حديث رئيس الوزراء السوداني الدكتور عبدالله حمدوك في لقائه بقيادات مؤسسة الأهرام ومركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، تضمن الكثير من النقاط الإيجابية التي يمكن البناء عليها لدفع العلاقات المصرية - السودانية إلى الأمام، لا سيما فيما يتعلق بتهيئة الأجواء الإيجابية لتعامل صحى ومنتج لصالح البلدين، وعقلنة المنظور الذى يتم به تناول هذه العلاقات. ورغم ذلك نجد أنه في الداخل السوداني لم يحظ بالاهتمام من الحديث الشامل للدكتور حمدوك، سوى ما تحدث فيه عما أسماه "المسكوت عنه" في العلاقات بين البلدين والذي جاء بطريقة تلغرافية لم تستغرق أكثر من دقيقة ونصف الدقيقة، أشار فيها حمدوك إلى ثلاثة بنود يجب السعي لإيجاد معالجة لها، من أجل تجذير العلاقة بين البلدين، وشملت هذه البنود "الصور النمطية المتبادلة"، و"النظرة للتاريخ"، و"مسألة حلايب".
في هذا المسكوت عنه لم تهتم "السوشيال ميديا" والوسائط السودانية سوى بنصف السطر الذي ورد عن حلايب، في استمرار لنهج التأجيج ووضع الأمر في إطار صراعي، في حين أن حديث الرجل وسياقه العام كان في إطار التناول الإيجابي والسعي للحفاظ على ديمومة العلاقات واستقرارها وثباتها.
ولا يخفى على أحد أن هناك صورة سلبية في السودان تجاه مصر، تم تكريسها على مدى زمني ممتد، واشتد أوراها خلال العقود الثلاث الأخيرة، وساهمت في ذلك عوامل مركبه بعضها تاريخي، وبعضها ثقافي، وبعضها الآخر سياسي، وجزء لا يُستهان به منها يتصل بمعطيات الصراعات الداخلية في السودان، سواء كانت جهوية أو ثقافية. ثم أُضيفت إليها أيضا في العقد الأخير تدخلات من أطراف خارجية ذات أذرع إعلامية موجهة نحو الداخل السوداني، وتسعى لخلق فجوة بين السودان ومصر، خدمة لاستراتيجيات ومصالح هذه الأطراف الخارجية وليس لخدمة السودان.
سياق هذا المقال لا يسمح بتناول التفاصيل، وليس هو المجال المناسب لإقامه حوار لتناول هذه الظاهرة وأبعادها وكيفية تطورها والخروج منها. غير أن الملاحظة الأساسية هي أن كثيرا مما يتم تداوله عن مصر داخل السودان، ويشكل مادة لحملات الكراهية والتهجم المتكررة والمتجاوزة لأي تقاليد أو أعراف، إنما تقوم في الأساس على معلومات مغلوطة يتم ترديدها والتعاطي معها كأنها حقائق ومسلمات. وهناك للأسف قطاع من النخبة السودانية يساهم في ذلك بطرق مختلفة، بدلا من ترشيد الحوار أو على الأقل تصويب المعلومات الخاطئة التي تُبنى عليها تصورات ومفاهيم أصبحت معوقا فعليا، بل أوشكت أن تتحول إلى أحد مهددات للعلاقة بين البلدين، إذ أنها لو تُركت على هذا المنوال- وبفعل وسائل التواصل الحديثة- سوف تخلق ردات فعل مضادة، لتخلق جدلية صراعية لن تلبث كثيرا حتى تنعكس في سلوكيات تنال من الوجدان المشترك الذي ما زال قائما.
في الوقت الحالي، نجد أن العلاقات الرسمية حظيت بدفعة قوية وزخما واضحا ينعكس الآن في معظم المجالات، وذلك بفعل عوامل هيكلية وحقائق موضوعية لا يمكن تجاوزها بفعل التهديدات التي يتعرض لها الأمن القومي لكلا البلدين، الأمر الذي أثبت أن مصادر التهديد للبلدين واحده، وأن مصالحهما ومصيرهما مشترك. إلا أن هذا الزخم يحتاج لتدعمه حاضنة إيجابية وإلى عمل كبير على الناحيتين لتجاوز ما علق بالعلاقات من شوائب مفتعله ومصطنعة في جانب كبير منها.
ولا شك أن الطرح الذي قدمه الدكتور حمدوك بالطرق على "المسكوت عنه" له نواح إيجابية كثيرة لا يمكن إغفالها، فهناك سمة سائدة في العلاقات المصرية- السودانية، نتجت عن خصيصة سياسية، تسعى طوال الوقت إلى تجاوز مراحل الفتور، وتبحث وتركز على أوجه التعاون، وفى سبيل ذلك تجنح إلى الصمت عن أي حديث يتناول التحفظات هنا أو هناك، وتعتبر أن الحديث في ذلك أمرا يعكر الأجواء، وأننا يجب أن ندع ذلك وراء ظهورنا، طالما أننا في لحظة توافق، وطالما أننا نسعى لشق طريق إيجابي أو تعاوني نحو المستقبل. وبناء عليه يتردد الحديث عن الوشائج والتكامل في المصالح والمصير المشترك، ويتم توقيع اتفاقيات عديده، يكون نصيبها من التنفيذ محدودا أو مرحليا، في حين تظل كامنة بعض التحفظات غير المفصح عنها، أو بعض المطلوبات غير المتحققة هنا أو هناك، لكي تعاود الظهور في وقت آخر، مع اتساع الفجوة القائمة في الادراك المتبادل بمضي الوقت، بفعل عوامل عديدة ومتداخلة.
وها هو حديث الدكتور حمدوك يفتح الباب لاقتراب جديد ومختلف، يسد الثغرات ويتجاوز المجاملات الدبلوماسية المعتادة وأحاديث تاريخية وعمق العلاقة، وهي صحيحة تماما، إلا أنها لم تعد تكفي في الوقت الحالي؛ فالتحديات الماثلة الآن تحتاج إلى بيئة إيجابية داعمة، توفر سندا ودعما شعبيا لإنجاح المشروعات العديدة التي تم التوافق عليها، والتي دخل بعضها حيز التنفيذ بالفعل، وتتجاوز بها أيضا فكرة الدورات المتعاقبة بين الفتور والتحسن التي سادت طوال الفترة التي أعقبت استقلال دولة السودان.
ومعلوم أن تناول هذه القضايا يتم عبر حوارات ممتدة بين النخب والباحثين والأكاديميين على الجانبين، بالتداول الصريح والشفافية والموضوعية، وبتصحيح المعلومات المغلوطة وتدقيق الوقائع، وتجلية هذا الغبار الكثيف الذي يشوش على الكثيرين، وإنتاج أدبيات جديدة تؤطر العلاقة وتضعها على الطريق الصحيح. هذا الأمر بطبيعته يقتضي وقتا ليس بالقصير، ثم يقتضي وقتا آخر لكي يثمر ويصل إلى الوجدان العام. لكن المهم هو البدء وكسر هذه الدائرة المفرغة التي تعيد إنتاج المشاكل والأزمات، والتي انتهت في دورة الفتور والتوتر الأخيرة إلى تعريض أمن البلدين لمخاطر ما كان يمكن لها أن تطرق الأبواب هكذا، لو كانت أبواب الحوار والتشاور مشرعة ومفتوحة.
لذا فإن المطلب الملح والمطروح الآن هو الشروع في إيجاد أو إنشاء هياكل وأطر للتواصل وللحوار بشكل دوري بين البلدين، أو تقديم الرعاية المناسبة لبعض المؤسسات القائمة وتكليفها بهذه المهمة التي لم تعد ترفا ولا عملا زائدا، بل أصبحت واجبة كبداية ومنطلق لتفاعل إعلامي وثقافي وفني ورياضي واسع، يتساوق مع هذه الصفحة الجديدة في العلاقات التي تتسم بتنسيق وتكاتف غير مسبوقين طوال أكثر من ثلاثة عقود.