أخفقت اللجنة العسكرية الليبية (5+5)، بالتعاون مع البعثة الأممية للدعم في ليبيا،في إنجاز استحقاقات اتفاق وقف إطلاق النار المنصوص عليها فى الاتفاق خلال المدة الزمنية المقررة بثلاثة أشهر انتهت في 23 يناير 2021، وأقر أعضاء فى اللجنة بأن هناك حاجة لتمديدها بهدف الحفاظ على المكتسب الرئيسي وهو تثبيت عملية وقف إطلاق النار، وعدم العودة إلى التصعيد المسلح بهدف تهيئة الأجواء للعملية السياسية الشاملة. لكن الواقع العملي والميداني يكشف أن حجم التحديات التي تواجهها اللجنة العسكرية المشتركة تتجاوز قدرتها على إنجاز هذه الاستحقاقات في ضوء تشابك المسار العسكري مع المسارين الآخرين (السياسي – الاقتصادي)، بالإضافة إلى انعكاسات تصارع القوى الداخلية والخارجية المنخرطة في ملف الأزمة خلال المرحلة الحالية التي تشهد عملية رسم خريطة طريق لمرحلة انتقالية جديدة "أخيرة" في البلاد.
وفى المقابل، من المتصور أنه على الرغم من وجود تلك التحديات، إلا أنه يمكن تجاوز الإخفاق الحالي في بعض الملفات، لكن تجاوزهالا يعني فى الوقت ذاته حل الأزمة بشكل مستدام، فالإشكالية الحقيقية لا تتعلق بإنجاز استحقاقات وقف إطلاق النار، لأنها في المحصلة الأخيرة تعبير عن اتفاق تسوية يعالج آثار الدورة الانتقالية الحالية التي توشك على نهايتها في حال نجاح الحوار الشامل، دون معالجة الاختلالات البنيوية والهيكلية التي تعاني منها الدولة الليبية ومؤسساتها، مع الوضع في الاعتبار أن اللجنة العسكرية المشتركة هى آلية المسار العسكري المنبثقة عن مؤتمر برلين (يناير 2020) الذي وضع استراتيجية لتسوية الملف الأمني والعسكري في إطار وحدة الدولة المركزية في ليبيا، وليس حصراً على ترتيبات وقف إطلاق النار.
وتتمثل المقاربة الأساسية التي تتناولها هذه الورقة في أن محصلة المسار العسكري الذي اعتمدته البعثة الأممية لن تقود إلى معالجة المعضلات العسكرية والأمنية الرئيسية على الساحة الليبية في ضوء الاتفاقيات والتفاعلات الراهنة على المسرح الليبي والانعكاسات المستقبلية للإجراءات والترتيبات العسكرية في ظل المعادلات القائمة، بل على العكس من ذلك تشكل الأطروحات الحالية للتسوية مقدمة عملية لمشروع دولة "فيدرالية" هشة مركزياً، في ظل اعتماد مسار التسوية الشامل صيغة "المحاصصة الإقليمية" كمحدد في توزيع السلطة والثروة فى البلاد، وهى صيغة ليست مناسبة لتسوية معضلة الملف العسكري والأمني في ليبيا، وذلك في محاولة للإجابة عن تساؤل رئيسي يتمثل في إذا ما كانت ستقود هذه المسارات إلى عملية "التأسيس الثاني" لجيش وطني ليبي بعد عِقد من الصراع والانقسام، أم ستبقي على ما هو قائم وبالتالي يستمر الوضع الليبي هشاً وقابلاً لإعادة انتاج دورات تالية من الفوضى على الساحة الليبية؟.
إشكاليات عديدة
تواصل اللجنة العسكرية (5+5) أعمالها، على الرغم من تجاوز السقف الزمني لتنفيذ الاستحقاقات الرئيسية التي يتضمنها اتفاق وقف إطلاق النار الموقع في 23 أكتوبر 2020، والتي نص عليها فى 12 بنداً [1]، يمكن تقسيمها الي ثلاث حزم رئيسية: الأولى، تتعلق بإقرار وقف إطلاق النار بين القوى المتصارعة، وإزالة آثاره والحيلولة دون استئناف التصعيد المسلح من خلال ترتيبات أمنية مشتركة. والثانية، تتمثل في نزع أدوات التصعيد المسلح من خلال برنامج الإصلاح الأمني للفصائل المسلحة، مع إنهاء أدوار القوى الخارجية فى دعم أطراف التصعيد ووقف تدفق المرتزقة الأجانب. والثالثة، تنصرف إلى الترتيبات اللوجستية المتعلقة بتهيئة الأجواء لاستقرار العملية السياسية للعبور من المرحلة الانتقالية إلى مرحلة الاستقرار السياسي.
وعلى التوازي، تواصل الأطراف المنخرطة فى الأزمة الليبية خرقها للاتفاق، فلا يزال وضع الانتشار العسكري على خطوط التماس هشاً وقابلاً للاشتعال فى أي وقت، خاصة فى ظل بقاء الميليشيات المسلحة المحلية والمرتزقة الأجانب على وضعهم مع تعزيز قدراتهم العسكرية، كما لا تزال حكومة الوفاق أحد أطراف الاتفاق مستمرة فى توقيع المزيد من الاتفاقيات الأمنية والعسكرية مع الأطراف الخارجية التي تسعى بدورها إلى تغيير معادلات موازين القوى فى ليبيا من خلال تأسيس قوة عسكرية موازية للجيش الوطني، ومن ثم الإبقاء على معادلات الصراع التي ستجعل من أي تسوية سياسية هشة باستمرار مهما كانت هناك درجة من التوافق عليها.
إن تحليل هذا التطورات كجزء من سياق المشهد الليبي بشكل عام يعيد تسليط الضوء على الاتفاق الأمني الخاص بوقف إطلاق النار، ومواقف الأطراف منه في ضوء ما تحقق من نتائج بعد ثلاثة أشهر من توقيعه. اذ يمكن القول إن الاتفاق الذي انعقدت عليه الآمال في وقف إطلاق النار، وطى صفحة التصعيد المسلح بين الفرقاء الليبيين، وتقويض مساعي القوى الخارجية لتغيير معادلة موازين القوى بعد معركة طرابلس، وإعادة ترتيب الأوضاع الأمنية بهدف تهيئة الأجواء لإطلاق عملية التسوية السياسية الشاملة وفق مخرجات اتفاق برلين، يحمل في طياته عوامل الخلل ذاتها، بالإضافة إلى سلوك الأطراف في تنفيذه، باعتماد سياسة انتقائية فى تطبيق بعض بنوده والتحايل على بعضها الآخر، فى إطار حسابات المصالح الخاصة التي ترتهن على العملية السياسية، ومساعي كل طرف لتوظيف هذا الملف، وهو ما يمكن تناوله في إطار عدد من الاشكاليات على النحو التالي.
الازدواجية العسكرية: إشكالية هيكلية
جاء الاتفاق في مرحلة ما بعد معركة طرابلس ليقر حالة توازن القوى التي تشكلت في ضوء نتائج هذه المعركة التي أفضت إلى وجود قوتين عسكريتين تتقاسمان المسرح الليبي بين شرق البلاد وغربها، حيث اعترف الاتفاق بوجود "جيشين" في ليبيا وليس جيشاً واحداً، ومًن الصحيح أن بنود الاتفاق لم تتضمن هذه الصيغة إلا أنها وردت عند توقيع الأطراف عليه ما بين (ممثلي الجيش الوطني الليبي- القيادة العامة) و(ممثلي الجيش الليبي التابع لحكومة الوفاق الوطني)، وهو ما يرسخ الازدواجية العسكرية، ومأسسة الانقسام العسكري الحالي، وبالتالي قفز الاتفاق على مسألة جوهرية وهي ملف توحيد المؤسسة العسكرية، على اعتبار أن هذا الملف هو أحد مرجعيات التسوية الرئيسية المعتمدة لمسار الحوار الشامل، والتي أسس لها اتفاق برلين في البند 36 (نحن نؤيد إنشاء قوات أمن وشرطة وقوات عسكرية ليبية موحدة تحت سلطة مدنية مركزية، بناءً على محادثات القاهرة، والوثائق الصادرة فيها). واللافت في هذا السياق أن اتفاق وقف إطلاق النار أكد في ديباجته على أن اتفاق برلين يشكل مرجعية له [2].
وحدد اتفاق برلين محادثات القاهرة (2016 – 2018) كقاعدة مرجعية أيضاً في عملية توحيد المؤسسة العسكرية والمؤسسات الأمنية، وتتمحور محادثات القاهرة التي انطلقت في أعقاب اتفاق الصخيرات (المُنشِئ لحكومة الوفاق الوطني- ديسمبر 2015) حول عملية إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية، والتي تتضمن (الاتفاق على الإبقاء على تعيين المشير خليفة حفتر كقائد عام للجيش لمدة أربعة سنوات يمكن أن يضاف لها عام آخر، مع حظر التشكيلات الموازية للجيش وضوابط التجنيد، وضوابط صياغة القوانين وقرارات عمل المؤسسة العسكرية وتضمن المقترح إنشاء مجلس للأمن القومي بقيادة سياسية، ومجلس للدفاع الوطني بقيادة سياسية عسكرية، ومجلس للقيادة العامة بقيادة عسكرية، وحدد المقترح مكونات هذه المجالس ومهامها)، كما أعلنت القاهرة في فبراير2017[3]، وجرى التوافق على قاعدة أساسية هى "التأكيد على أن مسار توحيد المؤسسة العسكرية سيكون بمثابة النواة الصلبة لدفع المسار السياسي إلى الأمام"، والتشديد على أنه "لا مكان داخل المؤسسة العسكرية الليبية لأية توجهات سياسية أو عقائدية أو استقطاب".
ورغم التوفقات التي أعلنها الطرفان )الجيش الوطني الليبي، ورئاسة أركان الوفاق) إلا أنهما لم يوقعا على مخرجاته النهائية دون توضيح لأية أسباب لاحقة. لكن نقاط الخلاف بين الطرفين كانت واضحة، فالملفات الإجرائية كان من السهولة بمكان التوافق حولها، حتى أعقدها مثل عملية تشكيل الحرس الرئاسي وتبعيته، لكن المعضلة الحقيقية ظهرت عندما طالب فايز السراج رئيس حكومة الوفاق بتوضيح وضع السلطة المدنية المتمثلة في القائد الأعلى للجيش وصلاحياته، وهو ما اعتبره الطرف الآخر احتجاجاً على مقترح الاتفاق الذي أعده العسكريون ومطالبة صريحة بصلاحيات أوسع، لاسيما وأن السراج طالب بالاستمرار في عملية توحيد المؤسسات لاسيما السيادية وعدم فصلها عن الحل السياسي الشامل [4]. وبالتالي ظلت العقبة الحقيقية هي الصراع على السلطة وصلاحياتها.
وقد تعمق هذا الصراع مع اندلاع معركة طرابلس (أبريل 2019) التي كانت تجسيداً لانتكاس مسار الصخيرات وفشل التوافق على توحيد المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية في المقام الأول، وهي النتائج التي قادت إلى باقي التداعيات التي فرضتها المعركة، خاصة تشكل مراكز القوى السياسية وموازين القوى العسكرية الجديدة، ما بين الشرق والغرب الليبي، والتي أصبحت المتحكم فى القرار السياسي والاقتصادي بحسب خرائط السيطرة والنفوذ خاصة على المورد الرئيسي للثروة فى ليبيا وهو منابع النفط، التي سيطر عليها الجيش الوطني الليبي في شرق البلاد، وقام بإغلاقها تحت مبرر أنه لا يمكن تدفق النفط الذي يقوم على تأمين منابعه بينما توجه عوائده إلى حكومة الوفاق لكى تستثمرها في شراء الأسلحة وتمويل المليشيات وفصائل المرتزقة. المتغير الآخر يتعلق بأدوار القوى الخارجية خلال فترة معركة طرابلس وما تلاها حتى انطلاق مرحلة التسوية، حيث تنامى مستوى انخراط القوى الخارجية في مرحلة ما بعد التسوية.
إن غياب الإشارة إلى توحيد المؤسسة العسكرية في نص اتفاق وقف إطلاق النار، أو عدم تشكيل آلية لإنجاز هذا الملف ضمن مهام اللجنة العسكرية المشتركة، يعكس اتجاه البعثة الأممية إلى التعامل مع هذا المسار بشكل مختلف عن باقي المسارات التي وضعت لها حلولاً انتقالية شاملة. فالمسار السياسي يتضمن تشكيل سلطة تنفيذية تدير المرحلة الانتقالية، كذلك الملف الخاص بتوزيع المناصب السيادية، وأيضاً المسار الاقتصادي الذي يتضمن توحيد المصرف والبنك المركزي. وفى المقابل، سيرتب هذا الوضع لحالة الازدواجية العسكرية وليس مجرد الإبقاء على حالة الانقسام. فحتى يونيو 2020 عندما توقفت العمليات العسكرية الرئيسية ميدانياً أي قبل ثلاثة أشهر من توقيع اتفاق وقف إطلاق النار، كان يمكن التمييز بين (الجيش الوطني الليبي- القيادة العامة) والفصائل المسلحة التابعة للوفاق، فقد شكل إعلان مصر عن "الخط الأحمر" (سرت- الجفرة) في ذلك الوقت نقطة البداية العملية لإنهاء المعركة، وعلى الرغم من أنها وضعت الخط لتحديد مساحة التدخل الدفاعي عن حيز أمنها القومي في العمق الليبي، إلا أن القرار انطوى على تحذير شديد اللهجة بأن القاهرة لن تسمح بأى تجاوز لهذا الخط.
وخلال تلك الفترة سعت الوفاق إلى إعادة ترتيب المنظومة العسكرية الخاصة بها تحت مسمى "جيش"، كما عينت وزيراً للدفاع ورئيساً للأركان العامة وأطلقت برامج تدريب واسعة فى الأفرع والتشكيلات العسكرية الخاصة بها. واللافت في هذا السياق أن المبعوثة الأممية بالإنابة ستيفاني ويليامز أفادت في آخر إحاطة لها أمام مجلس الأمن [5] بأن الواقع أفضى إلى تشكل كيانين عسكريين وهو ما سيعقد عمل اللجنة العسكرية، حيث أشارت إلى أن المجلس الرئاسي أنشأ في منتصف يناير (2021) هيكلاً أمنياً جديداً آخر تحت سيطرته، يتألف من مجموعات مسلحة بارزة وقيادتها، مما قد يضع عقبات أمام الجهود التي تقودها اللجنة العسكرية المشتركة لتكريس احتكار الدولة للأمن، حيث أن تعدد الأجهزة الأمنية تحت قيادة الجماعات المسلحة، في ظل تداخل المسئوليات، وعدم وضوح خطوط القيادة والسيطرة واستمرار التمويل من الموارد العامة، يزيد من تآكل الهيكل الأمني للدولة ويُقوِّض إصلاحات قطاع الأمن في المستقبل.
الطابع اللوجستي للجنة العسكرية المشتركة
وردت المهام المخولة للجنة فى هذا الاتفاق تحديداً فى أربعة بنود رئيسية نصت على:
1- البند الثالث: (تشكيل قوة عسكرية محدودة العدد من العسكريين النظاميين تحت غرفة يتم تشكيلها من قبل اللجنة العسكرية المشتركة 5+5 تعمل كقوة تساهم فى الحد من الخروقات المتوقع حدوثها على أن يتم توفير الموارد اللازمة لتشغيلها من كافة الأطراف والجهات).
2- البند الرابع: ( تبدأ فوراً عملية حصر وتصنيف المجموعات والكيانات المسلحة وبجميع مسمياتها على كامل التراب الليبي سواء التي تم ضمها للدولة أو التي لم يتم ضمها ومن ثم إعداد موقف عنها من حيث قيادتها وعدد أفرادها وتسليحها، وأماكن تواجدها وتفكيكها ووضع آلية وشروط دمج أفرادها بشكل فردي إلى مؤسسات الدولة ممن تنطبق عليهم الشروط والمواصفات المطلوبة لكل مؤسسة بحسب الحاجة الفعلية لتلك المؤسسات أو إيجاد فرص وحلول لمن لا تنطبق عليهم الشروط أو لمن لا يرغب بهذا الدمج، من خلال لجنة فرعية مشتركة بدعم ومشاركة البعثة).
3- البند السادس: (اتفقت اللجنة على فتح الطرق والمعابر البرية والجوية على كامل التراب الليبي على أن يتم اتخاذ الإجراءات المعالجة بفتح وتأمين الطرق التالية: الطريق الساحلي بنغازي – سرت – مصراته – طرابلس، وطريق مصراته- أبو قرين- الجفرة- سبها- غات، وطريق غريان- الشويرف- سبها- مرزق، وتشكل مخرجات اجتماع الغردقة 28 و29 سبتمبر 2020 مرجعية هذه العملية).
4- البند السابع: (اتفقت اللجنة العسكرية المشتركة على تكليف آمر حرس المنشآت النفطية فى المنطقة الغربية وآمر حرس المنشآت النفطية فى المنطقة الشرقية ومندوب من المؤسسة الوطنية للنفط بالتواصل وتقديم مقترح حول إعادة هيكلة وتنظيم جهاز حرس المنشآت النفطية بما يكفل استمرار تدفق النفط وعدم العبث به ورفع المقترح إلى اللجنة العسكرية المشتركة).
وتكشف هذه البنود عن أن مهام اللجنة تنحصر في عمليات لوجستية كمراقبة عملية وقف إطلاق النار، وهي ليست عملية حصرية أيضاً للجنة، حيث طرحت الأمم المتحدة إرسال بعثة مراقبة أممية لمراقبة عملية وقف إطلاق النار، كذلك تتولى اللجنة ترتيبات عمليات فتح الطرق، وملف المرتزقة، وعملية إعادة تشكيل حرس المنشآت النفطية، والملف الخاص بإعادة هيكلة الميليشيات والفصائل المسلحة دون تحديد الجهات، حيث كان مصطلح المؤسسات غامضاً، ويمكن تفسيره على أن كل طرف من الأطراف الموقعة على الاتفاق مخاطب به وبالتالي يتولى إدماج الميليشيات الموالية له، أو يتعامل مع قوات المرتزقة التي استعان بها، وهو ما يعيد التأكيد على فكرة الازدواجية.
لكن التطبيق العملي خلال الأشهر الثلاثة الأولى التي أقر الاتفاق أن تتم الإجراءات فى هذه الملفات بشكل متوازٍ ومتزامن فيها، لم يفض إلى أى نتائج واقعية، حيث انتهى إلى ما يلي:
1- تم تأسيس مقر للجنة العسكرية المشتركة (5+5) فى سرت، وعلى الرغم من طموح الإدماج وتوحيد العمل والملفات الذي أعلنت عنه المبعوثة الأممية إلى ليبيا بالإنابة ستيفاني ويليامز والتي أطلقت عليها لجنة العشرة [6]، إلا أن دورها لم يكن فعلياً تعبيراً حقيقياً عن هذا السياق، وهو ما كشفت عنه مؤشرات عديدة لعل أبرزها عدم التوافق على تمديد أو تجديد المهلة الزمنية الخاصة بتنفيذ الترتيبات والإجراءات فى كل الملفات، فهناك من اعتبر أن التمديد ضرورة لفترة تالية بنفس المدة (3 أشهر)، وهناك من رفع السقف بشكل عام دون تحديد إطار زمني، وهناك من رفض التمديد بالأساس مثل اللواء فرج الصوصاع عضو اللجنة عن فريق القيادة العامة.
2- فيما يتعلق بالبند الثالث الخاص بتشكيل فريق المراقبة، لم يتم إنجاز هذا الملف، وطغى عليه ملف آخر يتعلق بالقوة الأمنية التي سيتم نشرها فى المنطقة الوسطى والتي تحولت إلى ما يشبه المنطقة العازلة بين الطرفين، واقترح أن يتم تشكيل قوام هذه القوات من كيانات أمنية تابعة لوزارة الداخلية، بحدود ألفى عنصر، وتراجع هذا الطرح مع تراجع مشروع تحويل سرت إلى عاصمة انتقالية للحكومة خلال المرحلة الانتقالية التي تقدر بـ18 شهراً كجدول لإتمام استحقاقات المرحلة التمهيدية وفق المصطلح الذي تستخدمه البعثة [7]، وبالتالي ظلت الأوضاع الخاصة بعملية الانتشار الأمني خلال الأشهر الثلاثة الأولى قائمة على حالها بحيث توقفت القوات والفصائل المسلحة عند مواقع الانتشار التي كانت عليها لحظة إعلان وقف إطلاق النار، وتحديداً على جانبى "الخط الأحمر" الذي حددته القاهرة "سرت – الجفرة".
3- أما فيما يتصل بملف الميليشيات وفقاً للبند الرابع، لم يشر إليها الاتفاق وفق هذا المسمى وإنما تحت مسمى "المجموعات والكيانات المسلحة". ومن الناحية النظرية، يتوافق مع البند (12) من اتفاق برلين، وربما بشكل أكثر تفصيلاً، فيما يتعلق بإجراءات التسريح وإعادة الإدماج DDR-SSR، حيث نصت وثيقة برلين في هذا السياق على: (ندعو إلى عملية شاملة لتسريح ونزع سلاح الجماعات والميليشيات المسلحة في ليبيا وإدماج الأفراد المناسبين في مؤسسات الدولة المدنية والأمنية والعسكرية، على أساس فردي وعلى أساس تعداد أفراد الجماعات المسلحة والمهنيين. وندعو الأمم المتحدة إلى مساعدة هذه العملية)، وهو ما يشير من الناحية الشكلية إلى انتقائية البعثة للملفات التي طرحت في إطار برلين. لكن الأهم من ذلك هو أن اللجنة العسكرية على مدار الأشهر الثلاثة الأولى لعملها لم تحرز أي إنجاز في هذا السياق، وفي المقابل طرحت العديد من برامج الهيكلة الأمنية والعسكرية فى إطار خاص بحكومة الوفاق بغض النظر عن العلاقة مع اللجنة ودورها أو التنسيق مع البعثة ودون اعتماد المعايير الفنية المطلوبة أو المقررة، وفى إطار حالة التنافس السياسي والاستقطاب داخل الوفاق.
4- فيما يتعلق بالبند السادس الذي يوكل إلى اللجنة فتح الطرق المغلقة: الساحلي، والساحلي الوسطي، والوسطي الجنوبي باتجاه الغرب، تم اختزال هذا السياق فى الطريق الساحلي "بنغازي- سرت"، ولم يتم إنجاز فتح هذا الطريق، ووضعت العراقيل أمام فتحه، وتتلخص فى أن حكومة الوفاق ترى أن هناك استحقاقات لفتح الطريق تتعلق بإبعاد قوات "فاغنر" الروسية عن المسار الساحلي، والمنطقة الوسطى، وفى المقابل تطالب القيادة العامة باستحقاق مقابل يتعلق بإبعاد مجموعات المرتزقة عن الخط نفسه، وبالتالي فدور اللجنة حصراً يتعلق بتقديم المقترحات الخاصة بالترتيبات الأمنية بعد عملية الإخلاء، وليس عملية الإخلاء فى حد ذاتها التي تتقاطع مع أطراف الاتفاق المحليين وحلفائهم الخارجيين. وبالإضافة إلى ذلك تقوم الميليشيات التي تتولى السيطرة على الطريق بقطعه بدعوى أنها لم تحصل على رواتبها، وهى رسالة مفادها أن اللجنة يمكن أن تقدم المقترح وتتم الموافقة عليه لكنها لا تمتلك الأدوات التنفيذية الفعلية لذلك.
5- ولم يحرز أى تقدم في البند السابع الخاص بملف إعادة تنظيم جهاز حرس المنشآت النفطية أيضاً، حيث تصادمت الآراء داخل اللجنة، باقتراح مشروع تطوير قدمه رئيس اللجنة الوطنية للنفط مصطفى صنع الله حول التركيز على أدوات الرقابة من طائرات الدرونز والرادارات الأرضية وأجهزة الرصد والإنذار المبكر دون طرح صيغة إعادة الهيكلة على المستوى الأمني. وفى المقابل يتلخص طرح القيادة العامة فى أن تتم عملية توحيد إداري ومالي فقط، وهو ما اعتبرته الوفاق محاولة من القيادة العامة للإبقاء على هيكل حرس المنشآت من القوة التابعة لها فقط، وهو الاتهام الذي ردت عليه القيادة العامة بأن هناك أولوية لعملية توحيد المؤسسة العسكرية، وبناءً عليه فالقوات الموجودة تمثل الجيش الذي يفترض أن يتم العمل على توحيده فقط وأحالت ذلك إلى نص "اتفاق برلين" وليس نص "اتفاق وقف إطلاق النار".
وفى ضوء إخفاق اللجنة فى تنفيذ المهام الموكلة إليها، فعلى الأرجح ستتجه الأطراف إلى تمديد عملها، وهو ما سيصطدم بمتغيرات ثلاثة رئيسية:
الأول، تعيين مبعوث أممي جديد إلى ليبيا (يان كوبتش)، الذي تسلم مهامه في 1 فبراير 2021 قبيل الانعقاد التالي للجنة العسكرية المشتركة بعد انتهاء المهلة الأولى، وعلى الأرجح سيطرح هندسة جديدة للمسارات الثلاثة أو خطة عمل جديدة لتلك المسارات.
الثاني، الترحيل الزمني الذي قد يواكبه أحد سيناريوهين: أولهما، رهن حدوث أي اختراق فى عمل اللجنة العسكرية المشتركة حتي يتم تشكيل الحكومة. وثانيهما، الفشل فى عملية تشكيل الحكومة، وهو ما قد يقود إلى السيناريو الأسوأ وهو العودة إلى الصدام المسلح مرة أخرى.
الثالث، متغير موازين القوى، فقد استغلت حكومة الوفاق الوطني المرحلة السابقة فى تعزيز موازين القوى العسكرية والأمنية كمنافس للقيادة العامة، متجاوزة اتفاق وقف إطلاق النار، واتفاق برلين.
المنطقة الوسطى "العازلة"
بدأت إرهاصات الحديث عن تشكيل منطقة منزوعة السلاح في محيط سرت وحتى الجفرة في 5 أغسطس 2020 بدعوة مستشار مجلس الأمن القومي الأمريكي السابق روبرت أوبراين جميع الأطراف المسئولة إلى تمكين مؤسسة النفط الموالية لحكومة الوفاق من استئناف عملها الحيوي بشفافية كاملة، وتنفيذ حل منزوع السلاح في سرت والجفرة، واحترام حظر الأسلحة الذي تفرضه الأمم المتحدة [8]. وأوضح أوبراين الهدف من إنشاء تلك المنطقة وحددها صراحة "منطقة منزوعة السلاح"، ثم تحولت تلك الدعوة إلى توصية قدمتها المبعوثة الأممية إلى ليبيا بالإنابة ستيفاني ويليامز في أول إحاطة بعد اتفاق وقف إطلاق النار (2 سبتمبر 2020) [9]، تضمنت إقامة منطقة منزوعة السلاح حول سرت وتأسيس آلية دولية ليبية مشتركة لوقف إطلاق النار، لكن هذا الطرح قدم بصيغة سياسية أخرى ضمن توصيات "مونترو" (9 سبتمبر 2020) تمثلت في مبادرة رئيس البرلمان عقيلة صالح بتحويل سرت إلى عاصمة انتقالية خلال المرحلة الانتقالية على اعتبار أن عمل الحكومة من طرابلس سيضعها تحت سيطرة الميليشيات، والتخلص من حالة الاستقطاب القائمة بين طبرق وطرابلس.
لكن على الأرجح، اعتمدت اللجنة العسكرية على صيغة الطرح الأممي بالأساس، وبناءً عليه تضمنت المناقشات ترتيبات المنطقة الوسطى كمنطقة منزوعة السلاح، وبحسب المناقشات التي جرت داخل اللجنة العسكرية، فإن حدود المنطقة المنزوعة السلاح هى منطقة بن جواد شرقاً حتى بوقرين غرباً إلى بوابة سوكنة جنوباً، لتتواجد فيها القوة الأمنية المشتركة، بالإضافة إلى قوة عسكرية مشتركة من الطرفين يقتصر دورها على دعم القوة الأمنية في حال تعرضها لأي هجوم [10]، كما اقترح الأمين العام للأمم المتحدة انطونيو غوتيريش تشكيل لجنة مراقبة دولية لدعم وقف إطلاق النار في تلك المنطقة [11].
ويعد نشر القوة العسكرية المشتركة في هذا المثلث إضافة إلى نشر قوات دولية تكريساً لفكرة الفصل بين القوتين العسكريتين من خلال بناء المنطقة العازلة التي ستباعد خطوط انتشار القوتين في المنطقة الوسطى، وعلى الرغم من أنها تؤكد على إبعاد الطرفين عن خطوط التماس الرئيسية للحيلولة دون اندلاع التصعيد العسكري مرة أخرى، إلا أنها لم تعالج باقي خطوط التماس باتجاه الجنوب من سوكنه وحتى غات في أقصى الجنوب الغربي. فعلى سبيل المثال، اندلعت مواجهة سريعة في سبها [12]– المنطقة العسكرية الجنوبية – حيث تنتشر قوات للطرفين على جانبيها، ويتبادل الطرفان الاتهامات بالتحشيد العسكري، وهو ما أشارت إليه ستيفاني ويليامز في إفادتها الأخيرة [13] أمام مجلس الأمن بقولها: "إنني أشعر بالقلق من استمرار التحصينات والمواقع الدفاعية التي أنشأها الجيش الوطني الليبيداخل قاعدة القرضابيه الجوية في سرت وعلى طول محور سرت الجفرة في وسط ليبيا".
الوجود العسكري الأجنبي وإعادة بناء موازين قوى جديدة
خلال الحرب على طرابلس، وقفت روسيا وتركيا على طرفى نقيض في دعم أطراف الصراع، حيث دعمت روسيا الجيش الوطني الليبي، بينما دعمت أنقرة ميليشيات وفصائل الوفاق كما دعمت إنشاء "جيش" تابع للوفاق في المرحلة التي تلت المعركة. وعلى الرغم من أن روسيا تتنصل من هذه العلاقة بشكل رسمي حيث يشار إلى أن مجموعة "فاغنر" تمارس هذا الدور كوكيل روسي، وتبرر هذه العلاقة بأن موسكو غالباً ما عارضت التدخل العسكري الخارجي في ليبيا لإسقاط نظام العقيد معمر القذافي لاسيما تدخل حلف شمال الأطلنطي"الناتو" [14]،إلا أن هذا الوجود العسكري الأجنبي في ليبيا ليس حكراً على هاتين القوتين الرئيسيتين، فقد أشارت ستيفاني ويليامزإلى وجود 10 قواعد عسكرية أجنبية في ليبيا إما كلياً أو جزئياً [15].
وكان ينظر إلى مصر على أنها داعم رئيسي للجيش الوطني الليبي، لكن في الواقع وعلى العكس من ذلك رعت مصر التي شاركت في مؤتمر برلين اتفاق وقف إطلاق النار في إطار إعلان القاهرة، الذي جمعت فيه بين قائد الجيش الوطني ورئيس مجلس النواب، وأعلن عن اقتراح معايير وقف إطلاق النار والعودة إلى الحوار والتزام الأطراف الخارجية بإخراج مرتزقتها من ليبيا، وهو ما يقدم تصوراً شاملاً ومفصلاً لكيفية التقدم في هذا الحوار وما هى التسويات التي يفترض الوصول إليها [16].
وفي 18 يونيو 2020، قام وزير الخارجية التركي مولود تشاويش أوغلو بزيارة إلى طرابلس تباحث خلالها مع مسئولي حكومة الوفاق الوطني حول خطط الاستخدام العسكري التركي المستقبلي للمنشآت الليبية [17].وفي 20 يونيو من العام نفسه، قام الرئيس عبد الفتاح السيسي بزيارة قاعدة سيدي براني الجوية في غرب مصر، وطلب من القوات الجوية والقوات الخاصة المجتمعتين "الاستعداد لتنفيذ أي مهمة هنا داخل حدودنا - أو خارج حدودنا إذا لزم الأمر"، وأضاف: "أي تدخل مباشر من قبل مصر له الآن شرعية دولية، سواء بموجب ميثاق الأمم المتحدة للدفاع عن النفس أو حسب تقدير السلطة الشرعية الوحيدة المنتخبة من الشعب الليبي: مجلس النواب الليبي". ووضع الرئيس السيسي حداً للصراع بين الطرفين، فيما عرف بـ"الخط الأحمر" [18]، قائلاً: "إذا كان يعتقد البعض أنه يستطيع تجاوز الخط سرت الجفرة، هذا بالنسبة لنا خط أحمر"، وأكدت هذه الاستراتيجية من الجانب المصري أن القاهرة ليس لها وجود عسكري في العمق الليبي من جهة، لكنها قادرة على التدخل، فقد كان العرض العسكري الذي شهده الرئيس السيسي رسالة واضحة بأن القاهرة قادرة على الدفاع عن هذا الخط، وأنها تدعم التسوية السياسية لإنهاء هذا الوضع من جهة أخرى، وبالتالي تطابقت مواقف القاهرة المدرجة في إعلان القاهرة وبين تحركاتها على عكس مواقف باقي الأطراف، التي بدت أكثر ازدواجية بين الحديث عن إنهاء التدخلات الخارجية ومواصلة التعزيزات العسكرية.
لا تتوقف التعقيدات عند مجرد التجاذبات السياسية بين الطرفين، إذ تكشف العديد من التقديرات الأمريكية والروسية عن خلاف حاد حول مواقف الطرفين من التفاعلات السياسية والأمنية في ليبيا لاعتبارات جيوسياسية تتعلق بالوجود الروسي في ليبيا الذي اعتبرته واشنطن يشكل ضغطاً على ما يسمى بـ"الخاصرة الجنوبية" للناتو، ولهذا اعتبرت قيادة "أفريكوم" أيضاً أن الوجود الروسي يفرض تحديات لعمليات مكافحة الإرهاب الأمريكية، وفي مايو ويونيو 2020 نشرت "أفريكوم" صوراً تظهر طائرات روسية الأصل تعمل في ليبيا وحولها، وأفادت أن روسيا "تواصل الضغط من أجل موطئ قدم استراتيجي على الجناح الجنوبي لحلف الناتو وهذا على حساب أرواح الليبيين الأبرياء" [19].
وفي يناير 2020 نشرت تقارير أمريكية صوراً لأقمار صناعية لخندق ضخم يمتد عشرات الكيلومترات جنوباً من المناطق الساحلية المأهولة بالسكان حول سرت باتجاه معقل الجفرة الخاضع لسيطرة جماعة "فاغنر"، وتدعمه سلسلة من التحصينات المعقدة [20].
واللافت في هذا السياق أن الولايات المتحدة لم تنتقد الوجود التركي في ليبيا على نحو ما انتقدت الوجود الروسي رغم صعوبة المقارنة بينهما، بل على العكس من ذلك برر السفير الأمريكي لدى ليبيا ريتشارد نورلاند الوجود التركي بقوله: "عندما تتحدث عن تركيا علينا أن نتذكر أن التصعيد الحقيقي في هذا الصراع بدأ بتدخل قوات فاغنر من روسيا في أكتوبر، وكان التدخل التركي رداً على ذلك" [21] وذلك على الرغم من أن التقديرات الأمريكية – وفقاً لحديث نورلاند - تؤكد أن تركيا تسعى بالفعل إلى احتلال قواعد عسكرية في ليبيا والتوسع في البنية العسكرية هناك، ففي أعقاب مؤتمر برلين بخمسة أيام فقط اتجهت تركيا إلى توريد أسلحة إلى ليبيا، كانت تصل بالأساس إلى الميليشيات، لكن منذ مارس 2020 ومع سيطرة أنقرة على العديد من القواعد في المنطقة الغربية "الوطية – معيتيقه - مصراته"أخذت في إعادة تأهيل هذه القواعد بشكل مستقل عن حكومة الوفاق، وتشير تقارير ليبية مستقلة إلى أن هناك 174 طائرة شحن تركية وصلت إلى غرب ليبيا حتى نهاية ديسمبر 2020، منها 40 طائرة شحن بعد قرار وقف إطلاق النار.
وبحسب تقارير المراقبة الدولية مثل "ايتاميل رادار" الإيطالي، وتقارير محلية ليبية، فإن إمدادات التسلح التركي إلى ليبيا تنوعت بين معدات تقليدية استخدمتها الفصائل خلال معركة طرابلس، وبين معدات ثقيلة ونوعية شحنتها بعد ذلك عندما سيطرت على العديد من القواعد العسكرية في المنطقة الغربية، مثل منظومة هوك ""MIM-23B HAWK ومنظومتى رادار كلكان ثلاثي الأبعاد ""Aselsan KALKAN-II، بالإضافة إلى معدات اتصال أخرى.ومن المتصور أن المعدات التقليدية التي شحنتها للفصائل خلال معركة طرابلس كانت مجرد آليات للانتشار مثل عربات كيبري "BMC Kipri، التي كانت تساعدها على الانتشار فقط، لكن على الأرجح كانت الدرونز التركية "بيرقدار TB2" هي السلاح الرئيسي الذي اعتمدت عليه في استهداف تقدم قوات الجيش الليبي نحو طرابلس، وقدر المبعوث الأممي السابق إلى ليبيا غسان سلامة تلك الهجمات بنحو 1000 غارة تقريباً للدرونز ووصفها بأنها أكبر معركة للطائرات من دون طيار في العالم [22]، على الرغم من إسقاط العديد منها. وفى المقابل كانت دفاعات "فاغنز" الروسية مثل "بانتسير S-1" في محيط سرت، وتمكنت من اعتراض الدرونز التركية، وهو ما أدى إلى توقف الميليشيات تقريباً عند منطقة بيرات حسون (80 كلم – سرت) وهي مساحة التغطية الجوية الممكنة تقريباً.
وعلى الرغم من المعركة الكلامية بين روسيا وتركيا، فقد أبدت الأولى اعتراضاً على نقل الأخيرة مجموعات المرتزقة من سوريا إلى ليبيا والتي تدعم الوفاق، دون الإشارة إلى القواعد العسكرية، وفى المقابل أيضاً انتقدت أنقرة وجود مجموعات "فاغنر" التي تدعم الجيش الوطني [23]، لكن هذه الانتقادات لم تدم طويلاً، فسريعاً ما بدأت روسيا وتركيا مناقشات حول ترتيبات مشتركة فرضت تحديات بدورها على اللجنة المشتركة "5+5" وفقاً لما ورد في إفادة ستيفاني ويليامز.
لكن على الجانب الآخر، يبدو أن هناك متغيراً في الموقف الأمريكي، مع أول تناول لإدارة جو بايدن للملف الليبي، فقد قال القائم بأعمال المندوب الأمريكي لدى الأمم المتحدة ريتشارد ميلز في اجتماع لمجلس الأمن الدولي حول ليبيا [24]:"تماشياً مع اتفاق وقف إطلاق النار، نطلب من تركيا وروسيا أن تبدآ فوراً سحب قواتهما من البلاد وسحب المرتزقة الأجانب والوكلاء العسكريين اللذين قامتا بتجنيدهم ونشرهم وتمويلهم في ليبيا".
مستقبل القوى العسكرية الليبية
من المتصور أن التكتيكات التي يتبعها الطرفان في المرحلة الحالية على الأرض، بالتوازي مع إخفاق اللجنة العسكرية المشتركة في التوصل إلى خطة متماسكة لتثبيت عملية وقف إطلاق النار وترتيبات الأمن، تعكس مدى هشاشة الوضع العسكري في ليبيا، وإمكانية العودة إلى التصعيد المسلح مرة أخرى. فالبتزامن مع الترتيبات الخاص بانعقاد أول جولة بعد انتهاء المهلة التي حددها قرار وقف إطلاق النار، أعلن الجيش الوطني الليبي في 28 يناير 2021 عن قيام اللواء 73 مُشاة التابع له بتجهيز دباباته فنياً وقتالياً تنفيذاً لأوامر القائد العام خليفة حفتر، مشيراً إلى أن ذلك يتم بالتوازي مع استمراره في إقامة الدورات التنشيطية لأطقم الدبابات، وفي إطار تجهيزات اللواء لرفع كفاءة جنوده.وفى إشارة إلى تركيا، لفت قائد عسكري إلى وجود "القوات المستعمرة، ومن يساندهم من خونة وعملاء ومرتزقة" في غرب ليبيا. كما أعلن الجيش عن فتح باب التجنيد باللواء 106 مجحفل بجميع التخصصات العسكرية. وفي المقابل، قال العميد الهادي دراة، الناطق باسم غرفة عمليات سرت الجفرة التابعة لحكومة الوفاق، أن "قواتها على استعداد كامل للقتال"، وتوقع قيام قوات الجيش الوطني بالهجوم في أي لحظة، وأضاف دراة أن "الحرب ما زالت قائمة حتى هذه اللحظة"، موضحاً أن "قوات الوفاق التي تتوقع حدوث الأسوأ تأخذ الحيطة والحذر" [25]. ولا يختلف هذا الخطاب على الجانبين عن خطابهما قبيل اندلاع معركة طرابلس.
كذلك، يمكن الإشارة إلى وجود العديد من الاختلالات الهيكلية والبنيوية ومنها على سبيل المثال:
1- الطابع الهجين للقوات المسلحة: على الرغم من وجود كيانات شبه مؤسسية (دفاع – داخلية) تابعة لحكومة الوفاق، لكن الفوارق القائمة لا تعكس وجود معايير واضحة يمكن من خلالها التمييز بين ما إذا كانت قوة شرطية أو عسكرية، ففي إطار التجاذبات والاستقطابات بين مراكز القوى داخل الوفاق حالياً على خلفية التنافس السياسي في ظل عملية تشكيل السلطة التنفيذية في إطار ملتقى الحوار، وتحديداً بين فايز السراج رئيس حكومة الوفاق وفتحي باشاغا وزير الداخلية، وبين الأخير والقيادات العسكرية في المكون التابع للوفاق، فقد أصدر السراج في 20 ديسمبر 2020 قراراً بإعادة تنظيم جهاز قوة الردع الخاصة بقيادة عبد الرؤوف كاره، تكون تبعيته للرئاسي مباشرة، على أن تكون له ذمة مالية مستقلة، بعيداً عن وزارة الداخلية التي يترأسها باشاغا، وهو القرار الذي رحبت به قوة حماية طرابلس [26]،وهي قوة عسكرية مشكلة من عدة فصائل مسلحة (تم تشكيلها عام 2018) تتبع وزارة دفاع الوفاق حالياً، وبالتالي أصبحت قوة الردع تميل إلى التوصيف العسكري، على الرغم من أن القرار المُنشِئ لها يحدد لها مهاماً أمنية تتعلق بضبط الأمن العام وعمليات مكافحة الجريمة. وفي السياق ذاته، أعلن وزير الداخلية بشكل منفرد عن عملية "صيد الأفاعي" لمواجهة التنظيمات المتطرفة ودخل في نزاع حول تلك المهمة مع دفاع الوفاق التي أبدت تحفظاتها على هذا العملية باعتبارها من اختصاصاتها.
2- تحالفات القوى الرديفة: على الرغم من أفضلية حالة تنظيم الجيش الوطني الليبي مقارنة بالوفاق، لكن لم يتخل عن حلفاء غير نظاميين من كتائب "السلفية المدخلية" [27]، باعتبارها تمثل النقيض لحلفاء خصومه فى تكوين الوفاق (الإخوان) وأيضاً القوى السلفية الجهادية مثل "أنصار الشريعة"، بالإضافة إلى تحالفات قبلية في إقليم فزان في الجنوب، وإن لم تعادل قوة الإطار التنظيمي في الشرق، لكنه في الأخير تمكن من فرض النظام بقدر كبير عن المرحلة السابقة لإطلاق الجيش حملة سريعة إلى الجنوب في يناير 2019، إلا أن العلاقة مع عرقية "التبو" ظلت متوترة في إطار التناقض القائم مع القبائل العربية [28]، من جهة، ورفض الجيش الوطني لعلاقة "التبو" مع تشاد من جهة أخرى، فلطالما انتقد الجيش هذه العلاقة، على عكس العلاقة مع "المقارحة" القبيلة الأكثر انتشاراً في الجنوب، على اعتبار أنها التي كانت تشكل قاعدة إسناد للنظام السابق. كذلك لم يختلف الأمر كثيراً في سبها التي تشكل قبيلة أولاد سليمان القوة الرئيسية فيها وهى الأخرى على تناقض مع "التبو".
3- هيكل قيادي محدود التأهيل: يعكس مستوى كفاءة وتأهيل القادة العسكريين في الجانبين بعداً آخر من أبعاد التحديات المؤسسية لبناء قوة عسكرية نظامية، ففي حالة الوفاق، على سبيل المثال، وعلى الرغم من إعادة تشكيل هيكل القيادة، إلا أنه ضم قيادات مليشياوية، أو عناصر نظامية لم تكمل ترقيها في السلك العسكري، فقد تم تعيين صلاح المنقوش- وكيل وزير الدفاع الذي كان مسئولاً عن مشتريات الوزارة- وزيراً للدفاع، كذلك أصبح رئيس أركان الوفاق محمد على أحمد الحداد- وهو عسكري لكنه لم يواصل الترقي العسكري بشكل نظامي- قائد أحد ألوية الميليشيات "لواء الحلبوص" الذي شُكل سنة 2011.وتحول أسامه جويلي- الذي كان مدرساً- إلى قائد ميليشيا في الزنتان ثم آمر منطقة وعضو رئاسة أركان.
في النهاية، لا يزال ملف توحيد المؤسسة العسكرية خارج حسابات أطراف الصراع في ليبيا، إن لم تكن هناك استحالة في تناول هذا الملف في ظل حسابات أطراف الصراع ومعطيات موازين القوى على الأرض التي تخيم عليها احتمالات الصدام أكثر من احتمالات التوافق على ترتيبات استمرار هدنة وقف إطلاق النار. وقد زاد من هذه الإشكاليات الهندسة المعقدة للمسار العسكري الليبي الذي اتبعته البعثة الأممية في ليبيا. لكن على الرغم من هذه التحديات، يظل هذا المسار فرصة أخيرة قد لا تتكرر قبل أن يذهب الطرفان إلى حرب مدمرة. ويمكن القول إن تمرير عملية سياسية شكلية لتأسيس سلطة تنفيذية انتقالية خلال المرحلة المقبلة عبر المسار السياسي الشامل هو أمر وارد لكنها لن تكون مرحلة انتقالية سلسلة في ظل الأجواء الأمنية المشحونة بالاستقطابات والتجاذبات، وبالتالي ستكون عبارة عن طبعة جديدة للدورات الانتقالية السابقة.
[6]- خالد محمود، في ليبيا... الحلول المؤقتة تدوم أحياناً "المسار العسكري يتخلى عن تعقيدات الحوار النخبوي"، الشرق الأوسط، 23 يناير 2021 .
[7]- خالد محمود، اقتراح سرت مقراً لسلطة ليبية جديدة إلى حين إجراء انتخابات نيابية، الشرق الأوسط، 12 أغسطس 2020.
[10]- الحبيب الأسود، نحو تطبيق كامل لاتفا جنيف في ليبيا، العرب، 17 يناير 2020. على الرابط التالي:
https://alarab.co.uk/خمسة-زائد-خمسة-نحو-تطبيق-كامل-لاتفاق-جنيف-في-ليبيا
[11]- https://www.france24.com/ar/الأخبارالمستمرة/20201230-غوتيريش-يدعو-إلى-تشكيل-لجنة-لمراقبة-وقف-إطلاق-النار-في-ليبيا
[14]- Gökhan Tekir, Russian-Turkish Involvement In The Civil War In Libya, Ankara: Middle East Technical University, June 2020.
[16]- كميل الطويل، مسار الحل الليبي: ما الفرق بين "إعلان القاهرة" و"مخرجات برلين"؟، الشرق الأوسط، 13 يونيو 2020.
[17]- وزير الخارجية التركي يكشف تفاصيل زيارته إلى ليبيا، على الرابط التالي:
https://arabic.sputniknews.com/world/202006181045750434-وزير-الخارجية-التركي-يكشف-تفاصيل-زيارته-إلى-ليبيا/
[20] https://arabic.cnn.com/middle-east/article/2021/01/22/libya-trench-map
[22] -Dylan Nicholson, Foreign Drones Turning The Tide In Libya, Report , ( DEFENCE CONTACT , 04 JUNE 2020) . https://www.defenceconnect.com.au/strike-air-combat/6218-foreign-drones-turning-the-tide-in-libya
[25]- خالد محمود، "الوطني الليبي" يجهز قواته قتالياً... و"الوفاق" تؤكد استعدادها للحرب، الشرق الأوسط، 30 يناير 2021 .
[26]- خالد محمود، السراج ينزع "الردع" عن باشاغا في طرابلس، الشرق الأوسط، 21 ديسمبر 2020.
[27]- أحمد صلاح علي، حفتر والسلفية… اللعبة الخطرة، واشنطن: مركز رفيق الحريري للشرق الأوسط، 6 يونيو 2017.
[28]- Jonathan Tossell, Libya’s Haftar And The Fezzan One Year On, Policy Brief, Netherlands, Clingendael Institute For International Relation, January 2020.