوله أنه ينتظر تراجع الهجمات الصاروخية على إسرائيل بشكل واضح. 

ولكن غنى عن القول أن الحسابات الإسرائيلية السابق ذكرها تحتاج كلها لاختبار مصداقية. فتقديرات الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية لفقدان حماس القدرة على إطلاق صواريخ متوسطة وطويلة المدى نحو المدن الإسرائيلية الكثيفة السكان في الوسط والشمال سوف يظهر مدى دقتها في غضون الأيام القادمة، بمعنى أنه إذا انحصرت ضربات حماس في استخدام الصواريخ قصيرة المدى والموجهة نحو المدن الحدودية الإسرائيلية المحاذية لقطاع غزة، فإن ذلك سيثبت صحة تقديرات المخابرات العسكرية الإسرائيلية، أما لو تمكنت حماس من إطلاق عدد من الصواريخ نحو المدن البعيدة فإن الأمر لن يقتصر على التشكيك في قدرات إسرائيل الاستخبارية بل سيصبح سلاحاً إضافياً في يد حماس يمكن أن تستفيد منه في أى مفاوضات محتملة لاستعادة التهدئة. 

وفيما يتعلق بالأوضاع المتوترة بين العرب واليهود داخل المدن الإسرائيلية المختلطة، تبدو الأمور بدورها غير محسومة وقد تستمر هذه التوترات لفترة أطول وقد تتزايد حدتها، وعندها سيلقي هذا الوضع بظلاله على المعارك الدائرة في غزة، وحتى الآن لم تضطر الحكومة الإسرائيلية لفرض حظر التجوال سوى في مدينة اللد وحدها بما يعني أنها ما تزال قادرة على السيطرة على الوضع حتى إشعار آخر. 

ويبقى لإسرائيل موقف بايدن الذي يميل لصالحها بقوة حتى الآن، وينبع موقف الرئيس الأمريكي في الأزمة من أن حماس- المُصنَّفة كتنظيم إرهابي من قبل واشنطن- يجب أن تكون المُبادِرة بوقف الهجمات على إسرائيل قبل أن تحاول واشنطن دعم جهود استعادة التهدئة بين الجانبين.

إضافة إلى ذلك، فإن أعداد الضحايا الفلسطينيين خاصة في أوساط المدنيين يبدو، وفقاً للرؤية الأمريكية، قليلاً مقارنة بمثيلاتها في المواجهات السابقة التي نشبت بين إسرائيل وحماس (حتى كتابة هذه السطور لم يزد عدد الضحايا المدنيين عن خمسين شخصاً فيما تزعم إسرائيل أن الضحايا الذين تقول حماس أنهم سقطوا ويبلغ عددهم ما يقرب من 140 أغلبهم من مقاتليها ومقاتلي الجهاد وليسوا مدنيين). وغنى عن القول أن ضغوط الرأى العام العالمي على الولايات المتحدة وإسرائيل تتزايد فقط عندما ترتفع أعداد الضحايا المدنيين بشكل كبير، وهو ما لم يحدث حتى الآن وفقاً لتلك الرؤية، مما يعني منح إسرائيل تفويضاً أوسع للاستمرار في حملتها ضد حماس. 

حسابات حماس

راهنت حماس منذ بداية الأزمة على أن تصوير صدامها مع إسرائيل على أنه يستهدف حماية المقدسات الإسلامية وحقوق الفلسطينيين في القدس الشرقية المحتلة سوف يمنحها الفرصة لتحريك الشارع الفلسطيني والشوارع العربية والإسلامية لصالحها، الأمر الذي سيفيدها في المنافسة المستمرة مع السلطة الفلسطينية حول من الأجدر بتمثيل المصالح الوطنية الفلسطينية. كما أن نجاح حماس في تحدي إسرائيل يمكن استثماره لزيادة المساعدات التي تتلقاها الحركة من العديد من الدول مثل قطر وإيران وتركيا. 

حتى الآن، يمكن أن تزعم حماس أنها حققت بعض النجاح. فمن جانب، تمكنت من ضرب عدد كبير من المدن الإسرائيلية وأربكت نظام القبة الحديدية المخصص لمواجهة مثل هذه الهجمات. ولكن عدد الإصابات التي وقعت في صفوف الإسرائيليين كان ضئيلاً للغاية (ثمانية قتلى منهم إثنين من عرب إسرائيل)، الأمر الذي يلقي بشكوك عميقة حول قدرات حماس العسكرية ومدى إمكانية تأثيرها على الحسابات الإسرائيلية مستقبلاً.

فضلاً عن ذلك، فإن إسرائيل ستحاول استغلال اضطرار ثلاثة ملايين من مواطنيها للانتقال إلى الملاجئ من أجل تجنب الهجمات الصاروخية لكى تروج في الغرب بأن ترويع المدنيين- حتى لو كانت حياتهم غير مهددة بشكل فعلي- يعد جريمة حرب، وبالتالي ستتمكن من إجهاض الجهود التي كانت منظمات دولية تقوم بها مؤخراً لتوجيه اتهامات لها بارتكاب جرائم حرب ضد الفلسطينيين. كما ستؤدي خبرات السكان الإسرائيليين- الذين تعرضوا لتجربة اللجوء إلى المخابئ لفترات طويلة- إلى تزايد شعبية اليمين الإسرائيلي الذي تدفع معظم أحزابه إلى رفض حل الدولتين وتطالب بالعمل الجاد على إزالة حكم حماس من غزة، بما يعني أن الأخيرة تساهم فعلياً- حتى لو بدون قصد- في تقوية المعسكر المناوئ للحقوق الفلسطينية بكل ما يرتبه ذلك من مخاطر مستقبلية على القضية الفلسطينية وعلى أمن وعيش مواطني قطاع غزة. 

ومن جانب ثانٍ، اعتمدت حسابات حماس على إمكانية إشعال الضفة الغربية في وجه كل من السلطة الفلسطينية وإسرائيل في آن واحد. ورغم وقوع مصادمات بين الأمن الإسرائيلي والمتظاهرين من مؤيدي حماس في بعض نقاط الاحتكاك بين الجانبين، ورغم سقوط سبعة قتلى فلسطينيين في هذه المواجهات، إلا أن مستوى هذه الصدامات- مثله مثل الصدامات بين العرب واليهود داخل إسرائيل- ما يزال أقل من توقعات حماس، وإذا ما تمكنت إسرائيل من السيطرة على الأوضاع في هذه الجبهة في الفترة القادمة، أو حالت على الأقل دون تفاقمها، فإن وضع حماس التفاوضي لاستعادة الهدوء سيتراجع، وسيتضح أنها لم تحقق المطالب التي وضعتها لوقف المواجهة مع إسرائيل مثل سحب قوات الأمن من محيط المسجد الأقصى والتوقف عن مصادرة ممتلكات العرب في القدس وحى الشيخ جراح، حيث كانت إسرائيل قبل نشوب المواجهات قد أجّلت جلسة المحكمة الخاصة بحسم مصير ممتلكات العرب في الشيخ جراح، وهو ما لا يعني تنازل الإسرائيليين عن القضية برمتها بل يعني أنه سيتحدد موعد لاحق للجلسة في غضون شهرين.

أيضاً ورغم استمرار بعض المظاهرات في القدس، فإن الوضع لم يصل إلى حد الصدام المسلح مع الأمن الإسرائيلي كما كانت تتوقع حماس. ويعني ذلك كله أن نجاح حسابات الأخيرة سيبقى مرهوناً بمواقف لا يمكن التنبؤ بها لأطراف بعيدة بعضها خارج الحدود مثل الحركات الاحتجاجية التي تتظاهر على الحدود الإسرائيلية في لبنان والأردن، ومرهوناً أكثر بحسابات داخلية معقدة لعرب القدس والفلسطينيين في الضفة الغربية وعرب المدن المختلطة الإسرائيلية، وجميعهم يخشون من أن تتطور الأمور إلى حد فقدان السيطرة من قبل كل الأطراف، بما يفتح الطريق أمام رغبة المتطرفين في اليمين الإسرائيلي في استغلال أى حرب واسعة مع الفلسطينيين لطرد مئات الآلاف من العرب القاطنين في القدس والمدن المختلطة إلى الخارج، على نحو يعيد ذكريات النكبة وحرب يونيو 1967. 

مستقبل مساعي التهدئة

تحركت مصر منذ بداية الأزمة لاحتواء التوتر بين حماس والإسرائيليين، ومع تدهور الوضع إلى قصف عنيف متبادل بين الجانبين، إضافة لعزوف الولايات المتحدة عن التدخل السريع في الأزمة، ركزت مصر جهودها على تخفيف المعاناة عن كاهل الشعب الفلسطيني، ففتحت المعابر وسمحت بنقل الضحايا الفلسطينيين إلى المستشفيات المصرية في سيناء، كما نقلت بعض التقارير الإسرائيلية أن مصر عرضت تهدئة المصادمات العسكرية عبر هدنة قصيرة أولاً لتبذل خلالها جهود استعادة الهدوء بين الجانبين بشكل كامل. 

حتى الآن لم تتأكد حقيقة هذا الاقتراح وهل تم طرحه بالفعل أم لا. ولكن من المهم تثمين هذه المبادرة إذا ثبت وجودها. فهى تعني بوضوح أن الدبلوماسية المصرية تدرك صعوبة تحقيق العودة لاتفاق التهدئة في الوقت الراهن، ومن ثم فهى تحاول أولاً إقناع إسرائيل على وجه الخصوص بوقف عمليات القصف في غزة، مع ضمان الحصول على موافقة حماس على ذلك، بحيث تكون الهدنة المؤقتة -قيل أنها ستكون إثنى عشر ساعة- فرصة لدفع الجانبين نحو تخفيف التوتر تمهيداً لاستعادة الهدوء الكامل في وقت لاحق. وربما يكون رد فعل الطرفين إزاء تلك المبادرة مؤشراً على رغبتهما في إنهاء الأزمة من الناحية المبدئية. كما أن تحقيق الهدنة لفترة قصيرة سيساعد الجهود الدولية على تفكيك الأزمة قبل الوصول إلى عقد جلسة لمجلس الأمن حولها في غضون الأيام المقبلة، وذلك لأن إسرائيل رغم عدم اعتدادها التاريخي بقرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، إلا أنها تخشى سياسات نزع الشرعية الأخلاقية عنها أمام الرأى العام العالمي، ومن ثم فإنه من مصلحتها دعم الجهود المصرية بالقدر نفسه الذي سيكون من مصلحة حماس تأييد المبادرة، للخروج من مأزق الحسابات الخاطئة التي قادت الطرفين للصدام الأخير، وأيضاً للحفاظ على أمن الشعب الفلسطيني في غزة الذي لم تستطع حماس تحقيقه رغم كل ترسانتها الصاروخية.