يبدو أن العشرية السوداء التى مرت على منطقتنا العربية آخذة فى الزوال إلى غير رجعة وإن بتدرج، أو هكذا ما نتمناه. ويبدو أيضاً أن هناك مرحلة جديدة من التفاعلات والشراكات والتحالفات فى خطواتها الأولى. شرق أوسط مختلف ومعه تفاعلات عربية مختلفة قيد التشكل. التحركات العلنية وإن كانت قليلة، فهناك أيضاً خطوات ولقاءات غير مُعلنة بين أطراف عربية مهمة وغيرعربية. الجميع يتحرك نحو منظومة مختلفة، أبرز ما فيها أن تهدأ الصراعات وتبدأ خطوات بناء الثقة، عبر حوارات تبدأ بمستويات قيادية فى الصف الثانى، تضع النقاط فوق الحروف للحوارات التى سوف تشارك فيها المستويات القيادية الأعلى قريباً.
مؤشرات التوجه نحو التهدئة الإقليمية
المؤشرات على إعادة تركيب المنظومة الشرق أوسطية كثيرة، منها الزيارة التى يقوم بها وفد تركى من الخارجية والأمن للقاهرة برئاسة نائب وزير الخارجية التركى، للقاء نظراء لهم مصريين بهدف تسوية القضايا والمواقف المُختلف عليها، ولغرض التمهيد لتطبيع العلاقات، ولكن كما ترى القاهرة بعد تسوية ما يجب تسويته قانونياً وسياسياً وبدون أى تحفظات سواء ما يتعلق بالعلاقات الثنائية أو القضايا الإقليمية التى تشتبك مع الأمن القومى لمصر. مؤشر ثان وهو اللقاء الذى تم فى دمشق بين الرئيس الأسد ومدير المخابرات السعودية، واتفق فيه على إعادة فتح السفارة السعودية فى دمشق بعد عيد الفطر، وفتح الطريق أمام مشاركة سوريا فى القمة العربية المقبلة بالجزائر حال انعقادها، فى الوقت نفسه الذى أقدمت فيه الرياض على إغلاق مقر جماعات المعارضة السورية، ومن قبل لقاء سعودى- إيرانى فى بغداد التى يسعى رئيس وزرائها مصطفى الكاظمى إلى تجنيب بلاده تداعيات أى صراعات أو منافسات بين جارين كبيرين ولكل منهما تأثيره على الوضع الداخلى العراقى وإن بدرجات ومستويات مختلفة، وهى لقاءات تفسرها تصريحات ولى العهد السعودى الأمير محمد بن سلمان وصف فيها إيران كدولة جارة يتمنى لها الازدهار، وهو التصريح الذى أثار تكهنات كثيرة حول مستقل العلاقات السعودية- الإيرانية، فى الوقت الذى رحبت فيه طهران بهذا التوجه الجديد.
ويرتبط بذلك وإن بطريق غير مباشر قرار الأردن فتح معبرين مع كل من سوريا والسعودية مع اتخاذ الإجراءات الاحترازية لمواجهة كوفيد- 19، وهو قرار يعكس بعضاً من الانفراج بين الأردن وكلا الجارين الكبيرين. والحالة فى ليبيا تبدو رغم العقبات الكبرى الخاصة بإخراج القوات العسكرية الأجنبية خاصة التركية والميليشيات والمرتزقة من الأراضى الليبية، تبدو واعدة نسبياً فى استمرار نهج إعادة بناء الدولة الليبية على أسس توافقية، تدعمها مواقف دولية وإقليمية لاسيما من دول السياسات الرشيدة فى المنطقة وفى المقدمة مصر. فى الوقت نفسه جاء قرار وزراء الخارجية الأوروبيين فى اجتماعهم الأول فى لندن داعماً كل الخطوات السياسية الجارية فى ليبيا ومؤكداً على ضرورة الالتزام بكل الخطوات فى مواعيدها المتفق عليها وفى المقدمة خروج كل القوات الأجنبية والميليشيات والمرتزقة الأجانب.
عقبات التحول الإقليمى
لكن المؤشرات ذات المنحى السلمى والتفاوضى ليست وحدها فى الساحة، هناك أيضاً تحركات وخطوات تقدم عليها قوى إقليمية تخالف تماماً التوجه الساعى إلى تهدئة الصراعات سلمياً، بل تزيدها تعقيداً وتوتراً، منها رفض جماعة أنصار الله الحوثية كل الأفكار والمبادرات الأممية والخليجية والساعية لوقف الحرب وتسوية الصراع مع الحكومة الشرعية، وإصرارها على استمرار الحرب. ومنها التحركات العسكرية التركية غير المشروعة فى شمال العراق لإنشاء قاعدة عسكرية دائمة بدون التشاور أو الاتفاق مع الحكومة العراقية، وكأن أرض العراق مستباحة وبلا صاحب. وبالنسبة لمصر والمصريين، فما زال الموقف الإثيوبى الصدامى هو العامل الأبرز فى دفع المنطقة حول نهر النيل إلى حالة توتر لا سقف لها، طالما استمرت نخبة أديس أبابا رافضة الاعتراف بحقوق مصر والسودان المائية ورافضة الاتفاق القانونى الملزم لملء وتشغيل السد الكبير، استناداً إلى تأييد مكشوف من قوى دولية وإقليمية، وهو ما يدركه المصريون تماماً.
تغيرات ودوافع التحول نحو التهدئة
الثابت أن هذه التوجهات الإقليمية الساعية إلى التخلص من ميراث العشرية السوداء، هى نتاج لمتغيرات دولية وإقليمية، منها المتغير الأمريكى الخاص باستراتيجية إدارة بادين ومركزها الانسحاب من المنطقة الشرق أوسطية وأجزاء من آسيا لصالح التركيز على مواجهة الصين وروسيا، وهو انسحاب يتجسد فى قرار مغادرة أفغانستان وترك البلاد فريسة حرب أهلية بين قوى التغيير المدنية وحركة طالبان ومناصريها من الحركات الإسلامية العنيفة وأبرزها تنظيم "داعش"، وأيضاً المفاوضات مع إيران عبر الأوروبيين للعودة إلى الاتفاق النووى مع تسوية بشكل ما للدور الإيراني فى المنطقة وبرنامجها الخاص بالصواريخ الباليستية. والواضح أن إصرار إدارة بايدن على الانتهاء من ملف إيران على غير رغبة إسرائيل ومجموعة مؤثرة من المشرعين الجمهوريين، يُجسد تغيراً مهماً فى السياسة الأمريكية تجاه المنطقة ككل، وبالتالى يفرض على كثير من أطرافها الرئيسيين إعادة النظر فى مجمل سياسات العقد الماضى، والبحث عن سياسات جديدة توفر مساحة أكبر من التركيز على قضايا بناء الداخل، وجذب الاستثمارات الخارجية وتحسين الأوضاع الاقتصادية، والأهم إنهاء الصراعات التى يُعد بعضها بمثابة حروب وكالة، أصبحت تكلفتها أعلى بكثير من أى عوائد قد يجنيها أحد الأطراف.
دلالات ودروس التهدئة
لا تنفصل تلك التغيرات، حتى وهى فى مراحلها الأولى عن التيقن من أن توظيف جماعات الإسلام السياسى وفى مقدمتها الإخوان والجماعات المتسلفة العنيفة والكارهة لمبدأ الوطن وما يصاحبها من مجموعات الإرهابيين والمرتزفة من جنسيات مختلفة، لم يَعد يُجدى، ولم يَعد يمثل رصيداً لبناء نفوذ أو وسيلة للتغلغل فى ثنايا مجتمعات أخرى وتوجيه مساراتها. ومجمل الدرس ببساطة أن بعض الدول توظف هذه الجماعات من أجل مصالحها القومية فقط، وليس من أجل مصالح تلك الجماعات، والتى يتم التعامل معها كمطية لبعض الوقت ثم تُلقى بعد ذلك فى وعاء القمامة بدون أى أسف. صحيح قد تلجأ الدول المُستخدِمة لتلك الجماعات المرتزقة إلى تصريحات ومواقف تعبر فيها عن التزامها بدعم تلك الجماعات وتأييد مطالبها، لكنها تفعل ذلك من قبيل الحفاظ على ماء الوجه لا أكثر ولا أقل، والمثل الأكبر هو الموقف التركى وجماعة الإخوان، الذين يبحثون عن مخارج لهم سواء بالبقاء كلاجئين فى الأراضى التركية بدون أى تحرك سياسى أو إعلامى، أو تتركهم يهيمون إلى دول أخرى قد توفر لهم نوعاً من الإقامة وإن بضوابط. وليس بعيداً أن يحدث المصير ذاته للجماعات التى تسمى نفسها معارضة سورية مسلحة أو حتى معارضة سياسية، والمسألة ليست سوى بعض الوقت، وبعض المؤشرات يظهر جلياً فى الأفق.
محاذير ضرورية
ومع أن بعض التحولات تبدو إيجابية وتدعم منهج التسويات بدلاً من الصراعات، فإن الأمر يتعلق أولا وأخيراً بمدى نجاح عمليات بناء الثقة والتيقن من أن بعض الوعود قد نفذت بالفعل فى الواقع. ومن هنا يبدو الحذر حتمياً من أن بعض التوجهات الجديدة لقوى إقليمية تبدى رغبتها فى التصالح مع من أضرتهم فى السنوات السابقة، قد لا تستمر إلى نهايتها الصحيحة والواجبة. فالتحذير من الخداع المحتمل مطلوب، والاستعداد بمواقف وسيناريوهات متعددة لكل المفاجآت هو الرد العقلانى ولكل حادث حديث.
لقد أنهكت مشروعات النفوذ المتوهم والمغامرات غير المحسوبة أصحابها كثيراً جداً، كما فرضت ضغوطاً وتحديات على الأطراف المستهدفة، والذين أثبتوا قدرة على المواجهة وضبطاً للنفس وإصراراً على إفشال كل ما هو غير عقلانى وفاقداً للرشد السياسى. وهنا أيضاً دلالة بالغة الأهمية، فالنصر هو حتماً حليف الذين يركزون على البناء والملتزمون بالسياسات المبدئية والمصالح المتوازنة التى تشمل الجميع. ومهما تبدو الأمور فى بعض المراحل مُحملة بالتعقيدات والعقبات والمتغيرات المعاكسة، فهى لا تستمر طويلاً ما دامت إرادة البناء والبحث عن مكاسب للجميع دون افتئات على الغير هو الأساس وهو المنهج.