د. أحمد قنديل

رئيس وحدة العلاقات الدولية ورئيس برنامج دراسات الطاقة - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيحية

أصبحت لقاحات فيروس "كوفيد- 19" حديث الساعة في معظم دول العالم، حيث يأمل الكثيرون أن يحصل 70 في المائة من سكان العالم على واحد من هذه اللقاحات التي تم طرحها؛ لكي يتم تحقيق المناعة المجتمعية أو "مناعة القطيع" Herd immunity، وبالتالي وقف انتشار الفيروس الذي تسبب، حتى كتابة هذه السطور، في إصابة نحو مائة مليون نسمة، وفي رحيل ما يزيد عن مليوني ضحية في كافة أرجاء العالم.

ومع بداية الدولة المصرية، في 24 يناير 2021، حملتها للتطعيم ضد الفيروس باستخدام لقاح تنتجه شركة "سينوفارم" الصينية، يأمل الجميع أن يضع هذا اللقاح، وغيره من اللقاحات التي تمت الموافقة عليها في العالم، حداً لتفشي الوباء في مصر. وكانت وزارة الصحة المصرية قد أعلنت رسمياً، في وقت سابق، أن "هيئة الشراء الموحد والإمداد والتموين الطبي" تعاقدت على 40 مليون جرعة من لقاح "سينوفارم" الصيني، و20 مليون جرعة من لقاح "أوكسفورد- أسترازينيكا" البريطاني، و40 مليون جرعة من "التحالف الدولي للقاحات"(جافي GAVI)؛ الذي يقود مرفق الاتحاد العالمي للقاحات "كوفيد- 19" (كوفاكسCOVAX ). وبذلك يصل عدد الجرعات التي تم الاتفاق عليها من جانب الدولة المصريةإلى 100 مليون لقاح، وهو ما سيكون كافياً لنحو 50 مليون مواطن مصري، أي نصف عدد السكان تقريباً.

وكان الرئيس عبد الفتاح السيسي قد وجّه بالحصول على أفضل العروض من الشركات العالمية لأكثر اللقاحات فاعلية، وبأكبر كمية ممكنة، وفي أسرع وقت، وقيام صندوق "تحيا مصر" بدعم توفير اللقاح للفئات المستحقة ذات الأولوية المتقدمة، خصوصاً من الكوادر الطبية، والحالات الحرجة والمزمنة، والحالات المصابة وكبار السن من الفئات الأكثر احتياجاً تحت مظلة برامج الحماية الاجتماعية. كما وجّه الرئيس أيضاً بإنشاء مراكز لتقديم اللقاح بجميع المحافظات، وفق أعلى مستوى ممكن، لاستيعاب المواطنين الراغبين في الحصول على اللقاح عند توفره، وبما يراعي كافة المعايير الصحية والوقائية.

هذه الجهود المصرية المهمة هي جزء من توجه عالمي؛ إذ بدأت كثير من دول العالم بالفعل حملات مماثلة للتطعيم ضد الفيروس مستخدمة أنواعاً مختلفة من اللقاحات، وهو ما يطرح تساؤلات عديدة عن مدى قدرةدولالعالم، ومن بينها مصر، على الانتصار في الحرب ضد الفيروس، ومدى إمكانية إغلاق صفحة الوباء قريباً بعد أن تسبب في إصابة نحو مائة مليون شخص.

من دون شك، تمثل بداية حملات التطعيم ضد الفيروس "بصيص نور في نهاية النفق"، كما أنها تمثل أيضاً "لحظة تفاؤل" بشأن انتصار الدول في معركة ضد أسوأ أزمة صحة عامة، يواجهها العالم، منذ حوالي قرن من الزمان.إلا أن الوضع العالمي الراهن بشأن اللقاحات وحملات التطعيم قد يجعل هذا البصيص "خافتاً" وهذا التفاؤل "محدوداً" إلى حد ما في ضوء المشاهد الثلاثة التالية:

أولاً:رغم السباق الشديد والصراع المحتدم بين شركات الأدوية العالمية لإنتاج اللقاحات منذ تفشي الوباء في العام الماضي، لم يتمكن سوى عدد ضئيل للغاية من هذه الشركات من الحصول على الموافقة بشأن اللقاحات المنتجة. فمن بين أكثر من 154 مشروع لقاح جاري تطويرها في أنحاء العالم، لم تتم الموافقة إلا على 11 لقاح فقط، من أبرزها: لقاح "فايزر-بيونتيك" الأمريكي الألماني، ولقاح "موديرنا" الأمريكي، ولقاح "جامالايكا" (سبوتنيك V) الروسي، ولقاح "سينوفارم" الصيني، ولقاح "أكسفورد –أسترازينيكا" البريطاني.


 

وقد أثارت السرعة الكبيرة في تطوير هذه اللقاحات شكوكاً كبيرة بشأن فعاليتها وسلامتها، خصوصاً مع منح بعض الدول حصانة قضائية للشركات المنتجة لها، بقصد تشجيعها على إنتاجها وتوزيعها دونما تكبد لخسائر أو دفع لتعويضات. كما ثار جدل كبير ونقاش ساخن أيضاً بين المتخصصين والخبراء حول تباين هذه اللقاحات من حيث التقنية المستخدمة، وشروط التخزين، ونسبة فاعليتها. (انظر الجدول المرفق).


 

وبالتزامن مع ذلك، تعالت أصوات عديدة في كثير من دول العالم تشكك في جدوى اللقاحات من الأساس. فعلاوة على نظرية المؤامرة وما أشيع عن تخليق الفيروس ولقاحاته بغرض تقليص عدد سكان العالم، أو التحكم في الجينوم البشرى، ظهرت اتجاهات رافضة للقاحات بناءاً على تأويلات دينية، أو طروحات فلسفية كالاعتقاد الكانطى بأن اللقاح ينقل سمات حيوانية إلى الإنسان. كذلك برزت حملات إعلامية غربية قوية على اللقاحات الصينية والروسية والهندية استناداً إلى عدم نشر البيانات والنتائج الخاصة باختباراتها وتجاربها السريرية، إضافة إلى غياب الشفافية المطلوبة.

قومية اللقاحات

ثانياً: أثار السباق العالمي نحو التعاقدات بين الدول والشركات المنتجة للقاحات التساؤلات بشأن قيم "العدالة" و"التضامن" ومبدأ "المنفعة العامة العالمية للقاحات"، في ظل ما أظهرته الأرقام من تعاقد الدول الغنية، مثل استراليا وكندا واليابان ودول الاتحاد الأوروبي، على كميات كبيرة من اللقاحات (أكثر من احتياجاتها الأساسية) مع ميل أغلبية الشركات المنتجة إلى بيعه لمن يستطيع دفع ثمنه، تاركة الدول الفقيرة والنامية لمواجهة الندرة الشديدة والتكلفة المرتفعة في الحصول على اللقاحات. وفي هذا السياق، برز ما يعرف بظاهرة "قومية اللقاحات"، والتي تتصاعد عندما تضغط الدول من أجل الوصول أولاً إلى إمدادات اللقاحات، أو تخزين المكونات الرئيسية لإنتاج اللقاح دون النظر لغيرها من الدول.

وقد حذرت منظمات دولية عديدة من "قومية اللقاحات" ومن مغبة استحواذ الدول الغنية على نسبة كبيرة من الجرعات المتوقع إنتاجها من لقاحات فيروس "كوفيد- 19"، قائلة إن ذلك سيحرم مَن يعيشون في الدول الفقيرة من فرصة الحصول عليها. وفي هذا السياق، قال التحالف الشعبي للقاحات، الذي يضم منظمات من بينها العفو الدولية وأوكسفام، إن ما يقرب من 70 دولة، من ذوات الدخل المنخفض، لن تكون قادرة إلا على تطعيم شخص واحد من بين كل 10 أشخاص، مشيراً إلى أن الدول الغنية اشترت جرعات من اللقاحات كافية لتطعيم جميع سكانها ثلاث مرات إذا اعتُمدت جميعها للاستخدام. وكمثال على هذا التوجه "غير الإنساني" من جانب الدول الغنية، كشف التحالف عن أن كندا تعاقدت على لقاحات كافية لتطعيم كل كندي خمس مرات. وبالإضافة إلى ذلك، أشار التحالف أيضاً إلى أن الدول الغنية رغم أنها لا تمثل سوى 14 في المائة من سكان العالم، إلا أنها اشترت 53 في المائة من اللقاحات المعتمدة حتى الآن، وفقاً لبيانات خاصة بثمانية لقاحات في المرحلة الثالثة من التجارب. ويوضح الشكل التالي عدد اللقاحات المتوقع أن تحصل عليها الدول وفقاً لمستوى الدخل من جانب الشركات المختلفة.


Source: https://bit.ly/2KO5Kye

 

وقد برز التفاوت الكبير بين الدول الغنية والفقيرة من حيث القدرة على توفير اللقاحات لمواطنيها بعدما انطلقت "أكبر حملة تطعيم في التاريخ". فحتى يوم 23 يناير الجاري، تم إعطاء لقاحات "كوفيد- 19" إلى أكثر من 60 مليون شخص في 51 دولة، منها بريطانيا، ودول الاتحاد الأوروبي الـ27، والولايات المتحدة، وكندا، وإسرائيل، وروسيا، والصين، والأرجنتين، والبرازيل، والمكسيك، وتشيلي، وكوستاريكا، والإمارات، والبحرين، والكويت، وسلطنة عُمان، والسعودية. وقد كشفت هذه الحملة، كما أوضح تيدروس أدهانوم غيبريسوس المدير العام لمنظمة الصحة العالمية، عن "انعدام صارخ" للمساواة، حيث أشار إلى استخدام غالبية هذه اللقاحات في 49 من الدول مرتفعة الدخل، مقارنة مع 25 جرعة فقط بإحدى الدول الفقيرة الواقعة في أفريقيا (غينيا).


 

ويشار في هذا الصدد إلى أن "قومية اللقاحات" و"اكتناز اللقاحات" من جانب الدول الغنية عادة ما تؤدي إلى عمليات تفاوض شاقة بالنسبة لغالبية الدول النامية مع شركات الأدوية المنتجة للقاحات، كما أنها تقود أيضاً إلى رفع أسعار اللقاحات في غالبية الحالات. فعلى سبيل المثال، دفعت جنوب أفريقيا 5.25 دولارات (82 جنيه تقريباً) لكل جرعة من لقاح "أكسفورد-أسترازينيكا"، وهو سعر أكبر من ضعف ما تدفعه الدول الأوروبية. وفي هذا السياق، انتقد تيدروس أدهانوم غيبريسوس المدير العام لمنظمة الصحة العالمية، في 18 يناير الجاري، ما يعرف بـ"قومية اللقاحات"، محذراً من أن العالم على شفا "فشل أخلاقي كارثي" فيما يتعلق بتوزيع اللقاحات، داعياً الدول والشركات المصنعة إلى "مشاركة الجرعات بشكل أكثر إنصافاً في مختلف أنحاء العالم".

ثالثاً:من أجل ضمان الوصول إلى اللقاحات ومساعدة الدول النامية والفقيرة في الحصول عليها، في ظل ظاهرة "قومية اللقاحات"، انضمت 189 دولة إلى مرفق التحالف العالمي لإتاحة اللقاحات "كوفاكس" COVID-19 Vaccine Global Access Facility ، (COVAX)، والذي تقوده منظمة الصحة العالمية بالتعاون مع تحالف اللقاحات "جافي" GAVIوالتحالف من أجل ابتكارات الاستعداد للأوبئة. ويهدف مرفق "كوفاكس" إلى التوزيع العادل والمنصف لأدوية ولقاحات "كوفيد- 19" على نطاق عالمي واسع، من خلال شراء ما يكفي من اللقاحات لتوفير ملياري جرعة من اللقاحات من أجل تحصين 20 في المائة من سكان الدول المشاركة قبل نهاية 2021 (بشكل أساسي العاملون في مجال الرعاية الصحية، والأشخاص الذين تزيد أعمارهم على 65 عاماً، والمرضى الذين يعانون من أمراض خطيرة).


 

إلا أن مرفق "كوفاكس" يواجه، في الوقت الحالي، عجزاً كبيراً يبلغ 85 في المائة من إجمالي احتياجاته التمويلية البالغة 38 مليار دولار. ويأتي هذا العجز نتيجة ضعف التزام الدول الكبرى في العالم، مثل الولايات المتحدة، تجاه تمويل هذا المرفق المهم. وقد حذر الكثير من المراقبين من أن تردد الدول الكبرى والغنية في دعم مرفق "كوفاكس" سوف يؤدي، في أفضل الأحوال، إلى قِصَر وصول اللقاحات إلى نسبة ضئيلة للغاية من سكان الدول منخفضة الدخل في هذا العام، فيما يعرف بظاهرة "التمييز اللقاحي" vaccine apartheid بينما سيؤدي، في أسوأ السيناريوهات، إلى فشل العالم في إنهاء الوباء.

خيارات محدودة

من أجل تجنب إخفاق العالم في التغلب على "كوفيد- 19" باستخدام اللقاحات، يرى عدد من الخبراء ضرورة قيام الدول الغنية (ممثلة في دول مجموعة الدول الصناعية السبع أو في مجموعة العشرين) بتخصيص ما لا يقل عن اثنين في المائة من إنفاقها في مواجهة التداعيات السلبية للفيروس (الذي بلغ حوالي 13 تريليون دولار في عام 2020) على تدابير الاستجابة والتعافي في الدول منخفضة ومتوسطة الدخل، مشيرين إلى أن ذلك لا ينبع من الالتزام الأخلاقي والإنساني فحسب، بل أيضاً من التزام قانوني بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وهنا يشار إلى أن التزام الدول الغنية بهذه النسبة سوف يوفر 260 مليار دولار. وهذا المبلغ يمكن أن يغطي احتياجات "كوفاكس" وأكثر. كما أنه سيساعد أيضاً الأمم المتحدة على تلبية احتياجات 235 مليون شخص يحتاجون إلى مساعدات إنسانية عاجلة. ومن جهة أخرى، يجب على الدول الغنية أيضاً تأجيل خدمة الديون حتى عام 2022 وإلغاء العديد من ديون الدول الأكثر فقراً. ومن ناحيته، يجب أن يدعم صندوق النقد الدولي تمويل برامج اللقاحات والأدوية والاختبارات التشخيصية الخاصة بالفيروسات المعدية في الدول منخفضة ومتوسطة الدخل.

وعلى الصعيد المصري، وفي ضوء التحديات المذكورة أعلاه فيما يتعلق بالوضع العالمي للقاحات، ربما يكون من المفيد أن تتبع الحكومة المصرية ما يمكن وصفه باستراتيجية "تنويع اللقاحات"، بهدف تجنب أي تأخير في تنفيذ برنامج التطعيم المصري لمواجهة تفشي الوباء. وفي هذا الإطار، قد يكون من المفيد أيضاً عدم الاقتصار على المصادر الثلاثة التي أعلنتها وزارة الصحة (لقاحات "سينوفارم" و"أسترازينيكا"، وتلك المتوقعة من تحالف "جافي" ومرفق "كوفاكس")، بل يمكن مواصلة المساعي مع موردي اللقاحات الآخرين في العالم، طالما كانت النتائج الأولية لهذه اللقاحات الجديدة مبشرة. كما يجب على الدبلوماسية المصرية أيضاً التواصل مع الدول الغنية التي تعاقدت على جرعات من اللقاح تفوق احتياجاتها الفعلية (مثل اليابان والاتحاد الأوروبي وكندا على سبيل المثال) من أجل الحصول على بعض الاحتياجات المصرية في إطار التعاون الوثيق مع هذه الدول الصديقة. ويُمكن لمصر أيضاً أن تسعى، في وقت لاحق، إلى المشاركة في عمليات تصنيع اللقاحات (خاصة مع الشركات الصينية والروسية)، بما يحقق الاكتفاء الذاتي منه والتحول لمركز إقليمي للتصدير إلى الشرق الأوسط وأفريقيا.

وبالإضافة إلى ذلك، قد يكون من المفيد أيضاً وضع البرنامج المصري للتطعيم ضد "كوفيد-19" تحت سلطة أعلى من وزارة الصحة، مثل رئيس الجمهورية أو رئيس مجلس الوزراء، وذلك بهدف ضمان التنسيق الكامل بين مختلف الجهات والوزارات المعنية (كالصحة والدفاع والخارجية والمالية والداخلية والاتصالات وغيرها) في توريد وتوزيع اللقاحات في الوقت المناسب وبالمعدلات المطلوبة.

كما قد يكون من المفيد كذلك أن تتابع الحكومة المصرية عن كثب تجارب إدارة برامج اللقاحات والتطعيم في دول العالم المختلفة، وذلك من خلال عقد ورش العمل وجلسات النقاش بالتعاون مع المراكز البحثية والفاعلين المحليين من ذوي الصلة.

وفي النهاية، يجب أن تكون جائحة "كوفيد- 19" حافزاً للتفكير في نظام لتطوير اللقاحات محلية الصنع في المستقبل من خلال شراكة فاعلة بين المؤسسات الحكومية والقطاع الخاص والمؤسسات الأكاديمية المتخصصة.