بحلول العام الجاري، يكون قد مر 25 عاماً على بدء توقيع اتفاقات الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وبلدان جنوب البحر المتوسط بشكل منفرد (Euro-Mediterranean Association Agreements EMAAs)، وهي الاتفاقات التي أصبحت منذ توقيعها الإطار الرئيسي المنظم للعلاقات التجارية بين بلدان جنوب المتوسط والاتحاد الأوروبي. وتهدف اتفاقات الشراكة هذه بالأساس لتأسيس منطقة تجارة حرة أورومتوسطية عبر إزالة الحواجز أمام التجارة والاستثمار بين الاتحاد الأوروبي والبلدان الموقِّعة، ولكنها إلى الآن تقتصر على تجارة السلع، مع وجود مفاوضات دائرة كي تشمل الاتفاقات تحرير التجارة في السلع الزراعية، بالإضافة إلى تحرير حركة الاستثمارات وتجارة الخدمات كذلك.
وقد توالى توقيع هذه الاتفاقات بين الاتحاد الأوروبي وبلدان جنوب المتوسط منذ النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي، وبدأت بتوقيع تونس في عام 1995، وكان آخرها في منتصف عام 2002، توقيع لبنان على اتفاقية الشراكة الأوروبية. وبالإضافة لتونس ولبنان، فقد وقعت على الاتفاقات مصر والجزائر والمغرب وفلسطين والأردن وإسرائيل، وذلك باستثناء ليبيا وسوريا، اللتين تم تعليق مفاوضاتهما مع الاتحاد الأوروبي. وفي أعقاب توقيع الاتفاقات، تباين توقيت دخولها حيز التنفيذ من بلد لآخر في جنوب المتوسط، فقد دخلت الاتفاقية مع فلسطين على سبيل المثال حيز التنفيذ في عام 1997، بينما تأخر ذلك في مصر والجزائر ولبنان إلى 2004، و2005، و2006 على التوالي [1].
واقع الشراكة الاقتصادية الأورومتوسطية
عبر إزالة الحواجز على تجارة السلع بصورة تدريجية بين الاتحاد الأوروبي والبلدان الشريكة جنوب المتوسط، في إطار الاتفاقات بعد دخولها حيز التنفيذ، حققت تجارة السلع بين الطرفين نمواً قوياً خلال العقد بين 2009 و2019. ففي حين بلغ إجمالي التجارة السلعية بين الاتحاد الأوروبي وبلدان جنوب المتوسط الموقعة على اتفاقات الشراكة 107.9 مليار يورو في عام 2009، ارتفع حجم التجارة إلى 164.6 مليار يورو في عام 2019، أي بزيادة تفوق الـ 50% في هذه الفترة. وقد استفادت خلال هذا العقد صادرات الاتحاد الأوروبي إلى بلدان جنوب المتوسط بصورة أكبر، مقارنة بالصادرات المتوسطية إلى الاتحاد، إذ حققت صادرات الاتحاد إلى جنوب المتوسط نمواً يفوق نمو وارداتها منه. ففي حين بلغت صادرات الاتحاد الأوروبي إلى البلدان الشريكة جنوب المتوسط 63.4 مليار يورو في عام 2009، فقد ارتفعت إلى 100 مليار تقريباً في عام 2019، وذلك بالتزامن مع زيادة وارداتها من شركائها من 44.5 مليار يورو في عام 2009، إلى 64.7 في عام 2019 [2].
وعلى الرغم من بعض التباين في هيكل التجارة السلعية مع الاتحاد الأوروبي، بين بلدان جنوب المتوسط، إلا أن ما يجمع بين أغلبها هو الاعتماد على تصدير السلع الخام، سواء الزراعية أو مصادر الطاقة، بالإضافة إلى بعض المصنوعات الغذائية والكيماوية والملابس، وهي جميعها في الغالب سلع منخفضة القيمة، تفسر إجمالي حجم الصادرات المحدود إلى الاتحاد. وعلى الجانب الآخر، تستورد بلدان جنوب المتوسط من الاتحاد سلعاً صناعية مرتفعة القيمة، أبرزها الماكينات والأجهزة ووسائل النقل، والتي تسهم في ترجيح كفة الميزان التجاري لمصلحة الاتحاد.
ويعد الاتحاد الأوروبي الشريك الأول لبلدان جنوب المتوسط في تجارة السلع، نظراً لكون التجارة السلعية معه تمثل 40% تقريباً من إجمالي التجارة السلعية الخارجية لهذه البلدان، وترتفع هذه النسبة بشكل خاص في بلدان المغرب العربي، حتى تصل إلى 60% تقريباً في تونس. وعلى الجانب الآخر، يمثل التبادل التجاري السلعي مع بلدان جنوب المتوسط مجتمعة 4% فقط من إجمالي التجارة السلعية للاتحاد، وهو ما يجعل منها سادس أكبر شريك للاتحاد الأوروبي في تجارة السلع [3].
وبالإضافة إلى التجارة السلعية، التي تشملها اتفاقات الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وبلدان جنوب المتوسط، فإن الاتحاد هو كذلك الشريك الخارجي الرئيسي لبلدان المنطقة في تجارة الخدمات. وتشكل تجارة الخدمات مع الاتحاد 26.3% تقريباً من إجمالي تجارة الخدمات لبلدان جنوب المتوسط مجتمعة، وهي النسبة التي ترتفع بدورها في بلدان المغرب العربي، خاصة في تونس، التي تصل فيها تجارة الخدمات مع الاتحاد الأوروبي إلى 65% من إجمالي تجارة الخدمات الخارجية [4]. ويأتي ذلك على الرغم من عدم شمول اتفاقات الشراكة الأورومتوسطية لبنود تحرير تجارة الخدمات، ولكن السبب الرئيسي هو كون هذا التبادل الخدمي يتمثل بالأساس في السياحة الأوروبية إلى بلدان جنوب المتوسط، والتي تصل في مصر والمغرب على سبيل المثال، إلى ثلثي إجمالي السياحة الوافدة، والتي بالفعل لا تواجه عقبات أو تحتاج إلى بنود لتحريرها، على العكس من قطاعات الخدمات الأخرى التي تصطدم بالقيود التجارية والإجرائية، كالاتصالات والخدمات المالية والنقل وغيرها [5].
وبخلاف تجارة السلع والخدمات، يعد الاتحاد الأوروبي كذلك مصدراً رئيسياً للاستثمارات الخارجية المباشرة إلى بلدان جنوب المتوسط، والتي تبلغ إجمالي استثماراته المباشرة فيها مجتمعة 106.7 مليار يورو تقريباً [6]. وعلى الرغم من ذلك، إلا أن حجم الاستثمارات المباشرة هذا يعد ضئيلاً، مقارنة باستثمارات الاتحاد الأوروبي في اقتصادات أخرى منفردة، كالمكسيك، أو البرازيل، أو سنغافورة، ناهيك عن استثماراته في الاقتصادات الكبرى كالولايات المتحدة والصين وروسيا، وذلك على الرغم من المسافة الجغرافية الكبيرة بين هذه البلدان وبين الاتحاد الأوروبي، والتي تؤثر على تكاليف النقل في سلاسل القيمة الممتدة بين الاتحاد وموطن استثمارته الخارجية.
مستقبل الشراكة عبر المتوسط
اكتسب دعم الشراكات الاقتصادية بين بلدان جنوب المتوسط، والاتحاد الأوروبي، أهمية إضافية خلال السنوات الأخيرة، على خلفية عدد من التطورات التي قد تنتج تحولاً في اتجاهات التجارة والتكامل الاقتصادي العالمي، وتدفع صوب تعزيز الشراكات الإقليمية في المستقبل القريب. فمنذ الأزمة المالية العالمية في عام 2008، ثم النزاعات التجارية الدولية في الأعوام الأخيرة، وأخيراً أزمة كوفيد 19، بدأ تراجع التكامل الاقتصادي العالمي من خلال تباطؤ حركة التجارة العالمية، والاستثمارات العابرة للحدود، وحركة رؤوس الأموال، وسلاسل التوريد المعولمة الممتدة بين بلدان وقارات عديدة. ويأتي ذلك بسبب بروز مخاطر وهشاشة نمو وتشعب سلاسل التوريد العالمية، والاعتماد المتزايد على الأسواق البعيدة. ونتيجة لذلك، ولتجنب التداعيات الاقتصادية السلبية لتراجع العولمة الاقتصادية، فقد يبدأ التكامل الإقليمي في الصعود، كبديل أقل خطورة عن التكامل العالمي، من خلال تعزيز التبادل وحركة السلع والأفراد ورؤوس الأموال ضمن سلاسل توريد قصيرة وقريبة، وظروف مشابهة تقلل من مخاطر الصدمات الخارجية على الاقتصادات الفردية داخل الإقليم.
وبالتالي، فقد تصبح الشراكة الاقتصادية الأورومتوسطية أكثر جاذبية في المستقبل القريب للجانبين، على حساب التكامل الاقتصادي مع شركاء بعيدين، في آسيا أو أمريكا اللاتينية على وجه الخصوص. وقد يتم ذلك من خلال منح الأولوية للجوار المتوسطي كمقر لاستثمارات إنتاجية أوروبية، بدلاً من اقتصادات نائية أخرى، كما قد يشمل ذلك تعزيز الاعتماد المتبادل على أسواق الطرفين في تلبية الاحتياجات الداخلية، وتحفيز الإنتاج المحلي، بالإضافة إلى تشجيع حركة السياحة عبر المتوسط كبديل للسياحة العالمية التي من المُتوقع ألا تتعافى بالكامل من أزمة كوفيد 19 قبل عامين ونصف إلى أربعة أعوام، والتي حتى مع تعافيها فقد تشهد تغيرات في الإقبال على مقاصد وبلدان بعينها، قد تصنف كعالية المخاطر[7].
وبالفعل، تدور مفاوضات بين الاتحاد الأوروبي والبلدان الشريكة جنوب المتوسط، لنقل الشراكة الاقتصادية إلى مرحلة جديدة، من خلال المزيد من الانفتاح في تجارة السلع الزراعية، بالإضافة إلى تحرير تجارة الخدمات وحركة الاستثمارات. كما تجري أيضاً مفاوضات خلال الأعوام الأخيرة لانضمام المغرب وتونس إلى مناطق تجارة حرة عميقة وشاملة (Deep and Comprehensive Free Trade Areas DCFTAs) مع الاتحاد الأوروبي، مماثلة لتلك التي تضم بلدان شرق أوروبا غير الأعضاء في الاتحاد، وتشمل هذه المناطق المقترحة البنود التقليدية لتحرير التجارة في معظم السلع والخدمات وكذلك حركة الاستثمارات، بالإضافة إلى بنود تنظم التعاقدات الحكومية، والمنافسة، والقيود الفنية على التجارة، وحقوق الملكية الفكرية، والتجارة الالكترونية، والتنمية المستدامة، والطاقة، وغيرها من البنود التي تهدف إلى دمج هذه الاقتصادات في السوق الأوروبي الداخلي، بما يتعدى تأسيس سوق حرة مشتركة [8]. وكانت مصر والأردن كذلك قد بدأت في مفاوضات مشابهة مع الاتحاد الأوروبي قبل سنوات للانضمام إلى هذه المناطق المقترحة، ولكنها تعثرت ولم تُستكمل بسبب خلافات على بعض البنود، ولكن مصر أبدت مؤخراً اهتمامها المتجدد بتعزيز علاقات التجارة والاستثمار مع الاتحاد الأوروبي من خلال تطوير وتحديث اتفاقيتها المشتركة معه، والتوصل لآلية مناسبة لتعزيز الشراكة بين الجانبين خارج إطار مناطق التجارة الحرة والعميقة والشاملة [9].
وبخلاف ذلك، فمن المُتوقع أيضاً أن تلعب الشراكة الأوروبية مع بلدان شمال أفريقيا، دوراً نشطاً في المستقبل القريب، كجسر إلى بلدان أفريقيا جنوب الصحراء، في إطار الاستراتيجية الأوروبية الشاملة مع أفريقيا، والتي أطلقها الاتحاد الأوروبي في عام 2020 لتحقيق الشراكة مع أفريقيا في عدد من المجالات، تشمل الاقتصاد الأخضر والطاقة، والتحول الرقمي، والنمو المستدام وفرص العمل. وتكتسب هذه الشراكات الاقتصادية مع بلدان جنوب المتوسط وأفريقيا جنوب الصحراء، أهمية خاصة لدى الاتحاد الأوروبي، نظراً لأنه يعدها أداة لمكافحة الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا، والتي تمثل أولوية داخلية للأحزاب السياسية في القارة، تؤثر بشكل قوي، خاصة في الأعوام الأخيرة، على موازين القوى بين التيارات المختلفة داخل البلدان الأوروبية منفردة، أو الاتحاد الأوروبي ككيان مؤسسي.
آفاق واسعة
على الرغم من كون الاتحاد الأوروبي هو بالفعل الشريك الاقتصادي الأبرز لبلدان جنوب البحر المتوسط، إلا أن آفاق التكامل الاقتصادي بين الجانبين ما تزال واسعة، خاصة إذا ما قورنت بالتكامل الأوروبي مع شركائه الآخرين الأبعد جغرافياً، في آسيا، أو أمريكا اللاتينية، أو الشمالية. ويعزز تراجع العولمة الاقتصادية في السنوات الأخيرة، خاصة مع أزمة كوفيد 19، من جاذبية التحول نحو المزيد من التكامل الاقتصادي الإقليمي لخدمة الطرفين، وهو ما تضيف إليه أيضاً المساعي الأوروبية لتحجيم الهجرة من الجنوب إليها، عبر تحسين الأوضاع الاقتصادية والأمنية، سواء جنوب البحر المتوسط مباشرة، أو في أفريقيا جنوب الصحراء.
ولتحقيق الاستفادة من النمو المحتمل للتكامل مع الشريك الأوروبي، أياً كانت دوافعه، وتجنب أضرار انفتاح القطاعات المحلية أمام المنافسة الأوروبية، فسيتعين على بلدان جنوب البحر المتوسط أن تتبنى إصلاحات وسياسات داخلية، تهدف إلى تعزيز القطاعات الإنتاجية المحلية لتمكينها من المنافسة في بيئة التجارة المفتوحة. وسينبغي أيضاً اختيار آليات الانفتاح التدريجي مع الاتحاد الأوروبي بما يخدم اقتصاداتها المحلية بالأساس، ويوفر الحماية للقطاعات الهشة، كالزراعة، التي تحظى بالحماية والدعم الحكوميين في أغلب بلدان العالم، وفي مقدمتها الاتحاد الأوروبي ذاته. كما سيتعين على بلدان جنوب المتوسط أيضاً أن تتمسك بحقوقها في المعاملة التفضيلية مع الاتحاد بوصفها اقتصادات نامية، يحق لها فرض حماية أكبر على بعض قطاعاتها من الاقتصادات المتقدمة، كما هو الحال في إطار منظمة التجارة العالمية.
وفي حال حققت بلدان جنوب المتوسط معالجة لبعض أبرز سلبيات اقتصاداتها، حيث تعد هذه السلبيات السبب الرئيسى فى ضعف الاستثمارات الأوروبية إليها، مقارنة باقتصادات أخرى نائية، وفي مقدمتها حالة بيئة الأعمال، والفساد، وغياب الشفافية في دور الدولة التنظيمي، فسيكون بمقدورها أن تستغل النزعة المحتملة للتكامل الإقليمي، من خلال أفضليتها التنافسية في وفرة العمالة البشرية وتكلفتها المحدودة، وموقعها الجغرافي، لجذب سلاسل القيمة الأوروبية المتشعبة عالمياً إلى الجوار المتوسطي، بما يعزز القطاعات الصناعية في اقتصاداتها، ويحد من المخاطر وعدم اليقين للشركات الأوروبية، ويحقق المنفعة المتبادلة للجانبين عبر المتوسط.
[5]- جُمعت وحُسبت من بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في مصر، وبيانات وزارة السياحة في المغرب.
[8]- Van Der Loo, G. (2016), “Mapping out the Scope and Contents of the DCFTAs with Tunisia and Morocco”, Center for European Policy Studies.