حسين سليمان

باحث اقتصادي - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

قدّمت الإصلاحات الاقتصادية التي طبقتها مصر منذ عام 2016، في إطار البرنامج المُنفذ بالتعاون مع صندوق النقد الدولي، فرصة بارزة لتحفيز الصناعة المحلية، عبر معالجة اختلالات كلية كانت تُقوِّض من الإنتاج المحلي لصالح الواردات. وفي مقدمة هذه الإصلاحات، جاء تحرير سعر صرف العملات الأجنبية، والذي أدى إلى تراجع قيمة الجنيه المصري أمام العملات الأجنبية، بما خفَّض من سعر المنتجات المحلية، مقارنة بالأجنبية، وعزز من تنافسيتها في السوق المحلية والأسواق الخارجية.

لكن رغم ذلك، ما زالت الصناعة المحلية تواجه العديد من العقبات التي ترتبط ببيئة الأعمال، والتكامل مع الأسواق العالمية، وسلاسل القيمة المحلية، والسوق الداخلية، وغيرها. وبالتالي، يستدعي ذلك تدخلاً أكبر من الدولة يتخطى الإصلاحات الاقتصادية المطبقة إلى وضع سياسات صناعية تحفيزية شاملة، وقطاعية، وإصلاحات في بيئة الأعمال. وضمن قطاعات التصنيع المحلية الأكثر احتياجاً لهذا الدور التحفيزي الفاعل للدولة، تأتي صناعة السيارات ووسائل النقل المحلية، والتي وإن كانت ما تزال محدودة الحجم والإنتاجية، إلا أن آفاق نموها قد تكون واسعة، وقد تمثل نواة لتصنيع محلي نشط في الأعوام المقبلة. 

سوق وصناعة السيارات في مصر

تُعد سوق السيارات المصرية صغيرة الحجم، مقارنة بعدد السكان، ويصل إجمالي مبيعات السيارات سنوياً فيها إلى ما يقارب الـ200 ألف سيارة فقط [1]. ويبلغ عدد السيارات في مصر 45 لكل 1000 مواطن، وهو من الأدنى في الشرق الأوسط، ويصل في تونس، على سبيل المثال، إلى 125 سيارة لكل 1000 مواطن، وفي تركيا 144، وفي الأردن  165[2]. ومن أسباب ذلك المعدل المنخفض في مصر، الكثافة السكانية المرتفعة من خلال تركز السكان في حيز جغرافي ضيق نسبياً، وهو ما يعكسه التكدس المروري في المدن المصرية الكبرى، على الرغم من العدد المتواضع للسيارات كنسبة للسكان. وبالتالي، يجعل هذا التركز من الممكن لأغلب السكان التنقل باستخدام وسائل النقل الجماعي التي تغطي الجزء الأكبر من تنقلهم، بغض النظر عن جودتها، وبدون الحاجة إلى امتلاك سيارات. ويضاف إلى ذلك بطبيعة الحال، القوة الشرائية الضعيفة في السوق المحلية، والتي تقلل من الطلب على السيارات الخاصة، بوصفها سلعة مكلفة.

ولخدمة هذه السوق المحدودة، يعمل عدد من الشركات في نشاط تصنيع السيارات محلياً، أو التجميع لمزيد من الدقة، نظراً لكونها تكتفي باستيراد المكونات من الخارج، بالإضافة إلى بعض المكونات المصنعة محلياً، وتجميعها، بدون إسهام كبير في القيمة المضافة، وبنسبة مكون محلي تصل إلى 17% فقط من الناتج النهائي [3]. وتستحوذ شركات التجميع المحلي هذه على نصف مبيعات السيارات سنوياً تقريباً، أى بإنتاج إجمالي يقارب 100 ألف سيارة سنوياً، على الرغم من أن سعتها الإنتاجية مجتمعة تصل إلى 350 ألف سيارة [4]، وهو ما يعني أنها تنتج بثلث طاقتها فقط بسبب ضعف الطلب المحلي، في حين تستحوذ السيارات المستوردة بالكامل على النصف الآخر من حصة المبيعات.

وبالإضافة لذلك، تعمل 500 شركة أخرى في صناعة مكونات وأجزاء للسيارات لخدمة شركات التجميع المحلية من ناحية، والتصدير المباشر من ناحية أخرى. وبدورها، تكتفي هذه الشركات المغذية بصناعة مكونات غير معقدة، في مقدمتها أنابيب العوادم، ووحدات مبردات الهواء، والمقاعد، والزجاج، والبطاريات، وبعض المكونات البلاستيكية المستخدمة في التجهيزات الداخلية للسيارات [5].

وكما تمت الإشارة، تركز الشركات المُصنِّعة – أو المُجمِّعة – للسيارات ووسائل النقل ومكوناتها محلياً، على خدمة السوق المحلية الصغيرة بصورة شبه كاملة، بدون السعى للتصدير للأسواق الخارجية، وهو ما يتضح من بيانات التجارة الخارجية. ففي العام المالي 2019/2020، بلغ إجمالي صادرات المركبات ووسائل النقل 108.4 مليون دولاراً فقط، في حين وصلت وارداتها إلى 2.9 مليار دولاراً، كما بلغت صادرات المكونات وقطع الغيار 243.4 مليون دولاراً فقط، والواردات 1.6 مليار دولاراً. أى أن إجمالي العجز التجاري، في المركبات ووسائل النقل ومكوناتها وقطع غيارها قد وصل إلى 4.2 مليار دولاراً، وهو العجز الذي تزايد سنوياً خلال أعوام الإصلاح الاقتصادي [6].

سياسات تحفيزية

من الضروري في جهود صياغة سياسات تحفيزية لصناعة السيارات المحلية، إدراك أن سوق السيارات المحلية لن تكون المستهدف الأساسي سواء حالياً أو في المستقبل، ولن ينمو الطلب فيها – أو لا ينبغي أن ينمو - إلى الدرجة التي تستوعب صناعة تستفيد من وفورات الحجم (economies of scale)، أى الإنتاج بكميات كبيرة بغرض استغلال التقنيات الحديثة وخفض التكلفة وتعزيز التنافسية. فحتى مع فرض زيادة القوة الشرائية مستقبلاً، سيظل الجزء الأكبر من السكان متركزين بكثافة عالية في مساحة جغرافية ضيقة، خاصة مع استمرار النمو السكاني، وحتى مع التمدد العمراني في المدن الجديدة، وبالتالي سيظل الخيار الاقتصادي الأمثل، الذي يجب أن تشجعه الدولة، من زاوية استيعاب البنية التحتية للمدن وشبكات الطرق، والتكدس المروري، هو وسائل النقل الجماعي وليست السيارات الخاصة، التي تصلح أكثر كخيار اقتصادي للدول التي يتوزع فيها السكان بكثافة محدودة على مساحات جغرافية واسعة، تجعل من التغطية الشاملة لوسائل النقل الجماعي خياراً مكلفاً وغير مجدٍ، كما هو الحال في الولايات المتحدة على سبيل المثال.

وبالتالي، يجب أن تستهدف السياسات التحفيزية التصنيع بغرض التصدير منذ البداية، وذلك على عكس الخطة الحكومية المُعلنة، التي تستهدف تصنيع 500 ألف سيارة سنوياً بحلول عام 2022، تُصدر منها 100 ألف فقط، بينما توجه الـ400 ألف المتبقية للسوق المحلية [7]، وهو ما يفترض استيعاب الطلب المحلي وشبكة الطرق لهذه الأعداد الإضافية من السيارات بحلول العام المقبل، وهى فرضية غير واقعية قد تهدد نجاح الاستراتيجية التي ستصطدم بركود الإنتاج. وكانت استراتيجية التصنيع بغرض التصدير هى الاستراتيجية التي انتهجتها دول شرق آسيا خلال طفرتها التصنيعية قبل عقود، للاستفادة من حجم وتنوع السوق العالمية الرحبة في تسويق إنتاجها، خاصة مع ضعف القوة الشرائية لمواطنيها في بداية نموها، وبالتالي محدودية السوق المحلية بها آنذاك [8]. وحالياً، تتبع المغرب كذلك استراتيجية شبيهة في صناعة السيارات ووسائل النقل بها، فهى تصدر 80% تقريباً من إجمالي إنتاجها إلى الخارج [9]، على الرغم من عدم تشبع سوق السيارات المحلية بها، والتي تقترب فيها نسبة السيارات إلى السكان من المعدل المصري، بـ50 سيارة لكل 1000 مواطن.

ولتشجيع الإنتاج بغرض التصدير، سيتعين على الدولة تطبيق المزيد من الإصلاحات المتعلقة بإزالة الحواجز غير الجمركية أمام المصدرين، في صورة إجراءات بيروقراطية وبطء في المعاملات وغيرها، كما قد تسهم في تأسيس كيانات لتصدير والترويج للمنتجات المحلية من القطاع، سواء وسائل النقل أو الأجزاء وقطع الغيار، لتيسير وصول صغار المنتجين إلى الأسواق العالمية، وتخفيض كلفة التصدير التي تواجههم. ويتوازى ذلك مع أهمية تقديم حوافز إضافية للشركات التي تٌصدِّر نسباً مرتفعة من إجمالي إنتاجها، في صورة إعفاءات ضريبية، وتمويل منخفض التكلفة، وتحمل جزء من تكلفة تدريب العمالة بها، وتخصيص نسب لها في التعاقدات الحكومية، وغيرها من الحوافز، خاصة المقدمة إلى الشركات الناشئة في القطاع.

ومن الضروري أيضاً لتحفيز صناعة سيارات ومكونات وقطع غيار محلية، خاصة في قطاع حالي تهيمن عليه الشركات الخاصة في مصر، الحرص على تعزيز المنافسة الداخلية بين أكبر عدد من الشركات، القائمة والجديدة، وهو ما يجبر الشركات على التطوير والابتكار وتخفيض التكاليف وزيادة الجودة والإنتاجية، ويؤهلها للصمود في السوق العالمية. يعني ذلك تجنب إغلاق السوق على شركات قليلة لحمايتها من المنافسة الخارجية والمحلية، بما يُقوِّض من تنافسيتها، ويؤدي في النهاية إلى انهيارها هى ذاتها، كما كان حال عدد كبير من الصناعات في الدول النامية حول العالم، ومنها مصر، ضمن سياسات الإحلال محل الواردات.

وبالإضافة لذلك، فهنالك المزيد من السياسات الصناعية الشاملة الضروري تطبيقها لتحفيز الصناعة المحلية بمختلف قطاعاتها، بما فيها السيارات ومكوناتها. وتشمل هذه السياسات تشجيع الشراكات بين الاستثمار الأجنبي والشركات محلية، من خلال تقديم حوافز لهذا النوع من المؤسسات المشتركة، بغرض نقل التقنيات الحديثة والمعرفة إلى المُصنعين المحليين وتوطينها. وكذلك، سيتعين على الدولة أيضاً زيادة مخصصات الإنفاق العام على التعليم والبحث والتطوير والتدريب، لرفع كفاءة ومهارات سوق العمل في مستوياته المختلفة، سواء من العمالة الفنية، أو التخصصات العلمية المعقدة اللازمة للمراحل المختلفة من الابتكار والتصنيع، وذلك للاستفادة من تكلفة العمالة التنافسية الزهيدة في مصر، والتي تقل عنها في أوروبا بـ12 ضعفاً تقريباً [10].

خاتمة

يُعد اهتمام الدولة بصياغة استراتيجية لصناعة السيارات خطوة في الاتجاه الصحيح، نظراً لحاجة قطاع التصنيع إلى سياسات عامة توجهه وتحفزه، وتعزز ربحيته للمستثمرين، وتشجعهم على الاتجاه إليه عوضاً عن قطاعات أخرى أكثر ربحية لهم، ولكن أقل أهمية للاقتصاد في مجمله. وعلى الرغم من ذلك، تثير الخطط المعلنة بعض التساؤلات عن مدى نجاحها في تحقيق أهدافها الطموحة في الأطر الزمنية المرصودة، وهى تساؤلات ترتبط بالاعتماد على الطلب المحلي كمُحرِّك للطفرة في صناعة السيارات، والاعتماد كذلك على شركات حكومية، أو شركة حكومية واحدة في واقع الأمر، كركيزة لهذه الخطط، بما يعيد للأذهان سياسات الإحلال محل الواردات غير الناجحة، مقارنة بسياسات التصنيع للتصدير.

ولكن نظراً لكون تلك الخطط ما تزال في مراحلها الأولي، فما تزال الفرصة سانحة للانتباه لهذه الإشكاليات والسعى لتعديل محاورها بما يتناسب مع وضع السوق المحلية والعالمية، وهيكل المنافسة. وكذلك، فمن الضروري ألا تقتصر استراتيجية الدولة على صناعة السيارات أو على قطاعات بعينها فقط، بل أن تصوغ سياسة شاملة للتصنيع المحلي بمختلف قطاعاته، تضع التصدير وتشجيع القطاع الخاص والمنافسة في القلب منها، أملاً في تحقيق النقلة الضرورية للاقتصاد المصري من الاعتماد على الأنشطة الريعية منخفضة الإنتاجية، إلى الإنتاجية المرتفعة التي تُميز التصنيع، والتي تُعد السبيل الأساسي نحو زيادة دخل الفرد وتحقيق التنمية.     


[1] Lynx (2019), “Taking Egypt’s Automotive Industry to The Next Level”, Industry Notes.

[3] Lynx, Op. Cit.

[4] World Bank & IFC (2020), “Creating Markets in Egypt: Realizing the Full Potential of Productive Private Sector”, Country Private Sector Diagnostic.

[5] Ibid.

[6] البنك المركزي المصري (2020)، "النشرة الإحصائية الشهرية – أكتوبر 2020".

[7] World Bank & IFC, Op. Cit.

[8] Cherif R., & Hasanov, F. (2019), “The Return of the Policy That Shall Not Be Named: Principles of Industrial Policy”, International Monetary Fund, IMF Working Paper, WP/19/74.

[9] المندوبية السامية للتخطيط بالمملكة المغربية (2019)، "النشرة الإحصائية السنوية للمغرب.".

[10] World Bank & IFC, Op. Cit.