دون أن يعلق على الاتهام الرسمي الذي وجهته إيران لبلاده بارتكاب أعمال تخريبية في منشأة نطنز النووية الإيرانية في 11 أبريل الحالي، قال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين ناتانياهو في مؤتمر صحفي عقده مع وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن في القدس: "إن إيران لم ولن تتخلى عن حلمها بامتلاك السلاح النووي، وإسرائيل من جانبها تتعهد بمنعها من الحصول عليه"، مؤكداً حرص إسرائيل في الوقت نفسه على عدم التورط في حرب مباشرة مع إيران.
لخصت عبارات ناتانياهو تلك طبيعة ما يمكن تسميته بـ"الحرب غير التقليدية" بين البلدين والمستمرة منذ عام 2004، فهى حرب معروف أهدافها ووسائلها، ولكنها لا تدور بين الجيوش في ميادين قتال مباشرة ومحددة جغرافياً، وإنما في الفضاء السيبراني، وعبر وكلاء محليين في دول أخرى، وبواسطة هجمات متبادلة على السفن التجارية لكل منهما كما حدث مؤخراً، وبوسائل دبلوماسية أيضاً، وهى حرب يصعب وصفها بأنها يمكن أن تكون حاسمة بمعنى أن يتمكن أى من طرفيها من تحقيق أهدافه منها، ولكن تبقى المخاوف من أن يؤدي التصعيد بين إسرائيل وإيران بوسائل الحرب غير التقليدية إلى تدهور الوضع إلى حد الحرب المباشرة والمفتوحة بين البلدين.
وسوف يتم التركيز هنا على وسيلة أو أداة واحدة من أدوات الحرب غير التقليدية الدائرة بين البلدين، وهى العمليات السرية التي تشمل الهجمات السيبرانية وعمليات الاغتيال وعمليات الحرب النفسية، إذ أن الوسائل الأخرى (الحروب بالوكالة، وتخريب السفن التجارية، والتحركات الدبلوماسية) لا تمثل لكلا البلدين وسائل فاعلة للتأثير في الخصم، بسبب اعتمادها على أطراف أخرى قد لا يكون موقفها مضموناً أو متعاوناً بشكل كافٍ.
نظرية الحرب السرية
تنسب الأعمال المتكاملة للحرب الإسرائيلية غير التقليدية الموجهة ضد إيران إلى الرئيس العاشر لجهاز "الموساد" مائير داغان الذي تولى رئاسته في الفترة 2002- 2010، ففي عام 2004 دعا داغان ونائبه تامير باردو إلى اجتماع في مقر "الموساد" حضره قادة أجهزة الاستخبارات الأخرى ("الشاباك"، و"أمان") لمناقشة كيفية إيقاف المشروع النووي الإيراني. كان التقدير أنه إذا كانت إيران تريد حقاً تصنيع أسلحة نووية، فإنها ستنجح في النهاية. وبناءً على ذلك طرح داغان السؤال التالي: ماذا يمكننا أن نفعل (لتغيير ذلك)؟.
جاءت إجابة الخبراء الأمنيين المشاركين في الاجتماع على السؤال كالتالي: "يمكننا أن نحاول إحداث تغيير في النظام الإيراني، أو أن نقنع القادة الإيرانيين بأن الثمن الذي سيدفعونه من جراء استمرارهم في محاولة تحقيق الطموح النووي سيكون باهظاً وسيُغرق إيران في أزمة اقتصادية عميقة – العقوبات والضغوط السياسية وما إلى ذلك". ولكن داغان رأىأن مثل هذه الحلول لن تكون كافية لإقناع إيران بالتخلي عن مشروعها ومن هنا قال: "نأتي (الأجهزة الأمنية) إلى مهمتنا الرئيسية، حيث نعمل في هذه الأثناء على إبطاء كبير في البرنامج النووي حتى لا يصلوا إلى مرحلة امتلاك أسلحة نووية".
وقدم داغان في نهاية الاجتماع خطة من عدة نقاط لم تتجاهل أهمية الضغوطات الدبلوماسية وفرض العقوبات ولكنها ركزت على وجه الخصوص على العمليات السرية والنوعية مثل استخدام القدرات التكنولوجية لإسرائيل في شن هجمات سيبرانية ضد المنشآت النووية الإيرانية، وتنفيذ عمليات اغتيال لعلماء الذرة الإيرانيين، والحرب النفسية التي تتمثل في إظهار إيران كدولة ضعيفة ومخترقة غير قادرة على حماية منشآتها وعلمائها، وغير قادرة أيضاً على الرد على الاعتداءات الإسرائيلية ضدها.
وفي أواخر فترة رئاسته لـ"الموساد"، دخل داغان في صدام حاد مع بنيامين ناتانياهو ووزير الدفاع ايهود باراك وكان الأخيران يجهزان لخطة عسكرية شاملة لتدمير المنشآت النووية الإيرانية بضربات جوية وصاروخية مُركزة، ورأى داغان بناءً على مشاورات مع الولايات المتحدة الأمريكية وقادة الجيش الإسرائيلي أن ما يخطط له ناتانياهو وباراك قد يتحول إلى كارثة أمنية لإسرائيل، في ظل عدم القدرة على توقع نوع وحجم الرد الإيراني على مثل هذا الهجوم، والأهم هو معارضة واشنطن العنيفة لأى تحرك من هذا النوع من الأصل.
واستخدم داغان حجة النجاح في الحرب السرية ضد إيران لإقناع ناتانياهو بالتراجع عن التفكير في الحرب المباشرة مع إيران، حيث نوه إلى أنه في عام 2010 وحده تمكنت إسرائيل من اختراق مفاعل نطنز، إلى جانب منشآت نووية إيرانية أخرى عبر إدخال برنامج فيروسي مُعقد يحمل الاسم المشفر "ستوكسنت" إلى أجهزة الكمبيوتر التي تتحكم في أجهزة الطرد المركزي الإيرانية لتخصيب اليورانيوم ما تسبب في إحداث فوضى والتسبب في خروج أجهزة الطرد المركزي عن نطاق السيطرة. كما نوه داغان أيضاً إلى نجاح "الموساد" في اغتيال اثنين من أكبر العلماء العاملين في المشروع النووي الإيراني وهما مسعود محمدي (أُغتيل في طهران في يناير 2010) ومجيد شهرياري (أُغتيل في نوفمبر من العام نفسه في طهران أيضاً).
كان داغان واضحاً في تحديد استراتيجيته، التي وصفها بأنها لا تدعي أنها ستقضي على حلم إيران بامتلاك السلاح النووي، بل تهدف فقط إلى تأخير وصول إيران إلى محطة تصنيع هذا السلاح. وقد برهنت السنوات العشر التي انقضت منذ خروج داغان من منصبه على نجاعة استراتيجيته، حيث لم تتمكن إيران من تصنيع السلاح النووي حتى وصولها للاتفاق النووي عام 2015، بينما كانت بعض التقديرات الاستخبارية تتحدث عن أنها ستحقق هذا الهدف في حدود عام 2011 على أقصى تقدير.
طبيعة العملية الأخيرة
تشير العملية الأخيرة التي نفذتها إسرائيل في 12 أبريل الجاري إلى أن استراتيجية داغان المشار إليها سابقاً ما تزال تحكم التحركات الإسرائيلية حيال المشروع النووي الإيراني. فبعد هجوم سيبراني ضد نطنز في 2 يوليو من العام الماضي والذي تسبب في إيقاف عمليات التخصيب الجارية في هذا المفاعل، وبعد اغتيال محسن فخري زاده أحد أهم العلماء في نطنز في 27 نوفمبر الماضي، جاءت العملية الأخيرة لتوقف وحدة التغذية الكهربائية لأجهزة الطرد المركزي. وثمة خلافات بين الخبراء الإسرائيليين حول تبعات هذه العملية، فمنهم من يعتبرها غير ضارة بعمليات التخصيب لأنها لم تمس أجهزة الطرد المركزي بشكل مباشر، مما يسمح باستئنافها بشكل سريع، فعلى سبيل المثال يرى ايرك بار بنجArik Barbing الرئيس السابق لوحدة الأمن السيبراني في جهاز "الشاباك" أن العملية تنتمي للحرب النفسية أكثر من كونها عملية تخريب للمفاعل الإيراني، وأنها سعت إلى إيصال رسالة تكررت كثيراً لإيران وهى أن قدرة إسرائيل على اختراق أشد المنشآت حيوية لإيران أمر لا يمكن إنكاره. ويعتقد بار بنج أن إسرائيل لن تقوم بعمليات تخريب واسعة النطاق ضد المفاعلات النووية الإيرانيةً في الوقت الراهن، لأنها تحرص على إخفاء قدراتها العسكرية والتكنولوجية لمفاجأة إيران حينما لا يكون هناك خيار آخر أمامها (أى إسرائيل) سوى تدمير المفاعلات النووية الإيرانية بنفسها وبدون معاونة من أى طرف خاصة الولايات المتحدة الأمريكية.
في المقابل، أشارت قناة 13 الإسرائيلية، نقلاً عن مصادر استخباراتية، إلى أن الهجوم تسبب في أضرار أكبر من تلك التي أعلنت عنها إيران. وأضافت أن "الهجوم الإلكتروني أسفر عن ضرر جسيم في قلب برنامج إيران لتخصيب اليورانيوم" وأن "إصلاح الأضرار ربما يستمر لعام أو عدة أشهر على الأقل".
ولأن إيران لم تفصح عن حجم الأضرار التي خلّفها الهجوم، كما لا توجد مصادر خارجية موثوق بها لتحديد حجمه وما فرضه من آثار، سيتم افتراض أن رأى بار بنج هو الأرجح وأن الضربة أوقفت محطات التغذية الكهربائية وحدها دون أن تضر بوحدات التخصيب، وأن إسرائيل تعمدت أن تكون الضربة محدودة لسببين أساسيين: الأول، أن إسرائيل لا تريد أن يصل الغضب بالإيرانيين إلى حد اضطرارهم لدخول حرب مباشرة وواسعة النطاق ضدها. والثاني، أن إسرائيل كانت تخشى من توجيه ضربة قوية للمفاعل لتفادي الصدام مع إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن التي تحاول العودة للاتفاق النووي مع إيران بعد انسحاب الرئيس السابق دونالد ترامب منه في مايو 2018، خاصة وأن إيران مقتنعة بشدة بأن إسرائيل لم تكن لتقدم على تنفيذ أى ضربة موجهة لها بدون التنسيق الكامل مع واشنطن.
حدود الرد الإيراني
علي الرغم من أن رئيس الأركان الإسرائيلي أفيف كوخافي كان قد حذر من ضربة انتقامية إيرانية بعد الهجوم على نطنز، إلا أن إيران، مثلها مثل إسرائيل، ربما تبحث عن عمل محدود ضد الأخيرة حتى لا تتسبب في رد إسرائيلي أوسع نطاقاً، وذلك لأنها لا تريد بدورها الحرب المباشرة والشاملة مع إسرائيل في ظل يقينها بأن مثل هذه الحرب لن تبقى مجرد مواجهة بين الطرفين بل ستتوسع إلى مواجهة أكبر مع الولايات المتحدة الأمريكية نفسها.
من جانب آخر، فإنه مثلما ترغب إسرائيل في عدم الكشف عن كافة قدراتها التكنولوجية والعسكرية وتدخرها إلى اليوم الذي تصبح فيه حرب التدمير المتبادل مع إيران خياراً لا مهرب منه، فإن إيران بدورها لن تقدم على كشف أى قدرات عسكرية لديها يمكن أن تشكل مفاجأة لإسرائيل حين تندلع حرب التدمير المتبادل، وبالتالي فإنها لن تقدم، على سبيل المثال، على توجيه ضربات داخل إسرائيل سواء للمنشآت النووية أو المنشآت الصناعية والعسكرية، وقد لا ترغب أيضاً في استخدام حزب الله اللبناني لتسخين الجبهة مع إسرائيل في ظل الأزمة السياسية والاقتصادية التي يعانيها لبنان حالياً، خاصة وأن أغلبية الشعب اللبناني ترى أن الحزب سبب رئيسي في الأزمة التي يعيشها منذ سنوات.
ومن هنا، لن يتبقى لإيران سوى الاستمرار في ضرب بعض السفن التجارية الإسرائيلية للإيحاء بأنها قادرة على الانتقام من الضربات الإسرائيلية، وقد أشارت تقارير عديدة بالفعل إلى أنها استهدفت سفينة إسرائيلية مجدداً في بحر العرب في 13 أبريل الجاري. وتتوقع الأجهزة الأمنية الإسرائيلية أن تحاول إيران في الفترة المقبلة خطف بعض الشخصيات الإسرائيلية لتحقيق نصر دعائي يحد من خسائرها المتفاقمة بعد أن عجزت على مدى أكثر من عشرة سنوات على الرد علي التفوق الإسرائيلي الكاسح في الحرب السيبرانية والعمليات الاستخباراتية الدقيقة مثل اغتيال العلماء النوويين داخل العاصمة طهران، والاستيلاء على وثائق المشروع النووي الإيراني بعملية تسلل ناجحة داخل الأراضي الإيرانية عام 2018.
خلاصة ونتائج
بعد أن اعتمدت السياسة الإسرائيلية خلال العقد الأول من هذا القرن على التخطيط لإنهاء المشروع النووي الإيراني سواء بالقدرات العسكرية الإسرائيلية وحدها أو بمحاولة إقناع الولايات المتحدة الأمريكية بالعمل في هذا الاتجاه معها، تحولت إسرائيل خلال العقد الثاني نحو سياسة تهدف إلى حث الدول الغربية على الضغط على إيران عبر العقوبات الاقتصادية من جانب، والعمل على منع وصولها للعتبة النووية عبر توجيه ضربات سيبرانية وشن عمليات الاغتيال من جانب آخر. وفي حين أثبتت السياسة التي وضع أسسها مائير داغان نجاحاتها بحيث منعت إيران من الوصول إلى العتبة النووية حتى اليوم، إلا أن إسرائيل فشلت في منع الولايات المتحدة الأمريكية من الوصول للاتفاق النووي مع إيران عام 2015، وحتى النجاح الذي حققته جزئياً بانسحاب الأخيرة من الاتفاق عام 2018، أصبح هذا النجاح مهدداً، بسبب رغبة إدارة بايدن في فتح ملف التفاوض مع إيران مجدداً.
وعلى الجانب الآخر، فشلت إيران بشكل ذريع في اختبار الردع تجاه إسرائيل، وشكلت النجاحات الإسرائيلية المتوالية المتمثلة في اغتيال عدة علماء إيرانيين، والتمكن من تخريب بعض المنشآت النووية الإيرانية وصولاً إلى الاستيلاء على وثائق المشروع الإيراني ونقلها من داخل إيران إلى إسرائيل... شكلت كل هذه النجاحات حرجاً بالغاً لإيران أمام شعبها وأمام العالم كله، بحيث بدا أن السؤال عن حقيقة قوة إيران العسكرية والتكنولوجية يكتسب وجاهة خاصة، وهو ما مثل خصماً كبيراً من قوة الردع التي تمتلكها إيران والتي قد تؤثر على قدراتها التفاوضية إذا ما استجابت لدعوة الولايات المتحدة الأمريكية والقوى الدولية الأخرى لفتح باب العودة إلى الاتفاق النووي مجدداً.