على مدى الفترة من 15 إلى 20 فبراير 2021 تعرضت القوات العراقية، وقوات التحالف الدولي، وبعض القواعد العسكرية الأمريكية فى العراق لعدة هجمات صاروخية لاسيما فى أربيل والمنطقة الخضراء، تشير الترجيحات إلى مسئولية ميليشيات عراقية مسلحة محسوبة على إيران عنها، وتحديداً كتائب حزب الله وكتائب سيد الشهداء، وهى الهجمات التى تأتى فى سياق حالة الانتظار الإيرانية لسياسات الرئيس الأمريكى الجديد جو بايدن تجاه ملف البرنامج النووى الذى انسحبت منه إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب فى مايو 2018.
وعلى الرغم من أن استهداف فصائل مسلحة تابعة لإيران العديد من المصالح الأمريكية فى العراق لم يكن أمراً مستحدثاً أو جديداً على المشهد السياسى العراقى، الذى تقتحمه إيران عبر رفع وتيرة تدخلها فيه منذ منتصف عام 2020 الماضى بالتزامن مع تولى مصطفى الكاظمى رئاسة الوزراء، إلا أن الجديد فى الموضوع هو المجال "الجغرافى والسياسى" للرد العسكرى الأمريكى على هذه الهجمات فى ظل الإدارة الجديدة، والذى استهدف شاحنات نقل ذخيرة ومنشآت بنية تحتية تتبع ميليشيات مسلحة عراقية موالية لإيران فى شرق سوريا؛ حيث تخضع المنطقة ما بين معبر البوكمال السورى على الحدود مع العراق، وبين محافظة دير الزور لنفوذ إيرانى تحميه ميليشيات عراقية مسلحة، وبالتحديد فى الريف الشرقى لمحافظة دير الزور السورية.
الرد الأمريكى العسكرى الأول من نوعه فى ظل إدارة الرئيس بايدن حمل العديد من الرسائل والدلالات والمؤشرات بشأن ملامح السياسات الأمريكية المقبلة تجاه إيران، وارتباطاتها الإقليمية فى العراق وسوريا خلال السنوات الأربعة القادمة.
رسائل ودلالات
الدلالة الأولى، تشير إلى اتجاه الإدارة الأمريكية الجديدة لإعادة ربط بعض الملفات الإقليمية فى منطقة الشرق الأوسط بعضها البعض، خاصة تلك التى تشهد تدخلاً عسكرياً أمريكياً على مسرح الأحداث، وتشهد فى الوقت نفسه انخراطاً إيرانياً واضحاً، كملفى العراق وسوريا، وذلك فى سياق ممارسة المزيد من الضغوط على طهران لحثها على اتباع نهج أكثر مرونة بشأن شروط العودة الأمريكية للالتزام ببنود الاتفاق النووى، حيث ترى إيران أن تلك العودة يجب ألا تكون مشروطة، وأن يسبقها رفع كامل للعقوبات المفروضة عليها.
ومن ناحية أخرى أعاد رد الفعل الأمريكى العسكرى على هجمات صواريخ الميليشيات المسلحة فى نطاقه المكانى - محافظة دير الزور السورية فى منطقة الحدود بين العراق وسوريا – الملف السورى إلى قائمة أولويات السياسة الخارجية الأمريكية التى تقول بعض مؤشراتها بأن ثمة رغبة واضحة لدى الرئيس بايدن لإعادة الاهتمام بالوجود العسكرى الأمريكى فى منطقة الشمال والشمال الشرقى السورية؛ لأهميتها الاستراتيجية حيث قربها من الحدود العراقية، فضلاً عن كونها مقراً لتواجد القوات الأمريكية، وأخيراً لإعادة رسم خريطة المصالح الأمريكية مع الحليف الكردى السورى عبر قوات سوريا الديمقراطية "قسد" وحزب الاتحاد السورى الكردى تحديداً، وهو ما يشير إلى تعارض سياسة بايدن فى سوريا بصورة مباشرة مع تركيا، التى تعتبر الحزب وذراعه العسكرية مُهدِّداً للأمن القومى التركى. وهذا ربما يؤشر إلى احتمال إعطاء الرئيس الأمريكى الجديد أولوية واضحة لتقييم مستقبل الوجود العسكرى التركى فى المنطقة نفسها – الشرق والشمال الشرقى السورى- فى ضوء المصالح الإستراتيحية الأمريكية فى سوريا.
دعم الكاظمي
الدلالة الثانية، تتمثل في أن الرد العسكرى الأمريكى على تلك الهجمات داخل سوريا بدلاً من العراق - بالرغم من محدوديته – يعنى أن الرئيس الأمريكى بايدن يعمل على عدم إحراج رئيس الحكومة العراقية أمام القوى السياسية المحسوبة على إيران، والتي تعمل على تأجيج الخلافات بشأن استمرار الوجود العسكرى الأمريكى فى العراق، باعتباره انتهاكاً لسيادة الدولة، لاسيما بعد التصويت البرلمانى فى يناير 2020 على ضرورة خروج القوات الأمريكية من العراق، بما يعكس مزيداً من الدعم الأمريكى المحتمل لحكومة مصطفى الكاظمى التى تواجه العديد من الصعوبات فى الداخل العراقى، فى ضوء حالة الجدل الدائر بين القوى السياسية العراقية بشأن جدوى إجراء الانتخابات المبكرة فى أكتوبر المقبل.
هذا الدعم ربما يتيح للكاظمى فرصاً مواتية لإعادة توظيفه فى مجال بناء الشراكة الأمنية والاقتصادية بين العراق والولايات المتحدة، الأمر الذى يُمكِّن الحكومة العراقية من مواجهة حالة الإحراج الدائمة التى تحاول إيران - عبر وكلائها العراقيين من القوى السياسية والميليشيات العسكرية - وضعها فيها بما يظهرها بمظهر العاجز عن حماية مصالح الدولة، أو حماية مصالح شراكائها الاستراتيجيين.
هذه الدلالة يمكن استخلاصها بوضوح عبر البيان الصادر عن البيت الأبيض بشأن إدانة الهجمات الأخيرة على العراق، والذى يشير إلى أن تطورات الأحداث فى العراق تتطلب - وربما تفرض - من وجهة النظر الأمريكية ضرورة "دفع عجلة الحوار الاستراتيجى بين البلدين"، وتفرض أيضاً ضرورة "توسيع التعاون الثنائى فى القضايا الرئيسية الأخرى"، فى إشارة إلى ما سبق ذكره بارتباط تطورات الأحداث فى العراق بملفين مهمين: أحدهما يرتبط بالوضع فى سوريا لاسيما الناتج عن الوجود العسكرى الإيرانى بها، والآخر يرتبط بالملف النووى الإيرانى.
ردع الخصوم
الدلالة الثالثة، تنصرف إلى أن السبب المباشر لمحدودية الضربة العسكرية الأمريكية ضد الميليشيات العراقية التابعة لإيران داخل سوريا - وإن كانت قد خلَّفت خسائر بشرية- يتمثل فى رغبة إدارة الرئيس الأمريكى بايدن في إظهار الكثير من الحزم والشدة فى التعامل مع وكلاء إيران العراقيين، ومع حالة الاستهداف الدائم للمصالح الأمريكية فى العراق (مقرات البعثات الدبلوماسية - والقواعد العسكرية)، لكن فى الوقت نفسه التحسب فى توجيه الضربة من حيث النطاق والمدى والتأثير حتى لا تؤدى إلى تصعيد للمواجهات العسكرية بين واشنطن وميليشيات إيران فى سوريا، بما يدفع إيران إلى مزيد من التصعيد، فى الوقت الذى تدفعها فيه واشنطن نحو العودة إلى الاتفاق النووى، وهو ما قد يشير مستقبلاً إلى استخدام إدارة الرئيس الأمريكى بايدن القوة العسكرية ضد المصالح الإيرانية فى العراق أو سوريا من آن لآخر، كآلية ضاغطة على إيران لدفعها لطاولة التفاوض بشأن اتفاق نووى جديد.
بهذه الكيفية يمكن القول أن الهدف الرئيسى من الضربة العسكرية الأمريكية الأولى فى عهد بايدن ضد المصالح الإيرانية داخل سوريا ليس هو ردع إيران، بقدر ما هو وسيلة للدفع نحو تفعيل الآلية الدبلوماسية معها بالتفاوض، خاصة بعد أن أثبتت سياسة "الضغوط القصوى" التى تبنتها إدارة الرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامب في التعامل مع إيران أنها لم تدفع الأخيرة إلى إبداء مرونة، أو منعها عن استكمال مشروعها الإقليمى أو النووى - وإن ساهمت العقوبات فى إبطاء وتيرة نشاطها الإقليمى إلى حد ما- بل دفعتها إلى مزيد من التشدد على صعيد السياسة الخارجية.
الدلالة الرابعة، تتعلق بردود الفعل الصادرة عن القوى المؤيدة للنظام السورى - وتحديداً روسيا وإيران – والتي تشير إلى استمرار حالة "التعارض فى المصالح الإستراتيحية" ببن القوى الدولية والإقليمية المعنية بالصراع. فالإدانة الروسية للضربة العسكرية الأمريكية فى شرق سوريا على الحدود مع العراق – والتى أُبلغت بها موسكو قبل دقائق من شنها - جاءت حادة وشديدة اللهجة؛ حيث اعتبرت موسكو أن الضربة العسكرية الأمريكية - التى شكلت التعاطى الأول لإدارة الرئيس بايدن مع الوضع فى سوريا - تمثل "انتهاكاً صارخاً وغير مقبول للقانون الدولى"، بل طالبت الخارجية الروسية نظيرتها الأمريكية بتحديد "المستهدف" من هذه الضربة. هل المقصود به فصائل تابعة لتنظيم "داعش" تحاول إعادة إحياء نشاطه بعد رصد نشاطات فعلية للتنظيم فى منطقة الحدود السورية العراقية مجدداً؟، أم المقصود بها منشآت لدولة حليفة للنظام السورى (إيران) تعمل وفقاً لطلب حكومته الشرعية فى محاربة ما أسمته الخارجية الروسية بالإرهاب؟. كما أعلنت موسكو فى السياق نفسه رفضها تحويل الأراضى السورية لساحة لتصفية الحسابات الجيوسياسية، وطالبت واشنطن باحترام سيادة الدولة السورية.
وترى واشنطن فى هذا السياق أن مسرح عمليات الضربة العسكرية التى وجهتها فى الشرق السورى يقع خارج نطاق النفوذ الروسى فى سوريا، ومن ثم فإن الأمر لا يستدعى درجة عالية من التنسيق مع روسيا بشأنها وفقاً لآلية منع الاشتباك العسكرى بين مناطق نفوذ القوى الدولية الموجودة فى سوريا.
من الدلالات السابق ذكرها يتضح أن الإدارة الأمريكية الجديدة برئاسة جو بايدن لديها قناعة سياسية بضرورة حماية مصالحها الاستراتيجية فى العراق من ناحية، وإعادة صياغة أولويات استراتيجيتها العسكرية فى سوريا من ناحية ثانية، وهى فى كلتا الحالتين ترسم بدورها خطوطاً تحذيرية حمراء تفرض على غيرها من القوى الدولية أو الإقليمية، لاسيما تلك القوى المتداخلة معها فى الملفات الإقليمية ذات الاهتمام المشترك - وتحديداً إيران - ضرورة عدم تجاوزها. وفى الوقت نفسه لا تسعى للتصعيد العسكرى معها (أى إيران) عبر العراق أو سوريا، بل تستهدف دفعها للتفاوض السياسى حول مجمل سياساتها الخارجية، سواء بشأن الملف النووى أو بشأن نفوذها الإقليمى فى المنطقة.