قام وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف بزيارة مهمة إلى القاهرة في 12 إبريل 2021، استقبله خلالها الرئيس عبد الفتاح السيسي، ووزير الخارجية سامح شكري. وجاءت زيارة لافروف إلى مصر، قبل يوم واحد فقط من زيارة رسمية له إلى إيران، وبعد جولة كان قد قام بها في منطقة الخليج العربي خلال شهر مارس الماضي، زار خلالها كلاً من الإمارات والسعودية وقطر.
وتتزامن الزيارة مع تصاعد حدة الأزمات في منطقة الشرق الأوسط نتيجة تفشي وباء كوفيد 19، وفشل مفاوضات البرنامج النووي الإيراني وتعثر عملية السلام الفلسطينية- الإسرائيلية واستمرار الصراعات المختلفة في سوريا وليبيا ولبنان وشرق المتوسط، كما جاءت أيضاً في وقت بلغ فيه التوتر والجمود في العلاقات الروسية- الأمريكية مستوى غير مسبوق. إذ يبدي الرئيس الأمريكي جو بايدن، منذ وصوله إلى البيت الأبيض في 20 يناير الماضي (2021)، موقفاً أكثر تشدداً تجاه نظيره الروسي فيلاديمير بوتين مقارنة بسلفه دونالد ترامب، وهو الأمر الذي برز بوضوح في وصف الأول للثاني بأنه "قاتل"، وتهديدات واشنطن المتكررة لموسكو بفرض مزيد من العقوبات الاقتصادية الصارمة عليها، بالتعاون مع حلفاءها الأوروبيين، بسبب تدخل موسكو في الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة، والأزمة الأوكرانية، وسجن السلطات الروسية للمعارض البارز أليكسي نافالني الذي تطالب الدول الغربية بإطلاق سراحه، الأمر الذي ترفضه روسيا بشدة باعتباره "تدخلاً غير مقبول في شئونها الداخلية".
وربما يكون هذا التوتر هو أحد الأسباب الرئيسية وراء تصاعد الاهتمام الروسي مؤخراً بمنطقة الشرق الأوسط، إذ يبدو أن موسكو، منذ فترة، تسعى بشكل حثيث لحشد الحلفاء والأصدقاء في منطقة الشرق الأوسط، استعداداً لحرب باردة جديدة في الأفق مع إدارة بايدن، حيث انخرطت روسيا دبلوماسياً مع جميع دول المنطقة في الآونة الأخيرة، وزادت مبيعات أسلحتها إلى دول مثل مصر والعراق والمملكة العربية السعودية وليبيا والإمارات العربية المتحدة وتركيا وإيران والجزائر. كما أبرمت موسكو مؤخراً أيضاً اتفاقية مدتها خمسة وعشرين عاماً لإنشاء قاعدة بحرية في السودان، لتكون الثانية من نوعها بعد قاعدتها في طرطوس في سوريا. وكشفت جولة وزير الخارجية الروسي إلى دول منطقة الخليج في شهر مارس الماضي، عن رغبة موسكو في ترويج رؤيتها لنظام الأمن الجماعي الشامل في الخليج، خاصة بعد سلسلة من الزيارات التي قام بها وزراء خارجية الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية وقطر إلى موسكو فى ديسمبر 2020 ويناير 2021.
كما طرحت موسكو أيضاً، على لسان وزير الخارجية لافروف في نهاية شهر مارس الماضي، مبادرة جديدة بشأن استئناف المفاوضات المباشرة بين الفلسطينيين وإسرائيل. وتقوم هذه المبادرة على توسيع إطار صيغة الوسطاء الدوليين، لتشمل إلى جانب أعضاء الرباعية الدولية (روسيا والولايات المتحدة والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي)، أربع دول عربية لها علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، وهى (مصر والأردن والإمارات العربية المتحدة والبحرين)، وطرفى النزاع (إسرائيل وفلسطين) والمملكة العربية السعودية بصفتها صاحبة مبادرة السلام العربية، التي أقرها مجلس الأمن.
مكاسب الزيارة
زيارة لافروف الأخيرة إلى القاهرة كشفت عن وجود فرص توفرها الشراكة المصرية- الروسية لتحقيق الاستقرار والأمن والتنمية في منطقتى حوض النيل والشرق الأوسط. فمن ناحية، أكد وزير الخارجية المصري سامح شكري على أن روسيا، العضو الدائم في مجلس الأمن الدولي وذات الإمكانات الدبلوماسية الكبيرة، تتفهم موقف مصر فيما يخص أزمة سد النهضة، مشيراً إلى أن موسكو أظهرت استعداداً لاستمرار التنسيق مع القاهرة من أجل التوصل لاتفاق بشأن السد يحقق مصالح مصر والسودان وإثيوبيا. وأشار شكري أيضاً إلى أن مصر "تُعوِّل على علاقات روسيا بإثيوبيا، للمساعدة على التوصل لاتفاق ملزم بشأن سد النهضة، خاصة وأن المسار الإفريقي للتفاوض متعثر". ومن جهته، أكد وزير الخارجية الروسي موقف بلاده الثابت برفض المساس بالحقوق المائية التاريخية لمصر في مياه النيل ورفض الإجراءات الأحادية في هذا الصدد، معربًا عن التقدير للجهود الحثيثة والمخلصة التي تبذلها مصر في هذا الإطار، وتطلع بلاده إلى التوصل إلى حل يحقق مصالح كافة الأطراف من خلال المفاوضات في أقرب وقت ممكن.
ومن ناحية ثانية، أسفرت الزيارة عن تعزيز التعاون بين الجانبين بشأن إجراء الانتخابات الفلسطينية في 22 مايو المقبل، وتأييد مصر للمبادرة الروسية الجديدة التي طرحها لافروف بشأن استئناف المفاوضات المباشرة بين الفلسطينيين وإسرائيل مع خلال توسيع إطار صيغة الوسطاء الدوليين.
وفيما يتعلق بمستجدات القضية الليبية، أشار الجانب المصري إلى الجهود القائمة لدعم السلطة التنفيذية المؤقتة الجديدة في ليبيا في مختلف المحافل الثنائية والإقليمية والدولية، ودفع كافة مسارات تسوية القضية عسكرياً وسياسياً واقتصادياً، مشدداً على ضرورة إخلاء ليبيا من المرتزقة وتقويض التدخلات الأجنبية غير المشروعة في الشأن الليبي التي تساهم في تأجيج الأزمة، للمساعدة على الوصول إلى إجراء الاستحقاق الانتخابي في ديسمبر المقبل. ومن جانبه، أشاد وزير الخارجية الروسي بالدور المصري الحيوي لتسوية الأزمة الليبية، والجهود الشخصية للرئيس السيسي في هذا الإطار، والتي عززت المسار السياسي لحل القضية الليبية، وهو الأمر الذي يرسخ دور مصر كركيزة أساسية للأمن والاستقرار في محيطها الإقليمي، مؤكداً حرص روسيا على مواصلة التعاون والتنسيق المكثف بين البلدين في هذا الملف الهام.
وفيما خص الشأن اللبناني، أعلن لافروف عن زيارة سيقوم بها رئيس الحكومة المُكلَّف سعد الحريري في الأيام المقبلة إلى موسكو، وأن القيادة الروسية تنتظر ممثلي جميع الأحزاب والقوى المؤثرة للتباحث بالشأن اللبناني في سعى لحل معضلة تشكيل الحكومة. وفيما يتعلق بالأزمة السورية، نوه لافروف إلى أن بلاده تتفق مع مصر "على ضرورة حماية وحدة وسلامة سوريا"، داعياً إلى "عودة اللاجئين السوريين إلى بلدهم".
وعلى الصعيد الثنائي، كشفت الزيارة عن عزم الدولتين المضى قدماً في تنفيذ المشروعات المتفق عليها بشأن محطة الضبعة النووية لتوليد الكهرباء، والمنطقة الصناعية الروسية فى المنطقة الاقتصادية لقناة السويس (بإجمالي استثمارات تبلغ 7 مليار دولار)، وكذلك التزام موسكو بتوريد عربات السكك الحديدية إلى مصر. إذ تم عقد صفقة لتوريد 1300 عربة قطار لصالح هيئة السكك الحديدية المصرية. وفي هذا الصدد، يشار إلى أن جائحة كوفيد 19 أسفرت عن انخفاض قيمة التبادل التجاري بين البلدين من 6.25 مليار دولار في عام 2019 إلى 4,54 مليار في عام 2020.
ومن جهة أخرى، تم الاتفاق على عقد محادثات "2+2" لوزيرى الخارجية والدفاع من الجانبين، خلال الفترة المقبلة، من أجل تدعيم الشراكة المصرية- الروسية في مجال التعاون الأمني والاستراتيجي في منطقة الشرق الأوسط. وكشف الجانبان المصري والروسي أيضاً عن أن تسجيل اللقاح الروسى "سبوتنيك V" فى فبراير الماضى فى مصر سيوفر الشروط المناسبة لتنشيط الاتصالات بين هيئات البلدين المتخصصة بشأن التوريدات المحتملة لهذا اللقاح إلى مصر. هذا، ومن المقرر عقد اجتماعات اللجنة المصرية- الروسية المشتركة في نوفمبر 2021 بالعاصمة موسكو لمناقشة مجالات التعاون المشتركة على المستويات المختلفة تجارياً واقتصادياً وعلمياً.
مستقبل واعد
زيارة لافروف الأخيرة إلى القاهرة من شأنها تعزيز الشراكة المصرية- الروسية خلال الفترة المقبلة، خاصة بعد أن شهدت هذه الشراكة زخماً كبيراً، على مدار الأعوام الستة الماضية، وظهر ذلك على عدة مستويات كان بدايتها الدعم الروسي لموقف مصر من ثورة يونيو 2013، والتأكيد على أن ما حدث كان استجابة لإرادة شعبية. وفي هذا السياق، ساندت روسيا مصر في المحافل الدولية ومجلس الأمن، بالإضافة للتصريحات الرسمية الصادرة عنها. كما التقى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ونظيره الروسي فيلاديمير بوتين أكثر من عشرة مرات منذ عام 2014، بما في ذلك زيارات متبادلة إلى القاهرة وموسكو. وبدأ تفعيل صيغة "2+2"، التي تضم وزيرى الخارجية والدفاع في البلدين، منذ عام 2013، لتحقيق تنسيق عسكري وسياسي بين البلدين، مما جعل مصر سادس دولة ترتبط مع روسيا بهذه الصيغة.وقد مهد ذلك للتوصل إلى اتفاقية الشراكة الاستراتيجية الشاملة في أكتوبر عام 2018 ودخلت حيز التنفيذ في يناير 2021، بعد موافقة البرلمان المصري عليها. وتشمل هذه الاتفاقية ليس فقط تسهيل التبادلات التجارية والعلاقات الاقتصادية بين البلدين، وإنما أيضاً تعاوناً رفيع المستوى في القضايا المتعلقة بجهود مكافحة الإرهاب والصفقات العسكرية والهجرة غير الشرعية ومشروعات توليد الكهرباء باستخدام الطاقة النووية.
وبالتزامن مع ذلك، تعززت الشراكة المصرية- الروسية في ظل تنامي التعاون العسكري بين الجانبين، حيث شاركت القوات البحرية المصرية، لأول مرة، في تدريبات بحرية مشتركة مع نظيرتها الروسية في البحر الأسود، في نوفمبر 2020، فيما عرف بمناورات (جسر الصداقة – 3). وجاءت هذه التدريبات ضمن سلسلة المناورات التي تشارك فيها القوات البحرية لكلتا الدولتين منذ انطلاقها عام 2015 لدعم وتعزيز التعاون العسكري بين الجانبين، والتي تم إجراء الجولتين الأولى والثانية لها في عامى 2015 و2019 على التوالي، في سابقة غير معهودة منذ أكثر من 4 عقود. وفي إطار سياسة مصر لتنويع مصادر التسليح، حازت روسيا على نصيب كبير من صفقات التسليح المصرية.
على أية حال، يمكن القول إن زيارة وزير الخارجية الروسي الأخيرة إلى القاهرة أكدت على أن الشراكة المصرية- الروسية أصبحت تمثل ركيزة مهمة للأمن والاستقرار والتنمية في منطقة الشرق الأوسط. وسوف تتعمق هذه الشراكة، على الأرجح، في المستقبل المنظور، لا سيما في ظل التوجهات الراهنة للإدارة الأمريكية الجديدة، والتي تميل إلى عدم التورط في الأزمات المشتعلة بمنطقة الشرق الأوسط والقرن الأفريقي فيما عدا إيران.