ما بين فاجعة هزيمة الجيش المصرى فى يونيو 1967 واحتلال إسرائيل لشبه جزيرة سيناء، وتحقيق النصر العسكرى الكبير للجيش المصرى فى حرب أكتوبر 1973 وما تلاه من انتصار سياسى فى مسار المفاوضات حتى رحيل آخر جندى إسرائيلى عن أرض سيناء وعودتها إلى السيادة المصرية كاملةً فى 25 إبريل 1982([1])، ما بين الهزيمة والنصر كانت هناك ملحمة عسكرية وإنسانية عظيمة تقع أحداثها على رمال سيناء، لاسيما أثناء حرب الاستنزاف.
لم تستسلم مصر يومًا للهزيمة، ففى الوقت الذى كان وزير الدفاع الجديد آنذاك الفريق محمد فوزى يبنى الجيش من جديد على الجانب الغربى من القناة، كانت المخابرات الحربية المصرية تنفذ ضربات موجعة ومتلاحقة على الضفة الشرقية للقناة. وقد كان المصريون من أهالى سيناء هم رجالها خلف خطوط العدو فى عمق سيناء.
نضال أهالى سيناء
بدأت البطولات السيناوية بصورة تلقائية وحتى قبل التنسيق مع جهاز المخابرات الحربية، عندما سارعوا بإنقاذ الجنود المنسحبين من الهزيمة وإخفائهم داخل منازلهم، وإرشادهم لطريق العودة إلى السويس. وسرعان ما تواصلت المخابرات الحربية مع أهالى سيناء سواء من خلال مشايخ القبائل أو بصورة مباشرة مع بعض البدو بهدف الاستفادة منهم فى خطة المواجهة والصمود وتجهيز أرض سيناء لمعركة التحرير. ومن ثم كانت المهام المطلوبة من أهل سيناء تتلخص فى ثلاثة أمور شديدة الأهمية بالنسبة للجيش المصرى آنذاك، وهي: جمع المعلومات عن جيش العدو، وتصوير مراكز وقواعد ارتكازات جيشهم، والقيام بالعمليات الاعتراضية خلف الخطوط والمواقع المتأخرة. وقد تم تنفيذ هذا التوجه من خلال إنشاء منظمة "سيناء العربية".
1- منظمة سيناء العربية والتعاون مع المجموعة "39 قتال": المجموعة "39 قتال" هى مجموعة قوات خاصة من الصاعقة شكلت بعد الهزيمة مباشرة بقيادة البطل إبراهيم الرفاعي، وقد عملت المجموعة "39 قتال" متخفية تحت ستار منظمة سيناء العربية، وذلك قبل الإعلان رسميًا عن المجموعة بعد عملية لسان التمساح الأولى فى 1969 ردًا على استشهاد الفريق عبد المنعم رياض.
أما منظمة سيناء العربية، فهى منظمة فدائية أنشأتها المخابرات الحربية المصرية عقب الهزيمة مباشرة، وأُعلن عن وجودها رسميًا فى ديسمبر 1968. واستمرت فى نضالها خلف خطوط العدو حتى حرب أكتوبر 1973، وبعد الحرب صدرت توجيهات بحلها بصورة نهائية. ووفقًا لما ذكره اللواء فؤاد حسين فى كتابه عن سيناء، كان عدد أعضاء المنظمة 770 شخصًا، 13 منهم من رجال المخابرات الحربية، والبقية من المدنيين المناضلين من عدة محافظات، وكان لسيناء نصيب الأسد من البسالة والنضال، حيث بلغ عدد المناضلين السيناويين داخل المنظمة 688 فدائيًا.
كانت تدار أعمال المنظمة داخل سيناء من خلال ثلاثة مراكز قيادة فى بورسعيد والإسماعيلية والسويس، ولدى كل مركز قائمة بعناصر بدوية تنقل المعلومات من سيناء، وتنفذ توجيهات القيادة بإتمام ضربات خاطفة داخل عمق سيناء. وقد كان أهل سيناء أفضل من يقوم بهذه المهمة بأنفسهم أو من خلال مساعدة وإرشاد أبطال المجموعة "39 قتال" داخل صحراء ومياه سيناء، نظرًا لمعرفتهم الدقيقة بجغرافية المكان وقدرتهم على التحرك والتخفي. ولذلك أطلق عليهم وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق موشيه ديان لقب "الأشباح" وكانوا مطلوبين للمحاكمة داخل إسرائيل، وبالفعل تعرض بعضهم للاعتقال والتعذيب قبل نصر أكتوبر، وتم الإفراج عنهم بعد ذلك ضمن صفقات تبادل الأسرى بعد انتهاء المعركة.
2- مهمة جمع المعلومات: "لم تكن لدينا أقمار صناعية، لكن كانت لدينا هذه الأعين الثاقبة والصادقة من أبناء سيناء، لقد جعلوا المواقع الإسرائيلية كتابًا مفتوحًا أمام القوات المسلحة، فلولا أبناء سيناء ما كانت حرب أكتوبر وما تحررت سيناء". هكذا صرح اللواء فؤاد نصار مدير المخابرات الحربية، فى ذلك الوقت، أمام الرئيس الراحل محمد أنور السادات والقيادات العسكرية، عقب انتصار أكتوبر المجيد([2]).
خلال حرب الاستنزاف كانت إسرائيل متفوقة على مصر فى الإمكانيات العسكرية والمعلوماتية من خلال المساندة الأمريكية لها. ولكن مصر تفوقت بولاء أهل سيناء ودفاعهم عن تراب الوطن ورغبتهم فى تحرير الأرض، حيث حاول الإسرائيليون شراءهم وإغراءهم بالكثير من الود والجهد والمال، ولكن الاختيار السيناوى كان واضحًا منذ البداية، ومن ثم امتلك الجيش المصرى "رادارات "بشرية" خلف خطوط العدو تفوقت على الأقمار الصناعية الأمريكية، وهو ما أكده أيضًا المشير أحمد إسماعيل وزير الدفاع الأسبق، حيث صرح بأن أسباب نصر أكتوبر هى: "القيادة، القوات المسلحة، المخابرات الحربية، البدو أبناء سيناء الداعمون لنصر أكتوبر فهم المنظار الحقيقى للقوات المسلحة داخل وخلف خطوط العدو.
3- القيام بالضربات الاعتراضية: بالإضافة إلى قيام أبناء سيناء بدورهم فى جمع البيانات، كانوا كذلك ذراع الجيش لتنفيذ المهام الفدائية الخاطفة، مثل زرع الألغام وتفجير الأهداف. يحكى البدوى سالمان عودة الحاصل على ثلاثة أنواط تقديرًا لمجهوده الحربى خلال فترة الاحتلال، كيف كان دخول سيناء وقتها مغامرة كبيرة بالنسبة لأى ضابط مصري، وإن أول عملية كلف بها مع عدد من الفدائيين هى تدمير مطار بالوظة.ويقول سالمان: "حملنا المعدات وعبرنا بها الملاحات سيرًا على الأقدام، ومشينا ما يزيد على أربعين كيلو حيث يوجد المطار فى منطقة مليئة بالكثبان المتحركة، نصبنا مدافعنا وحطّمنا مطار العدو وعدنا، واستغرقت العملية كلها 10 ساعات دون أى خسائر، ثم كانت هناك عملية أخرى نجحنا خلالها فى تدمير أجهزة جديدة للعدو تعمل بالأشعة تحت الحمراء لكشف الأفراد، كانت عملية شبه انتحارية، لكننا نجحنا. بعدها كانت العملية التى استغرقت 18 يومًا، بينها 9 أيام سيرًا على الأقدام، وكنا مكلّفين خلالها بتدمير مقر الحاكم العسكرى الإسرائيلى ومحطات وقود لتموين سيارات الجيش الصهيوني، ونجحت بدرجة مائة بالمائة"([3]).
4- دور نسائي فى نضال سيناء: لم تكتف المرأة البدوية فى سيناء بدور المراقب، بل كانت هى أيضا فاعلًا مهمًّا. فالنماذج عديدة لنساء قمن بالتواصل مع رجال المخابرات الحربية وأتممن تكليفات فدائية مهمة.وتروى المناضلة فرحانة كيف دربتها المخابرات الحربية على كيفية الحصول على المعلومات، فقد كانت تنقل تحركات الجيش الإسرائيلي. وتقول في هذا الصدد: "ولأننى لم أتعلم الكتابة والقراءة اعتمدت على قوة ذاكرتي، فكنت أحفظ شكل الأرقام والحروف الموجودة على الهدف سواء كانت مركبات أو مطبوعات أو مبانى فأقوم برسمها حال رؤيتها على الرمل لمرة واحدة لترسخ فى ذهني، ثم أمحو أثرها فى الأرض، ولكن تظل باقية فى ذاكرتى حتى أعود إلى المقر لتسليمها"([4]).
أما المناضلة فهيمة، فكانت أول سيدة تنضم للعمل مع منظمة سيناء من خلال زوجها، كما أنها أول سيدة يكرمها رئيس الجمهورية بنوط الشجاعة من الطبقة الأولى. وقد قامت المناضلة بإيواء أحد الفدائيين المطلوبين فى منزلها لفترة طويلة بعد أن حفرت له حفرة كبيرة وضعته فيها وغطته بأكوام من الحطب([5]).
مؤتمر الحسنة ومشروع التدويل
يكفى موقف قبائل سيناء ومشايخها فى مؤتمر الحسنة للدلالة على وعى ووطنية وانتماء أهل سيناء إلى وطنهم الوحيد مصر. فبينما كانت إسرائيل تخطط لعزل سيناء عن مصر من خلال إعلان رغبة سكانها فى الانفصال وتكوين دولتهم المستقلة، وهو ما يعنى سقوط حق القاهرة فى المطالبة باستعادة الأراضى المصرية المحتلة، كان مشايخ القبائل ينسقون سرًا مع المخابرات المصرية لاستدراج موشيه ديان وزير الدفاع الإسرائيلى وإقناعه بقبول المشايخ للفكرة مبدئيًا. وأمام كاميرات وصحف العالم التى جمعتها إسرائيل فى مؤتمر الحسنة فى أكتوبر 1968 أعلنت القبائل على لسان المتحدث باسمهم الشيخ سالم الهرش شيخ قبيلة البياضية وأمام وكالات الأنباء العالمية رفضها التدويل، وفى كلمته قال الشيخ سالم: "إن سيناء مصرية وقطعة من مصر ولا نرضى بديلًا عن مصر وما أنتم إلا احتلال ونرفض التدويل، وأمر سيناء فى يد مصر، سيناء مصرية مائة فى المائة ولا نملك فيها شبرًا واحدًا يمكننا التفريط فيه".
في النهاية، يمكن القول إن البطولات التى سجلها بدو سيناء خلال حرب الاستنزاف وحرب أكتوبر المجيدة، والموقف الجماعى لقبائل سيناء فى مؤتمر الحسنة، جميعها تمثل صفحة نضال مجيدة يضمها كتاب كفاح هذا الشعب ضد المحتل الإسرائيلى، وتجسيدًا لصورة مشرقة يجب أن يترجمها الواقع الراهن من خلال المحافظة على ذاكرة الوطن ومعرفة الأجيال المتعاقبة بهذه التضحيات، وأن تمثل هذه التضحيات ومضامينها رسالة وقوة دفع حقيقية لمواجهة التحديات والمخاطر الراهنة التى تواجه سيناء والدولة المصرية بشكل عام.
المراجع:
[1]- باستثناء طابا التى عادت إلى السيادة المصرية من خلال التحكيم الدولى بعد سبع سنوات وتحديدًا فى 19 مارس 1989.