قضايا وتحليلات - قضايا وتفاعلات عربية وإقليمية 2021-4-10
أحمد عليبه

خبير- مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

انتهت الجولة الثالثة من الحوار الاستراتيجي الأمريكي - العراقي، وصفتها خارجيتا البلدين فى بيانهما الختامي بـ"الناجحة جداً" على صعيد مخرجات ما تم الاتفاق عليه فى الملفات الخمسة التي تناولتها (التعاون الأمني ومكافحة الإرهاب، وعودة الاستثمار، والطاقة، والمناخ، وقضايا التعليم والثقافة). وعلى الرغم من التوافق على تأجيل حسم مستقبل الوجود العسكري الأمريكي فى العراق إلى الجولة القادمة، وهى النقطة ذات الأولوية فى هذا الحوار فى ظل الضغوط السياسية والميدانية التي تتعرض لها حكومة مصطفى الكاظمي، إلا أن ما تضمنه البيان والتعقيبات من الجانبين العراقي والأمريكي يعكس تطوراً فى هذا الملف لاسيما ما يتعلق بطبيعة المهام ونمط الانتشار.

أبعاد مختلفة

فيما يتعلق بالأبعاد الاستراتيجية للحوار، من المتصور أن هناك مرتكزين رئيسيين يرتبطان بالعلاقات متعددة الأطراف، والتي تشمل الولايات المتحدة الأمريكية والعراق وإيران، التي تعد الحاضر الغائب على طاولة الحوار، على نحو بدا جلياً فى الزيارة التي قام بها إسماعيل قاآني قائد فيلق القدس فى الحرس الثوري الإيراني عشية إطلاق الجولة الأخيرة من الحوار، وهى زيارة كاشفة عن الدور والموقف الإيراني تجاه هذا التطور. ويمكن تناول هذين المرتكزين على النحو التالي:

أولاً: أجندات متداخلة: بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، فإن هذه هى الجولة الأولى من الحوار الاستراتيجي فى عهد إدارة الرئيس جو بايدن، حيث تولى رئاستها من الجانب الأمريكي وزير الخارجية أنتوني بلينكن، وبالتالي فإن ما طرح أمريكياً على طاولة الحوار هو الرؤية الاستراتيجية الشاملة للإدارة الجديدة تجاه العراق والتي سيتم اتباعها فى السنوات الأربع المقبلة، بما يعني أنها تتجاوز، إلى حد كبير، مقاربة الوجود العسكري أو حتى إدارة العلاقات مع إيران فى إطار معادلة الاشتباك الأمريكية- الإيرانية المعقدة هناك منذ عملية اغتيال قاسم سليماني قائد فيلق القدس السابق (3 يناير 2020).

فوفقاً للمخرجات، يبدو أن الإدارة الأمريكية ليست لديها الرغبة فى الانسحاب العسكري من العراق بحلول العام القادم (2022) بناءً على قرار الإدارة السابقة، بالإضافة إلى أن الخطاب الأمريكي يكشف من جانب آخر عن التماس الزمني بين الحوار الاستراتيجي (العراقي – الأمريكي) وتطورات المباحثات الجارية فى فيينا لإحياء خطة العمل المشتركة (الاتفاق النووي)، لاسيما وأن هناك رغبة أمريكية أيضاً فى تقويض التمدد الإيراني فى المنطقة كأحد استحقاقات عودة واشنطن إلى الاتفاق.

وبالنسبة للعراق، فإن هناك سياقات كاشفة عن موقف رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي من المقاربات المطروحة. وبخلاف البيان الصادر عن الحوار العراقي- الأمريكي، فإن تصريحات الكاظمي عقب انتهاءه تكشف ليس فقط عن ما دار فى الكواليس أو ما تم الاتفاق عليه، لكن عن حجم الضغوط التي يتعرض لها، وهو ما بدا واضحاً، وفق مراقبين، فى تغريدته على حسابه على "تويتر" والتي قال فيها أن "نتائج الجولة الثالثة من الحوار الاستراتيجي بوابة لاستعادة الوضع الطبيعي في العراق"، وأن "الحوار هو الطريق السليم لحل الأزمات، شعبنا يستحق أن يعيش السلم والأمن والازدهار، لا الصراعات والحروب والسلاح المنفلت والمغامرات". وبالتالي يعيد الكاظمي التأكيد على فكرة السيادة الوطنية واستقلال القرار السياسي، على نحو يتوازى مع تعمده التلميح بإلقاء اللوم على طهران بسبب دعمها للميليشيات المسلحة، وحرصه أيضاً- في إطار إدارته للعلاقات بين بغداد وواشنطن- على أن تكون القيادة والسيطرة الأمنية فى أيدي القوات العراقية.

أما بالنسبة لطهران، فقد بدا أن هناك ثباتاً على الموقف الخاص بإنهاء الوجود العسكري الأمريكي فى العراق، والتأكيد على أنها ستستمر عبر أدواتها فى الضغط لإنهاء هذا الوجود، بغض النظر عن موقف الحكومة العراقية، بل إن عدم لقاء قاآني برئيس الحكومة العراقية يعد سابقة هى الأولى من نوعها، حيث أجريت ثلاثة لقاءات سابقة فى نوفمبر وديسمبر الماضيين، خلال زيارات قاآني لبغداد، بينما انحصرت لقاءاته في الزيارة الأخيرة مع رؤساء الأحزاب الشيعية وقادة الميليشيات الموالية لإيران. وترجح أغلب التقديرات العراقية أن عدم عقد اللقاء يأتي على خلفية عدم استجابة الكاظمي لطلب طهران حول تسريع الانسحاب الأمريكي من العراق، على نحو يكشف مدى التنافر فى السياسات التي يتبعها الطرفان (الكاظمي الذي يبحث عن هامش استقلالية عن طهران، وقاآني الذي يسعى إلى أن يحسم معركة النفوذ فى العراق لصالح بلاده على حساب الوجود الأمريكي). 

وهنا، فإن ما يمكن استنتاجه فى المرحلة الحالية هو أن سياسة "شد الأطراف" لا تزال تشكل قواعد اللعبة بين طهران وواشنطن فى العراق، وأن المرحلة الحالية هى مرحلة اختبار القوة بين الطرفين، حيث أن من سينجح فى "معركة الإخضاع" هو من سيحكم معادلة التوازنات فى الأخير على الساحة فى العراق، وهى معركة طويلة الأمد نسبياً. ففى السابق، كانت الحكومات العراقية تدير توازنات العلاقات بين طهران وواشنطن، لكن فى مرحلة التصعيد التي أعقبت عملية اغتيال سليماني - والتي مثلت مفترق طرق بين الجانبين الأمريكي والإيراني- أصبحت الحكومة العراقية فى مأزق فى ظل مساعي الاستقطاب من الجانبين، وهو أحد تفسيرات انهيار حكومة عادل عبد المهدي – الأقرب إلى إيران – بينما يسعى الكاظمي إلى إرساء معادلة توازن جديدة بين القوتين.

ثانياً: مخرجات الحوار الاستراتيجي: على الرغم من التقدم الذي تم إحرازه فى العديد من ملفات الحوار، لكن يبقى أن الملفين الأمني والاقتصادي حظيا بالاهتمام الرئيسي فيه، بل يمكن القول إن هناك رابطاً مشتركاً واضحاً بين الطرفين، خاصة عندما تم التركيز على التهديدات التي تمثلها الميليشيات العراقية على الساحة فى ظل استمرار عملية القيادة والسيطرة الإيرانية عليها. وعندما تم التطرق إلى الملف الاقتصادي وملف الطاقة كان من الواضح أثر الموقف من استمرار لعب إيران الدور الرئيسي فى إمدادات الطاقة العراقية لاسيما الطاقة الكهربائية، بينما ركزت اللجان المشتركة على توسيع دائرة الشراكة العربية فى هذا المجال من خلال عمليات الربط الكهربائي مع دول الخليج.

بدائل استراتيجية

على ما يبدو، فإن الصيغة التي تم التوصل إليها فى الحوار الاستراتيجي هى إعادة تكييف الوجود العسكري الأمريكي الذي يتمثل في الـ2500 جندي الموجودين على الأراضي العراقية، وليس إنهاء الوجود أو الانسحاب الكامل، بحيث تتحول مهام هذه القوات من مهام قتالية إلى مهام تدريب ودعم استراتيجي وإسناد لوجستي، والتركيز على عملية مكافحة تنظيم "داعش"، مع الإبقاء على هذه القوات فى قواعد عسكرية عراقية. كما سيتم تقليص مظاهر الوجود العسكري الأمريكي فى العراق، بحيث ستتولى القوات العراقية تأمين القواعد العسكرية والمقرات الأجنبية فى البلاد ومنها مجمع السفارات فى المنطقة الخضراء.

هذه البدائل تعكس عدة مؤشرات رئيسية من أبرزها، على سبيل المثال، أن العراق حريصة على تولي عملية القيادة والسيطرة على قواتها وعملياتها الأمنية ومجال تحركاتها داخلياً، وهو ما كشفت عنه تصريحات مساعد وزير الخارجية الأمريكي جوي هود. لكن يبدو من التصريحات الأمريكية ذاتها أن واشنطن تشكك فى قدرة العراق على تولي هذه المهام، حيث أفاد هود بأن الميليشيات العراقية الموالية لإيران "خارج السيطرة"، وبخلاف القدرة على ضبط الانفلات الأمني واحتكار الدولة للسلاح، فإن الكاظمي يواجه تحديات أخرى تتعلق بمستوى هشاشة الهيكل الأمني، بسبب تحديات إدماج "القوى الرديفة" أو "الكيانات شبه العسكرية" وتحديداً "الحشد الشعبي"، بالإضافة الى الانقسام فى هذه الخريطة بين "الحشد الولائي" و"حشد المرجعية".

على الجانب الآخر، وفيما يتعلق بالبدائل الأمريكية، هناك عدة ملاحظات، منها أن مهمة التدريب والدعم قائمة بطبيعة الحال فى إطار وجود التحالف الدولي مع انتقال القيادة إلى حلف "الناتو"، ولا يعتقد أن المقصود هو أن تكون هناك ازدواجية، لكن من الواضح أن الاعتبارات الاستراتيجية الخاصة بمعادلتى النفوذ والاشتباك فى مواجهة إيران ستدفع الولايات المتحدة إلى البقاء عسكرياً فى العراق تحت أى صيغة بغض النظر عن حقيقتها، فالأمر يتعلق هنا بالهدف وليس بالشكل.

كذلك، فإن عملية تفكيك البنية العسكرية فى العراق بحيث تتحول القواعد فى العراق إلى قواعد وطنية تحت القيادة والسيطرة العراقية هى مسألة صعبة فى المدى المنظور، رغم أن هناك سوابق فى هذا الشأن، حيث جرى تفكيك ما لا يقل عن 12 قاعدة عسكرية أمريكية مع إخلاء ما يقارب من 147 ألف جندي أمريكي على مدار 10 سنوات، كذلك هناك تقارير أمريكية أشارت إلى أن جانباً من بنية القواعد وعتادها تم نقله إلى خارج العراق لتعزيز بنية القاعدة الأمريكية الجديدة فى الحسكة شمالى شرق سوريا.

لكن تظل كافة هذه المؤشرات تصب فى اتجاه عملية التكيف الأمريكي مع التطورات ولا تعبر عن متغير حاد، مع الاستجابة فى الوقت ذاته للمطالب العراقية. فقد شنت الإدارة الأمريكية الحالية ضربتها العسكرية الأولى ضد الميليشيات العراقية داخل الحدود السورية (26 فبراير 2021)، وهى رسالة تفيد أن واشنطن تسعى إلى تجنب العراق كساحة مواجهة مع إيران. فى المقابل، فإن معضلة طهران لا تتوقف فقط عند خط المواجهة مع واشنطن فى العراق أو المنطقة فى المرحلة الحالية، ولكنها تكمن أيضاً فى تنامي هامش خطاب الاستقلال العراقي على المدى الطويل، والذي ربما سيكون أكثر إزعاجاً لها، فى الوقت الذي تسعى إلى تكريس سيطرتها على العراق.

فى الأخير، يمكن القول إن الحوار الاستراتيجي الأمريكي- العراقي يشكل آلية للحوار المشترك كقناة دبلوماسية واسعة لتطوير العلاقات بين الطرفين، وبغض النظر عن مستوى وقيمة مخرجاته، لكنها تعكس قدرة الولايات المتحدة الأمريكية والعراق- كشريكين- على صياغة جدول أعمال هذه العلاقات وتأطيرها استراتيجياً. لكن فى الوقت ذاته يظل جانب كبير من هذا الحوار مجرد رد فعل إزاء الدور الإيراني فى الساحة العراقية والصراع على كسب جولة النفوذ حصرياً ضد أى قوى أخرى بشكل دائم. كذلك لا يعتقد أن أياً من واشنطن أو طهران لديه القدرة على حسم معادلة النفوذ بشكل نهائي فى العراق، فى ظل طبيعة علاقات البلدين بالأخيرة، وبالتالي ستظل محاولات حكومة الكاظمي قائمة بشكل دائم فى البحث عن مخرج من مأزق معادلة المطرقة والسندان.