في رسالة سياسية قوية تؤكد عزم الولايات المتحدة العمل على إنقاذ كوكب الأرض من الآثار الكارثية المدمرة للتغير المناخي العالمي، وتنفيذاً لوعد انتخابي قطعه الرئيس الأمريكي جو بايدن ولقرار تنفيذي وقعه في اليوم الأول من عهده في البيت الأبيض، عادت واشنطن رسمياً، في 19 فبراير 2021، إلى اتفاقية باريس لمواجهة التغير لمناخي، التي كان الرئيس السابق دونالد ترمب انسحب منها في ظل شعاره "أمريكا أولاً".
فعلى عكس ترمب، الذي نظر إلى جهود مكافحة التغير المناخي العالمي باعتبارها "ذريعة واهية" لـ"تدمير الصناعة الأمريكية وتقليص حجم الدخل القومي وأرباح الشركات الأمريكية"، يعتقد بايدن أن التغير المناخي يهدّد الأمن القومي الأمريكي، من زاوية ارتباط العديد من حالات غياب الاستقرار حول العالم، وفي المحيط الإقليمي للولايات المتحدة، وداخلها، بالظواهر المناخية المتطرفة كحالات الجفاف القاسية، وحرائق الغابات، والعواصف الموسمية التي تزداد تكراراً وشدة.
وينطلق قرار عودة الولايات المتحدة إلى اتفاقية باريس للمناخ، التي تعد أول اتفاقية عالمية ملزمة لمواجهة التغير المناخي، في إطار رسم خريطة طريق لما يسميه بايدن "أمريكا العائدة"، في مهمة تبدو شاقة ومعقدة للتعاون مع دول العالم الأخرى لمواجهة التحديات العالمية الملحة، والتي يقع في صدارتها "التهديدات الوجودية" للبشرية مثل أزمة التغير المناخي وجائحة "كوفيد – 19" وانتشار الأسلحة النووية لدى دول مثل كوريا الشمالية.
وقد تم التوصل إلى هذه الاتفاقية من جانب 197 طرفاً (دول ومنظمات دولية) في العاصمة الفرنسية في 12 ديسمبر 2015، وصدّق عليها 189 طرفاً، حتى كتابة هذه السطور. وكان الهدف الرئيسي منها هو السعى لئلا تزيد درجة حرارة الكوكب على درجتين مئويتين خلال هذا القرن، مقارنة بما كانت عليه قبل الثورة الصناعية، بل وأن تطمح جميع دول العالم إلى وقف هذه الزيادة عند حدود الدرجة والنصف، من خلال قيام الأطراف المشاركة بالحد من كمية الانبعاثات المتسببة في ارتفاع درجة حرارة الأرض. كما تنص هذه الاتفاقية أيضاً على وجوب مدّ الدول المتقدمة يد المساعدة للدول النامية في جهود التخفيف من انبعاثات الغازات فيها. وكان ذلك ترجمة صادقة لمبدأ "المسئولية المشتركة ولكن المتباينة"، وهو المبدأ الذي تمسكت به دائماً الدول النامية منذ أُقرّ في الاتفاقية الإطارية لتغيُّر المناخ عام 1992.
اعتباران رئيسيان
في هذا السياق، كان انسحاب الولايات المتحدة، في ظل ترامب، من اتفاقية باريس "صفعة قوية" للجهود العالمية من أجل إنقاذ الأرض من التغير المناخي لاعتبارين رئيسيين: الأول، أن هذا الانسحاب، وهو الوحيد من بين كافة دول العالم، قد يشجع كثيراً من دول العالم الغنية والفقيرة على تجاهل هذه الاتفاقية، باعتبار أن الولايات المتحدة هى أكبر اقتصاد في العالم، وثاني أكثر الدول المتسببة في إطلاق الانبعاثات المؤدية إلى ارتفاع درجة حرارة الأرض، وبالتالي لن تكون الجهود العالمية لمواجهة التغير المناخي ذات جدوى واضحة دون مشاركة واشنطن الفاعلة لخفض الانبعاثات.
والثاني، أن عدم قيام الولايات المتحدة بدفع نصيبها من الدعم المالي والفني إلى الدول النامية لمساعدتها في التعامل مع هذا التحدي سيعتبر إعلاناً صريحاً عن فشل الدول الغنية المتقدمة في الوفاء بتعهداتها البالغة 100 مليار دولار، وبالتالي انهيار إحدى الدعامات المركزية، التي تم التوافق حولها لمواجهة التغير المناخي العالمي.
تداعيات إيجابية
في ضوء ذلك، تُشِيع عودة الولايات المتحدة إلى اتفاقية باريس للمناخ نوعاً من الارتياح والتفاؤل لإنقاذ الأرض من التغير المناخي، خاصة وأن هذه العودة تأتي بعدما تعهد الرئيس بايدن بجعل قطاع الطاقة الأمريكي خالياً تماماً من التلوث بحلول عام 2035 والتحوّل إلى اقتصاد خالي تماماً من الانبعاثات بحلول عام 2050، وهو ما يمثل الخطة الأكثر طموحاً في تاريخ الولايات المتحدة لمكافحة التغير المناخي. كما تعهد الرئيس الأمريكي أيضاً بالمساهمة مع الدول الغنية في دعم الدول النامية بـ100 مليار دولار سنوياً لمساعدتها في تخفيف الانبعاثات، والتكيف مع المتغيرات التي لن يمكن وقفها. ويزداد هذا التفاؤل والارتياح بشأن إمكانية إنقاذ الأرض في ضوء إعلان بايدن عن سلسلة من الإجراءات لمواجهة التغير المناخي العالمي، الذي اعتبره قضية أمن قومي رئيسية وأولوية في السياسة الخارجية للولايات المتحدة. فمن ناحية، قام بايدن بتعيين وزير الخارجية الأسبق جون كيري مبعوثاً شخصيا له لشئون التغير المناخي وعضواً في مجلس الأمن القومي الأمريكي، في دلالة واضحة على الأهمية القصوى للسياسة الأمريكية المقبلة. كما عين بايدن أيضاً حاكمة ميتشجان السابقة جينيفر جرانولم وزيرة للطاقة، والنائبة ديب هالاند وزيرة للداخلية مسئولة عن الأراضي العامة، وبيت بوتيجيج وزيراً للنقل. وقد أثار اختيار هؤلاء المسئولين الأربعة حماسة كثير من دعاة حماية البيئة في العالم، والذين يرون أن هؤلاء المسئولين سيلعبون دوراً رئيسياً في كبح جماح أنشطة استخراج النفط والغاز ونشر استخدام السيارات الكهربائية والطاقة النظيفة داخل الولايات المتحدة وخارجها. ومن ناحية ثانية، أعلن بايدن، الذي شارك بفاعلية في التوصل إلى اتفاقية باريس للمناخ وجمع أكبر عدد من الدول للتوقيع عليها عندما كان نائباً للرئيس الأسبق باراك أوباما، عن استضافة قمة للمناخ في 22 أبريل المقبل بالتزامن مع يوم الأرض، مشيراً إلى أنه سيكلف مبعوثه للمناخ جون كيري بتقديم خطة لتعزيز جهود تقليل انبعاثات ثاني أكسيد الكربون حول العالم.
ومن ناحية ثالثة، اتخذ بايدن عدة أوامر تنفيذية تعكس تطلعاته لتقليص الانبعاثات الكربونية في الاقتصاد الأمريكي إلى الصفر بحلول عام 2050، مثل إنشاء مجلس استشاري للعلوم والتكنولوجيا لوضع الاعتبارات المناخية كعنصر أساسي في السياسية الخارجية والأمن القومي، والتوسع في تصنيع السيارات الكهربائية عديمة الانبعاثات، وتوجيه الحكومة الفيدرالية لشراء هذه السيارات التي يتم تصنيعها في الولايات المتحدة. كما طلب أيضاً إيقاف العمل في خط أنابيب النفط الكندي "كي ستون" المتوجه من ولاية البرتا الكندية عبر الولايات المتحدة إلى خليج المكسيك بطاقة 830 ألف برميل يومياً.
تحديات صعبة
مع كل ذلك، من المتوقع أن تواجه توجهات بايدن لإنقاذ الأرض من التغير المناخي عقبات داخلية وعالمية في تنفيذها. فعلى الصعيد الداخلي الأمريكي، لا تعني عودة عضوية الولايات المتحدة إلى اتفاقية باريس للمناخ، في حد ذاتها، إمكانية تنفيذ جميع التعهدات المبتغاة منها، حيث توجد الأغلبية الجمهورية في مجلس الشيوخ، والتي تستطيع أن تعطل وترفض تنفيذ العديد من هذه التوجهات. وهناك أيضاً أنصار ترمب في مجالس البلديات وفي عدد لا يستهان به من الولايات الأمريكية. وكل هؤلاء تتوافر لديهم الصلاحيات في الموافقة أو الرفض في منح الرخص لمشاريع بيئية عدة، منها منع السيارة المستعملة للبترول في مناطقهم أو القوانين البيئية التي يتوجب على المصانع ومحطات الكهرباء الالتزام بها. وبالإضافة إلى ذلك، ترتفع كثير من الأصوات المعارضة لتوجهات بايدن الرامية لمواجهة التغير المناخي، مشيرة إلى أن هذه التوجهات ستكلف الولايات المتحدة نحو 2 تريليون دولار، وبالتالي سوف تضعف قدرة الشركات الأمريكية التنافسية في عالم تحتدم فيه المنافسة مع لاعبين أقوياء، مثل الصين.
كما يشير هؤلاء أيضاً إلى أن مواجهة ظاهرة التغير المناخي تحتاج أولاً إلى تحديد علمي أكبر وأدق لدور العوامل غير الطبيعية في هذه الظاهرة، قبل الحديث عن إجراءات بشرية للحد منها. ويستندون في ذلك إلى آراء بعض الأبحاث العلمية المحافظة التي تقول إن ظاهرة الاحتباس الحراري هى ظاهرة طبيعية دورية، لا علاقة للإنسان بها. بل إن البعض من هؤلاء المعارضين ينسب هذا الإصرار "العلمي" على تحميل النشاط البشري المسئولية، لنظريات مؤامرة كونية ومحلية داخل الولايات المتحدة من أجل إضعاف الاقتصاد الأمريكي لصالح الصين، التي تعتبر أكبر مُلوِّث للبيئة في العالم. (يتجاهل هؤلاء حقيقة أن الرئيس الصيني شي جينبيج أعلن في سبتمبر 2020 أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، أن بلاده ستصل إلى صافي صفر من الانبعاثات الكربونية بحلول عام 2060).
وعالمياً، من المرجح ألا تكفي عودة الولايات المتحدة لاتفاقية باريس للمناخ، وتعهدات بايدن في مواجهة التغير المناخي، حتى بافتراض نجاحه في تحقيقها على أرض الواقع، لإنقاذ كوكب الأرض. فالتصور المسبق بأن حال التغير المناخي في العالم يمكن معالجته بنجاح وببساطة عن طريق عودة الولايات المتحدة إلى اتفاقية باريس وتنفيذ خطة بايدن المناخية الطموحة، يشكل أمراً مضللاً للغاية. ومما يدلل على ذلك ما تظهره التقارير العلمية الدولية المنشورة مؤخراً، والتي تؤكد جميعها على أن حجم العمل المبذول في خفض الانبعاثات على المستوى العالمي، أبعدُ ما يكون عن المطلوب لتجنب أسوأ الآثار المترتبة عن حالة التغير المناخي الناجم عن ارتفاع درجة حرارة الأرض.
وتشير هذه التقارير أيضاً إلى أنه إذا ما استمرت كمية الانبعاثات الحالية على حالها، فمن المتوقع أن ترتفع درجة حرارة الأرض بحوالي 3.2 درجة مئوية بحلول نهاية القرن الحالي. وبالتالي، إذا لم تتحرك جميع دول العالم إلى زيادة الطموح بشأن تحقيق أهداف مواجهة التغير المناخي في السنوات القليلة القادمة، فسوف يواجه كوكب الأرض مصيراً مجهولاً غاية في الخطورة. ولهذا السبب تحديداً، سوف تكشف قمة المناخ العالمية القادمة (كوب 26) في مدينة جلاسكو الاسكتلندية، والمقرر عقدها في نوفمبر المقبل، عما إذا كانت توجهات الإدارة الأمريكية الجديدة سوف تمثل حافزاً لباقي زعماء العالم لكى يحددوا، بأكبر قدر من التفاصيل الممكنة، التزاماتهم وخططهم الخاصة بخفض الانبعاثات المتسببة في ارتفاع درجة حرارة الأرض، وهو الأمر الذي سوف يجعل، وبحق، من عام 2021 "سنة مفصلية للعمل المناخي"، على حد وصف رئيس الحكومة البريطانية بوريس جونسون. فهل تستفيد منطقتنا العربية، والتي تعد واحدة من أكثر المناطق عُرضة لمخاطر تغيرات المناخ من هذه التطورات، خاصة وأنها تقع جغرافياً في المناطق القاحلة وشبه القاحلة، التي تتميز بندرة مصادر المياه وندرة الأمطار، والتي تشير كل الدراسات إلى أنها ستتفاقم مع تزايد التغيرات المناخية؟.
سؤال مهم سوف نحاول الإجابة عليه في مقال آخر، ولكن يجب أن ننظر إلى توجهات بايدن بشأن مواجهة التغير المناخي العالمي باعتبارها فرصة مهمة لدفع التعاون الأمريكي – العربي في المستقبل، خاصة مع تزايد الاهتمام الرسمي وغير الرسمي في كثير من الدول العربية بالتكيف مع تغيرات المناخ، لتأثيرها الخطير على قطاعات الزراعة والموارد المائية والأمن الغذائي وغيرها.