د. حسن أبو طالب

مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

لم يعد هناك كثير من الوقت. الأمل فى التوصل إلى اتفاق قانونى ملزم بشأن ملء وتشغيل السد الإثيوبى الكبير فى غضون أقل من ستة أسابيع، وهى الفترة المتبقية قبل قيام إثيوبيا بحجز المياه عن دولتى المصب تنفيذاً لخطة الملء الثانى فى شهرى يونيو ويوليو المقبلين، لم يعد قائماً. كما أن احتمال التزام إثيوبيا بسياسة تتسم بالمسئولية ومراعاة حقوق ومصالح دولتى المصب، وتؤجل الملء الثانى، هو والعدم سواء. سنوات التفاوض السبع الماضية كشفت التوجهات الرئيسية للسياسة الإثيوبية، ويمكن إجمالها فى سوء النية وفرض الأمر الواقع وتوظيف السد لأغراض سياسية، وتجاهل المخاطر المؤكدة على دولتى المصب.

فى لقاءات كينشاسا التى عقدت برعاية رئيس الكونغو الديمقراطية، والرئيس الحالى لمنظمة الاتحاد الإفريقى فى الفترة من 4 إلى 5 أبريل الجارى، وشارك فيها وزراء الخارجية والرى للدول الثلاث، مصر والسودان وإثيوبيا، ومشاركة مراقبين دوليين، رفضت إثيوبيا كل الأطروحات والأفكار التى قدمتها مصر والسودان لغرض تسهيل التفاوض على النقاط الفنية والقانونية محل الخلاف، وأعادت الأمور إلى نقطة الصفر. الفشل الكبير لجهد الاتحاد الإفريقى كان هو الخلاصة التى انتهت إليها كل من مصر والسودان، وهو فشل يعكس الرؤية السلبية التى تتبناها إثيوبيا تجاه المنظمة الإفريقية الكبرى رغم أنها دولة المقر، والمفترض نظرياً أن تكون الدولة الأكثر حرصاً على توفير كل عوامل النجاح لتلك المنظمة الإقليمية، لاسيما وأنها ما زالت ترفع الشعار الخادع "حلول إفريقية للأزمات الإفريقية"، وترفض مشاركة أية جهة دولية أخرى فى المفاوضات بما فى ذلك الأمم المتحدة.

 تعثر الجهود الإفريقية وتصلب إثيوبيا

ماذا بعد الفشل الإفريقى، والتعنت الإثيوبى والاقتراب من لحظة التحرك الأحادى المنفرد وما يحمله من أضرار جسيمة مؤكدة على كل من مصر والسودان؟. هذا هو السؤال المركزى الذى يفرض نفسه ليس فقط مصرياً وسودانياً، بل أيضاً دولياً وإفريقياً. الظاهر أن دولتى المصب مازالتا تصران على أولوية المفاوضات وصولاً إلى اتفاق شامل يجسد المصالح المشتركة للدول الثلاث انطلاقاً من قناعتهما الكاملة بأن النيل الأزرق هو نهر دولى تحكمه قواعد القانون الدولى الخاصة بالأنهار غير الملاحية للعام 1997، وهى قواعد تفرض الاستخدام المنصف والعادل للدول المتشاركة فى النهر العابر لحدودها، مع مراعاة مدى توافر المصادر المائية الأخرى لكل طرف وعدد سكانه واحتياجاته الأساسية من المياه. وتفرض أيضاً عدم اتخاذ أية اجراءات متعمدة تؤدى إلى الإضرار بأحد الأطراف أو أكثر، وضرورة التعويض فى حال حدث الضرر، وهى قواعد تتطلب بدورها صياغة هيكل قانونى ملزم لكل الأطراف يحدد المسئوليات كما يحدد أسلوب إدارة موارد النهر وفق قاعدة الكسب المشترك.

وصولاً إلى هذا الهدف المشروع، تشترك مصر والسودان فى عملية توظيف كل الخيارات الدبلوماسية من أجل حشد ضغط دولى لإقناع إثيوبيا للتخلى عن سياسة التعنت والتصرفات الأحادية، والعودة إلى نهج التفاوض وفق آلية رباعية جديدة، تشارك فيها قوى دولية كبرى وهى الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبى والولايات المتحدة جنباً إلى جنب مع الاتحاد الإفريقى الذى عليه أن يدير التفاوض مستفيداً من الوزن السياسى والمعنوى الكبير لهذه الأطراف الدولية، ومن الأفكار والأطروحات التى تقدمها هذه الأطراف الثلاثة فنياً وقانونياً، مع وضع مدى زمنى مناسب للانتهاء من اتفاق قانونى مُلزم يحدد الالتزامات المتبادلة، ويحقق المعادلة الصحيحة تضمن لإثيوبيا تحقيق أهدافها التنموية فى ظل بيئة إقليمية سلمية وليست صراعية، وفى الوقت ذاته تمنع الضرر عن دولتى المصب وتحفظ لهما حقوقهما المائية المكتسبة على مدى التاريخ الإنسانى كله.

وتمثل سياسة فرض الأمر الواقع الإثيوبية مصدراً لقلق مصرى وسودانى، يبدو أنه لا يشغل كثيراً المجتمع الدولى أو الإفريقي، ومن هنا كان التحذير من أن استمرار إثيوبيا فى سياستها الأحادية من شأنه أن يؤثر سلباً على الاستقرار فى شرق إفريقيا والقرن الإفريقى، وأن يؤثر على السلم والأمن الدولى، وهو تحذير يعكس الأضرار الشديدة والمؤكدة فى حال تحول السد الإثيوبى إلى حالة صراعية ممتدة، بدلاً من نموذج للتعاون الإقليمى على المستوى الإفريقى تطالب به مصر بشدة.

اللحظة الجارية بما فيها من جمود وتعثر واستهتار إثيوبى مُحملة بالكثير من الاحتمالات بما فيها احتمالات التحركات الخشنة، وهى بدورها متعددة المستويات، وحال حدوثها ستكون مشروعة باعتبارها دفاعاً عن النفس وعن الحق فى الحياة لحوالى مائة وخمسين مليون نسمة. ومنعاً للوصول إلى تلك الاحتمالات غير المرغوبة، جاء التحرك المصرى والسودانى نحو الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولى. وفى رسالتين منفصلتين، وجهتا إلى الأمين العام للأمم المتحدة، عبّر البلدان عن ضرورة أن تقوم الأمم المتحدة بدورها فى حماية الأمن والسلم الدولى ومنع الانزلاق إلى حالة صراعية ممتدة يخسر فيها الجميع إفريقياً ودولياً.

الرسالة المصرية

تتحرك مصر دبلوماسياً على نحو متسارع، فثمة جولة يقوم بها وزير الخارجية سامح شكرى إلى عدد من الدول الإفريقية تضم كلاً من كينيا وجزر القمر وجنوب إفريقيا والكونغو الديمقراطية والسنغال وتونس، ليضع أمام قادتها الرؤية المصرية للتهديدات التى تمثلها السياسة الإثيوبية الأحادية والنتائج الخطيرة لفشل الاتحاد الإفريقى فى قيادة مفاوضات مثمرة، وضرورة التدخل الدولى الفاعل لمنع الانزلاق إلى أوضاع صراعية مكلفة للجميع.

وفى الرسالة التى وجهها وزير الخارجية سامح شكرى إلى مجلس الأمن الدولى، نلحظ عدة مستويات فى شرح الموقف المصرى، وهى:

1- التأكيد على ضرورة الالتزام بسياسة الكسب المشترك والمصالح المتبادلة، وأن قناعة مصر بحق إثيوبيا فى التنمية ترتبط بحق مصر فى حصتها المائية والتزامات إثيوبية مستدامة بالتخفيف من أية آثار سلبية على دولتى المصب.

2- إن العملية التفاوضية التى تمت بقيادة الاتحاد الإفريقى واستمرت ثمانية أشهر لم تكن مثمرة بسبب التعنت الإثيوبى وغياب الإرادة السياسية فى التوصل إلى اتفاق قانونى ملزم، فى الوقت الذى بذلت فيه مصر جهوداً مخلصة للتكيف مع المصالح الإثيوبية وقدمت الكثير من الأفكار لتذليل الصعوبات.

3- إن إثيوبيا كانت معارضة، وما زالت، لأن تكون طرفاً فى آلية قانونية شاملة تؤسس حقوقاً واضحة والتزامات للدول الثلاثة، وتتضمن آلية نشطة وفعالة تضمن التطبيق الفعال لما يتم الاتفاق عليه.

4- إن إثيوبيا فى اجتماعات كينشاسا (3–5 أبريل 2021) بقيادة جمهورية الكونغو الديمقراطية، رفضت العودة للمشاركة فى مفاوضات حول السد، كما رفضت أن يتضمن البيان الختامى للمباحثات ما يفيد بالعودة إلى المفاوضات لغرض الوصول إلى اتفاق قانونى ملزم حول ملء السد وتشغيله، وذلك بالرغم من أن اجتماع القمة لمكتب الاتحاد الإفريقى المنعقد فى 21 يوليو 2020 كان قد انتهى إلى أن الدول الثلاث ملتزمة بالانتهاء من نص قانونى ملزم بشأن السد.

5- إن إثيوبيا رفضت المقترح الذى تقدمت به مصر والسودان لتنشيط العملية التفاوضية بقيادة الاتحاد الإفريقى، ورفضت مساعدة الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبى والولايات المتحدة لتسهيل الوصول إلى صياغات مقبولة للقضايا الفنية والقانونية محل الخلاف.

6- إن تأكيدات إثيوبيا بالملء الثانى بدون اتفاق مع دولتى المصب ستؤدى إلى ضرر بالغ على دولتى المصب، والتأثير سلباً على حياة 105 مليون مصرى بسبب نقص المياه المتوقع.

7- إن آلية تبادل البيانات التى اقترحتها إثيوبيا حول الملء الثانى بدون التوصل إلى اتفاق شامل وملزم تهدف إلى فرض أمر واقع ترفضه مصر، ويجب أن تكون هذه الآلية ضمن اتفاق شامل وليس جزئياً.

8- إن مصر تدعو المجتمع الدولى للضغط على إثيوبيا للتعامل بحسن نية فى المفاوضات وصولاً إلى اتفاق ملزم خلال الشهور المقبلة، وأن تتوقف عن اتخاذ أية إجراءات أحادية بما فى ذلك الملء الثانى خلال فيضان العام الجارى، وحتى يتم التوصل إلى اتفاق شامل.

وفى ختام الرسالة، حذرت مصر من فشل المجتمع الدولى فى القيام بواجباته نحو الأمن والسلم الدوليين، فنتيجة للضرر المتوقع على دولتى المصب، وعلى أمنهما المائى، سوف يزداد التوتر فى شرق إفريقيا والقرن الإفريقى والسلم العالمى، وسيضع مصر تحت وضع استراتيجي لا يمكن الدفاع عنه، ويضع حياة المصريين تحت رحمة سيطرة دولة المنبع التى أظهرت فقدان حسن النية وغياب الإرادة السياسية للتحرك كدولة مسئولة راغبة فى التعاون مع دولتى المصب.

الرسالة السودانية

تتشارك الرسالة السودانية مع الرسالة المصرية فى التأكيد على التعنت والتصلب الإثيوبى ورفض كل مساعى التوصل إلى اتفاق قانونى ملزم مما أدى إلى فشل كل دورات التفاوض. فى الوقت نفسه، التزم السودان بالتفاوض بحسن نية. وتؤكد رسالة وزيرة الخارجية السودانية مريم الصادق المهدى على أن الضرر الذى يمثله السد الإثيوبى على مصالح البلاد المائية كبير جداً. وقد فصّلت الرسالة السودانية عبر ملحقين كبيرين فى مدى الضرر المتوقع من الإجراءات الأحادية الإثيوبية، كما أسهبت فى شرح الاقتراح الذى تقدمت به فى مباحثات كينشاسا للعودة إلى التفاوض وفق منهجية رباعية دولية على النحو التالى:

1- إن السد الإثيوبى الكبير سوف يغير تماماً النظام الهيدرولوجي للنيل الأزرق، ونظراً لحجمه الكبير سوف يؤدى تغيير نظام التدفق المائى المعتاد إلى تأثيرات سلبية كبيرة على السودان. وإذا لم يكن تصميم السد وبنائه وملئه على الوجه الصحيح، فسوف تتهدد حياة 20 مليون سودانى يعيشون بجوار مجرى النهر، كما سيتأثر عمل السدود السودانية ونظام الزراعة فى عموم السودان، بالإضافة إلى التأثيرات البيئية والاقتصادية والاجتماعية الكبيرة على طول مجرى النيل الأزرق والمصب النيلى الرئيسى حتى الحدود مع مصر.

2- النيل الأزرق هو نهر مقدس فى المنطقة، وهو جزء رئيسى من حياة وتاريخ المنطقة اقتصادياً وثقافياً وفى وعى شعوب المنطقة، وهو نهر الحياة لـ40 مليون سودانى، ويمثل مصدر 70% من الأراضى المروية وقلب الأنشطة الزراعية التى يعتمد عليها السودانيون.

3- إن القناعة السودانية الرئيسية هى ضرورة التعاون الإقليمى والشراكة بخصوص النيل الأزرق ونهر النيل ككل. ويرتبط بذلك اعتراف السودان بحق إثيوبيا فى التنمية وتطوير مواردها المائية، ولكن المهم أن تدرك إثيوبيا أن السد له مخاطر ونتائج سلبية كبيرة جداً على السودان، والواجب أن يتم التشاور الوثيق والتعاون مع دولتى المصب.

4- إن قيام إثيوبيا بالملء الأول فى حدود 5 مليارات متر مكعب صيف 2020، قد تسبب فى انخفاض مفاجئ لتدفق النيل الأزرق، وأدى إلى نقص مياه الشرب فى الخرطوم لمدة 3 أيام، وهو أمر متوقع حدوثه عند الملء الثانى بحجم 13.5 مليار متر مكعب الصيف المقبل، ما يمثل خطراً جسيماً على السودان، وهو خطر غير مقبول.

5- إن هدف السودان بطرح مبادرة لتوسيع مسار المفاوضات لتشمل إلى جانب الاتحاد الإفريقى كلاً من الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبى والولايات المتحدة كوسطاء، هو تعزيز عملية التفاوض من خلال المساهمة الإيجابية لنزع التوتر بين الدول الثلاث، وتحقيق الهدف الرئيسى لها وهو الوصول إلى اتفاق ملزم قانونياً وفنياً.

6- بهدف احتواء أية تطورات أحادية قد تقود إلى نتائج خطيرة فى المنطقة وفى العالم، يطلب السودان من مجلس الأمن القيام بما يأتى:

· الإحاطة بالمفاوضات المتعثرة وفشلها تحت رعاية الاتحاد الإفريقى فى ضوء إعلان إثيوبيا نيتها تطبيق الملء الثانى فى يوليو 2021 بدون اتفاق مع دولتى المصب.

· هذا التطور من شأنه أن يعمق الأزمة ويفقد فرص الوصل إلى حلول ودية، والتى تتطلب بدورها تدخلاً دولياً فعالاً لكسر الجمود الحالى وفتح الفرص أمام الحلول الودية.

· تشجيع كل الأطراف على التوقف عن أى إجراء أحادى بما فى ذلك الملء الثانى، أو أى عمل آخر يزيد المخاطر الإقليمية والسلام الدولى.

· تأييد جهود السودان الداعية إلى عملية وساطة تؤيدها مصر للوصول إلى حلول ودية لحل القضايا الخلافية.

وفق ما سبق، تتضح ملامح التوافق المصرى السودانى، والرهان على تدخل مجلس الأمن والعودة مرة أخرى إلى صيغة مفاوضات فاعلة ومثمرة، وعلى الأقل إثبات المواقف المسئولة لدولتى المصب أمام المجتمع الدولى كله. فى الوقت نفسه وفى ظل التأكيد الإثيوبى على تنفيذ الملء الثانى بعد أقل من ستة أسابيع، يبدو الموقف مرشحاً لمخاطر متعددة المستويات. وما دام هناك من يتصرف أحادياً، يصبح مشروعاً الرد عليه أحادياً، وتلك لها حسابات أخرى سُتعرف فى حينها.