لقد أصبح من الواضح تماماًأن أسلوب المراوغة والخداع الاستراتيجي الذي تمارسه إثيوبيا بشأن ملء وتشغيل ما يسمى بسد النهضة الإثيوبي الكبير يشكل تهديداً للأمن والاستقرار في منطقة شمال شرق إفريقيا. ومكمن الخطورة أن حكومة آبي أحمد ترغب وللمرة الثانية في فرض سياسة الأمر الواقع من خلال المضي قدماً في بدء الملء الثاني لخزان السد في موسم الأمطار القادم، يوليو 2021، ولو كان ذلك بدون اتفاق. وباعتقادي فإن السبب الرئيسي لفشل جولات المفاوضات الثلاثية بين إثيوبيا والسودان ومصر منذ نحو عشر سنوات - والتي شهدت في بعض جولاتها دعم وحضور الولايات المتحدة والبنك الدولي والاتحاد الإفريقي- هو عدم توافر حسن النية من الجانب الإثيوبي. لا يوجد اتفاق حول القواعد العامة الحاكمة لمنهج التفاوض أو حتى المفاهيم الأساسية التي ترتبط بالنظام القانوني لنهر النيل بشكل عام.
إن تصريحات وزيرة الخارجية السودانية السيدة مريم الصادق المهدي التي عبرت فيها عن توظيف إثيوبيا لقضية السد من أجل تركيع وإخضاع دولتي المصب لتحقيق أحلام الهيمنة الإثيوبية، تعبر عن حقيقة ما وراء هذه المفاوضات العبثية. لا توجد رغبة حقيقية للتوصل إلى تسوية قانونية، وعوضاً عن ذلك تحاول الأداة الإعلامية الإثيوبية وبشكل منهجي الترويج لمجموعة من المغالطات والأساطير التي ترسخ لمفاهيم المظلومية التاريخية التي عاني منها الإثيوبيون في نفس الوقت الذي تحاول فيه "شيطنة" الموقف المصري إن صح التعبير. وسوف نحاول في هذا المقال الإشارة إلى بعض هذه المغالطات التي تروج لها النخبة الحاكمة في أديس أبابا.
نقطة الارتكاز لفهم الموقف الإثيوبي
من المهم للغاية أن نفهم أولاً طريقة التفكير الإثيوبية قبل الرد على مغالطات وأكاذيب حكومة آبي أحمد بشأن السد ومياه النيل بشكل عام. ثمة عوامل تاريخية وثقافية وحتى لاهوتية دفعت إلى أن تصبح مفاهيم الاستثنائية الإثيوبية موجهاً لسلوك إمبراطورية الحبشة تجاه دول الجوار. أصبحت إثيوبيا بانتصارها في معركة عدوة التاريخية الدولة الإفريقية الوحيدة التي ألحقت هزيمة مدوية بالمستعمر الأوروبي. ويُكمل هذه الصورة الاستثنائية اعتقاد كثير من الأحباش أن بلادهم متميزة ثقافياً بل ومختارة وذلك من منطلق لاهوتي ديني. في كل احتفال بذكرى عدوة يتم تصوير السد من الناحية الرمزية على أنه بمثابة انتصار جديد ربما لتوحيد الأمة المنقسمة على ذاتها والتي لا تجد ما يؤلف بينها سوى العودة إلى الماضي وأساطير الكتب القديمة.
انطلاقاً من هذه الحالة والرغبة في تطويع الإرادة المصرية وبمساندة من قوى دولية كانت إثيوبيا تفكر دوماً في تحويل مجرى نهر النيل. بيد أن فكرة إنشاء سد على النيل الأزرق ارتبطت بفترة حكم الإمبراطور هيلاسلاسي وتحديداً في أواخر الخمسينيات عندما تم تكليف مكتب الاستصلاح الأمريكي بإعداد دراسة عن السدود الإثيوبية. وبالفعل صدر التقرير عام 1964 واقترح موقع السد الحالي في إقليم بني شنقول على بعد نحو أربعين كيلو متراً من الحدود السودانية وأطلق عليه آنذاك سد الحدود. تم إحياء الفكرة مع ميلس زيناوي ابتداءاً من عام 1993 الذي كان يحلم بأن تصبح المياه الإثيوبية بمثابة الذهب الأزرق والتي يتم مقايضتها بالمال. وعليه لم تكن تصريحات السفير دينا مفتي المتحدث باسم الخارجية الإثيوبية لقناة الجزيرة عن إمكانية بيع المياه مجرد زلة لسان، حيث تعكس النوايا الحقيقية من أجل الهيمنة والسيطرة.
ومع ذلك تحولت فكرة السدود الإثيوبية إلى واقع ملموس عام 2009 حيث تم إجراء المسوح المطلوبة في المنطقة. وفي عام 2010 تم تسليم التصميمات الخاصة بالسد. وخلال تلك الفترة كان العمل يتم بشكل سري وأطلق عليه اسم "المشروع إكس". وفي عام 2011 تم التعاقد مع شركة ساليني الإيطالية على التنفيذ. وقد استخدمت إثيوبيا في مراحل تصميم وبناء سد النهضة العديد من التكتيكات المراوغة والخادعة من أجل التوظيف السياسي للسد واستخدامه لدعم مكانتها الإقليمية والدولية.
ومن الملاحظ أن التصرفات الأحادية من الجانب الإثيوبي كانت تهدف ومنذ الإعلان المنفرد عن بناء السد إلى إرسال رسالة قوية إلى كل من مصر والسودان مفادها أن إثيوبيا لم تعد بحاجة إلى موافقتهما المسبقة كشرط لازم لتشييد أي مشروعات تنموية على حوض النيل الأزرق. وعليه يصبح من الواضح تماماً أن قضية سد النهضة تتجاوز الجوانب الفنية لتصبح مسألة سياسية بامتياز يتم توظيفها لتحقيق أحلام وأساطير النخب الحاكمة في أديس أبابا.
هل السد مشروع تنموي؟
استخدمت إثيوبيا منذ البداية نهج الرواية الواحدة التي تصور سد النهضة على أنه مشروع تنموي إقليمي. لقد روجت النخبة السياسية الحاكمة - ولاتزال- لفكرة أن المشروع لن يتسبب في أي ضرر جسيم لدولتي المصب، بل سوف يحقق فوائد للمنطقة، ويضمن حق إثيوبيا في التنمية. في نفس الوقت الذي رفضت فيه طلب مصر إجراء دراسات فنية من جهات دولية محايدة حول سلامة السد وآثاره البيئية والاجتماعية. وقد دأبت إثيوبيا على استخدام هذه اللغة في الترويج للمشروع على الصعيدين الإقليمي والدولي. يقول زيناوي في حفل الإعلان عن السد: "إننا مصممون على القضاء على الفقر في بلدنا ... العديد من الأصدقاء يقفون معنا؛ إن امتناننا لشركائنا في التنمية لا حدود له. قبل أن نحشد جهودنا للقضاء على الفقر، أعاقت قرون من الإفقار مسيرة تنميتنا وغلت أيدينا عن ممارسة حقنا في استخدام موارد أنهارنا". تحاول آلة الدعاية الإثيوبية التبشير بأن كهرباء السد سوف تحقق أحلام 70 مليون أثيوبي. هنا تكمن المغالطة الكبرى، حيث أن الغرض الحقيقي للسد ليس إنتاج الكهرباء، فقد كان التصميم الأساسي يقوم على وجود خزان بسعة 14 مليار متر مكعب، وهو ما يكفي وزيادة لإنارة عموم البلاد، ولكن تم رفع الطاقة الاستيعابية لخزان السد عدة مرات لتصل إلى 74 مليار متر مكعب وهو ما يؤثر لا محالة على التدفق السنوي لمياه النهر التي تصل لدولتي المصب.
معاهدات الحقبة الاستعمارية
لجأت إثيوبيا إلى رفض النظام القانوني لنهر النيل وفقاً لنظرية "الصحيفة البيضاء" التي لا تُلزمها بأي معاهدات خلال العهد الاستعماري مثل معاهدة 1902 والمعاهدة الأنجلو- مصرية الموقعة عام 1929 بالإضافة إلى معاهدة مياه النيل لعام 1959 بين مصر والسودان. وبدلاً من ذلك، دعت دول المنبع الأخرى التي تبنت "مبدأ نيريري" إلى ضرورة التقسيم المنصف لمياه النيل على أساس معاهدة جديدة على مستوى جميع دول الحوض. وقد استغلت إثيوبيا تغير الخطاب العالمي حول استخدام المياه لصالحها. ففي الوقت الذي كانت فيه المعاهدات والقوة العسكرية هي القاعدة في السابق، يتم اليوم الترويج لمفاهيم الأمن الإنساني والاستخدام المنصف والمتساوي لموارد المياه بشكل متزايد. أسهم ذلك كله في ظهور مبادرة حوض النيل عام 1999 بين البلدان العشرة المشاطئة لحوض النيل. كان هدف المبادرة هو تحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية المستدامة من خلال الاستخدام العادل والمنصف للنيل. وقد أسفرت المفاوضات عن تطوير إطار عمل جديد لتقاسم المياه بمقتضى اتفاقية الإطار التعاوني (أو اتفاقية عنتيبي) لتحل محل معاهدة 1959. بيد أن المعارضة المصرية والسودانية أوقفت العملية، حيث إنها نصت على أن دول المنبع لن تحتاج إلى موافقة مصر المسبقة على مشروعات المياه في دول المنبع. سيكون الأمن المائي بدلاً من "الحقوق التاريخية" هو المعيار لاستخدام المياه، وفقًا للمادة (14 ب) من اتفاقية عنتيبي. ولعل ذلك يفسر لنا سعى إثيوبيا لربط مفاوضات سد النهضة باتفاقية التعاون الإطاري ، الأمر الذي يسمح لها بالحديث عن تقاسم المياه وإطلاق يدها في إقامة مشروعات مستقبلية أخرى على حوض النيل الأزرق. وربما يكون تصديق إثيوبيا على اتفاقية عنتيبي في يونيو 2013 يعني في مدلوله أن تفقد مصر والسودان أي أمل في طرح المواد المثيرة للخلاف مرة أخرى على مائدة التفاوض وهو ما يكرس سياسات فرض الأمر الواقع التي تنتهجها إثيوبيا.
إن مفهوم معاهدات الحقبة الاستعمارية في الخطاب الإثيوبي يمثل الخديعة الكبرى، حيث أن إثيوبيا نفسها هي نتاج تلك المعاهدات التي أبرمت زمن التكالب الاستعماري على إفريقيا، ولو قبلنا بهذا المنطق لتقلص حجمها بحيث تفقد العديد من الأقاليم التي ضمتها بالحيلة والخداع أو بالتآمر مع القوى الاستعمارية الأخرى. والعجيب أن مفهوم إثيوبيا نفسه في نظر الكثير من الشعوب الخاضعة مثل بني شنقول والصوماليين والعفر هو مفهوم استعماري. ثمة ازدواجية واضحة في الخطاب الإثيوبي، فبينما اعترفت إثيوبيا بترسيم الحدود مع السودان وأريتريا وفقاً لاتفاقية 1902 فإنها ترفضها وتصفها بالاستعمارية فيما يتعلق بمياه النيل. في عام 1902، تم إرسال الدبلوماسي الإنجليزي جون هارينجتون إلى أديس أبابا للتفاوض بشأن معاهدة لترسيم الحدود بين إثيوبيا (وهي دولة مستقلة كاملة السيادة) والسودان. وبالفعل تم التوقيع على المعاهدة الأنجلو-إثيوبية في 15 مايو من نفس العام في أديس أبابا. وتنص المادة الثالثة - وفقاً للنص الإنجليزي من الاتفاقية -على أن "يتعهد صاحب الجلالة الإمبراطور مينليك الثاني ملك ملوك إثيوبيا أمام حكومة جلالة ملك بريطانيا بعدم إنشاء أو السماح ببناء أي عمل على النيل الأزرق أو بحيرة تانا أو السوباط، يكون من شأنه إيقاف تدفق مياههم إلا بالاتفاق مع حكومة جلالته البريطانية وحكومة السودان". يعني ذلك بصراحة شديدة لا لبس فيها ولا غموض قيام إثيوبيا بالحصول على إذن مسبق من كل من الحكومتين البريطانية والسودانية لبناء أو تشغيل مشاريع المياه.
ومع ذلك، تلجأ إثيوبيا إلى الخداع من خلال الاعتماد على النسخة الأمهرية من الاتفاقية وتؤكد على استحالة إيقاف تدفق المياه تماماً عن دولتي المصب. ويلاحظ أن التناقض الكبير هو أن النسخة الإنجليزية تطلب من مينليك الحصول على إذن مسبق من كل من الحكومتين البريطانية والسودانية لتشغيل مشاريع المياه، بينما تشير النسخة الأمهرية إلى الحكومة البريطانية وحدها. ولايقتصر الأمر على اتفاقية 1902، حيث توجد اتفاقيات أخرى – كما ذكرنا- حاكمة لمياه النيل.فالمعاهدةالأنجلو-مصرية لعام 1929 هي معاهدة ثنائية بين مصر وبريطانيا، التي مثلت السودان ومستعمراتها في شرق إفريقيا (كينيا وأوغندا وتنجانيقا). وقد اعترفت المعاهدة بالحقوق التاريخية والطبيعية لمصر ومنحتها حق النقض على أي مشاريع تقام على طول نهر النيل وروافده. بالإضافة إلى ذلك، خصصت معاهدة مياه النيل في عام 1959، 55.5 مليار متر مكعب من إجمالي تدفق المياه لصالح مصر، بينما يحصل السودان على 18.5 مليار متر مكعب. كما وقعت إثيوبيا في عام 1993 باعتبارها دولة مستقلة وذات سيادة مع مصر على إطار تعاون القاهرة تعهدت فيه بعدم تنفيذ مشاريع مائية تضر بمصلحة مصر والتشاور حول مشروعات تقليل الفاقد وزيادة تدفق مياه النيل. ولعل ذلك يوضح كذب وزيف الادعاء الإثيوبي، فقد كانت إثيوبيا نفسها سواء في عام 1902 أو عام 1993 دولة مستقلة وذات سيادة. كما أن أساس العلاقات الدولية الإفريقية الذي أقرته منظمة الوحدة الإفريقية (والتي تحولت إلى الاتحاد الإفريقي بعد ذلك) يقوم على مبدأ التوارث الدولي ورفض مبدأ "الصحيفة البيضاء" الذي طالبت به بعض الدول الإفريقية المستقلة حديثاً.
خاتمة
من الواضح تماماً أن مصر أضحت في الخطاب الاستراتيجي الإثيوبي، ولاسيما منذ بداية الألفية، بمثابة "العدو" الذي يمثل تهديداً للأمن القومي الإثيوبي، وهو ما يعني ضرورة انتهاج كافة الأساليب لمحاصرتها وعزلها وتقويض نفوذها في منطقة القرن الإفريقي. وفي هذه الحالة سوف يشكل السد الكبير أداة للتحكم والسيطرة الاستراتيجية لخنق مصر وكسر إرادتها. وللأسف الشديد ثمة قوى دولية وإقليمية تساند إثيوبيا وتدعمها لإعادة تخطيط المنطقة من الناحية الجيواستراتيجية. ولاشك أن ذلك يعكس تحولاً فارقاً في الرؤية الإثيوبية لمصر التي كانت على الرغم من الطلاق بين الكنيستين المصرية والإثيوبية عام 1959 والخلاف حول قضايا النيل تظل بمثابة الصديق.أتذكر افتتاحية صحيفة "إثيوبيان هيرالد" التي نعت وفاة جمال عبد الناصر في سبتمبر 1970 والتي جاء فيها: "لا يمكن أن يرحل ناصر دون الإشادة به. لقد أصبح شخصية أسطورية في عصره. على مدى السنوات الأربعة عشر من قيادته المرموقة، ربما يكون ناصر قد قدم لمصر أكثر مما فعل أسلافه خلال فترة 1400 عام. فبينما قام أجداده ببناء الأهرامات للموتى، قام هو ببناء سد أسوان للأحياء...لقد خسرت إثيوبيا برحيله صديقاً عظيماً". اليوم حينما أنظر إلى حملات الكراهية والتضليل التي يقودها النظام الحاكم من قصر مينليك أقول لنفسي: حقاً إن لإثيوبيا وجوهاً أخرى كثيرة.