لا يبدو أن إيران سوف تُقدِم على إجراء تغيير في سياستها إزاء الملفات الخلافية العالقة مع الولايات المتحدة الأمريكية، والدول الغربية بشكل عام، حتى مع بداية تولي الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن مهام منصبه منذ 20 يناير الجاري (2021). إذ ما زالت طهران حريصة على تأكيد أن مجمل الخطوات التصعيدية التي اتخذتها في الفترة الماضية لم تشكل خروجاً عن ما تم الاتفاق عليه في الصفقة النووية التي أبرمت مع مجموعة "5+1" التي تحولت فيما بعد إلى "4+1" بعد خروج الولايات المتحدة الأمريكية منها في 8 مايو 2018. وقد انعكس ذلك في المقال الذي كتبه وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف في مجلة "Foreign Affairs" الأمريكية في 22 يناير الجاري. إذ قال ظريف أن "قرار إيران برفع مستوى تخصيب اليورانيوم إلى 20% يتفق مع الاتفاق النووي"، مشيراً إلى أن إيران سوف تعود إلى تعهداتها في حالة ما إذا أنهت الإدارة الأمريكية الجديدة العمل بسياسة الضغوط القصوى التي تبنتها الإدارة الأمريكية السابقة وعادت إلى الاتفاق النووي.
استراتيجية جديدة
يمكن القول إن مقال ظريف يعكس الاستراتيجية الجديدة التي بدأت إيران في تطبيقها منذ أن أقر مجلس الشورى (البرلمان) قانوناً بعنوان "الإجراء الاستراتيجى لإلغاء العقوبات الأمريكية" في أول ديسمبر 2020، والذي قضى بإنتاج وتخزين ما لا يقل عن 120 كيلو جرام سنوياً من اليورانيوم المخصب بنسبة 20%، أو أكثر من ذلك، إذا لزم الأمر، وتشغيل أجهزة طرد مركزي أكثر تطوراً من طراز "2IR M" في مفاعل "فوردو".
ورغم أن تلك الخطوة قد تم تفسيرها على أنها تأتي في سياق الرد على الإجراءات العقابية التي اتخذتها الإدارة الأمريكية السابقة، والجهود التي تبذلها إيران من أجل تعزيز موقعها التفاوضي قبل أن تنخرط في أية تفاهمات محتملة مع الإدارة الأمريكية الجديدة، فإن ذلك قد يمثل جانباً واحداً فقط في فهم هذه الاستراتيجية الجديدة، التي تبنتها طهران بعد أن وصل التصعيد مع واشنطن إلى مرحلة غير مسبوقة لم تنحصر فقط في رفع سقف العقوبات الاقتصادية وإنما امتدت إلى الدخول في مواجهة مباشرة أسفرت عن مقتل قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري قاسم سليماني في 3 يناير 2020 برفقة نائب أمين عام ميليشيا الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس.
وتقوم هذه الاستراتيجية في الأساس على ضرورة مواصلة العمل على تطوير البرنامج النووي، مع عدم الاعتماد على احتمال النجاح في الوصول إلى تفاهمات مع الإدارة الأمريكية الجديدة، وهو احتمال يواجه، في رؤية طهران، تحديات لا تبدو هينة في الوقت الحالي. فعلى الرغم من الإشارات المتكررة التي وجهها الرئيس جو بايدن بشأن إعادة الولايات المتحدة الأمريكية إلى الاتفاق النووي، وتلميحه إلى إمكانية تخفيف العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران إذا عادت إلى الالتزام الكامل بالاتفاق النووي، فإن القيادة في طهران ترى أن فوزه لن يؤدى تلقائياً إلى تغيير المسار، الذي اتبعه ترامب خلال السنوات الأربع الأخيرة.
ويعود ذلك في رؤيتها إلى اعتبارات رئيسية ثلاث: أولها، أن ثمة ضغوطاً داخلية قوية سوف يتعرض لها الرئيس الجديد، لاسيما من جانب نواب الحزب الجمهوري في الكونجرس، الذين سيعترضون على تخفيف الضغوط على إيران قبل التثبت من إمكانية انخراطها في التزامات دولية صارمة في الفترة القادمة. وهنا، لا يمكن فصل ذلك عن الجهود التي بذلتها الإدارة الأمريكية السابقة لوضع مزيد من العقبات أمام الإدارة الجديدة فيما يتعلق بتقليص حدة العقوبات على إيران، حيث أصرت على توسيع نطاق تلك العقوبات قبل فترة وجيزة من انتهاء ولاية الرئيس السابق دونالد ترامب.
وثانيها، أن القوى الإقليمية الحليفة لواشنطن، لاسيما إسرائيل، سوف تحاول بدورها إقناع الإدارة الأمريكية بضرورة وضع حساباتها في الاعتبار، خاصة أن الملفات الخلافية العالقة مع إيران تحظى باهتمام خاص من جانبها. وقد بدأت إسرائيل، على سبيل المثال، في توجيه رسائل في هذا السياق، عبر العمليات العسكرية التي قامت بشنها داخل سوريا والعراق في المرحلة الماضية، والتي تهدف إلى منع إيران من رفع مستوى تهديداتها لأمنها عبر نفوذها لدى الميليشيات الموالية لها في الدولتين. وقد أشارت تقارير عديدة إلى أن رئيس جهاز الاستخبارات الإسرائيلي يوسي كوهين سوف يقوم بزيارة إلى واشنطن في الفترة القادمة للقاء الرئيس بايدن، حيث سيكون التباحث حول مستقبل الاتفاق النووي محوراً رئيسياً في تلك الزيارة.
وثالثها، أن الرئيس بايدن نفسه وفريقه الجديد الذي سيتولى تحديد اتجاهات السياسة الخارجية الأمريكية، كانوا حريصين على تأكيد أن فكرة "العودة مقابل العودة" التي طرحها قبل الانتخابات لا تعني أن الخلافات مع إيران تنحصر في الاتفاق النووي، وأن الإدارة الجديدة سوف تتغاضى عن الملفات الأخرى الشائكة، وفي مقدمتها برنامج الصواريخ الباليستية، الذي قال مستشار الأمن القومي الأمريكي الجديد جايك سوليفان أنه سوف يكون في مقدمة الملفات التي سوف تطرح في أية مفاوضات مستقبلية مع إيران.
خلافات داخلية
اللافت في هذا السياق، هو أن هذه الاستراتيجية لم تكن، على ما يبدو، محل توافق داخلي في إيران. ويعود ذلك في المقام الأول إلى أن تيار المعتدلين الذي يمثله الرئيس حسن روحاني وفريقه الحكومي، يبدي تحفظات تجاه عدم إبداء أية مرونة قد تساهم في الوصول إلى تفاهمات مع الإدارة الأمريكية، وهو الخيار الذي يتبناه الحرس الثوري وتيار المحافظين الأصوليين، الذين ربما يمارسون ضغوطاً من أجل عدم إبداء إشارات إيجابية في الملفات الخلافية، وبالتالي محاولة تصدير رسالة مفادها أن إيران لن تتنازل عن مواقفها وأن رغبتها في رفع العقوبات المفروضة عليها وعودة الولايات المتحدة الأمريكية للاتفاق النووي لا تعني أنها قد تستجيب للدعوات التي وجهت لها من أجل وضع تلك الملفات على طاولة المفاوضات.
ومن دون شك، فإن ذلك لا ينفصل عن الحملة التي يشنها تيار المحافظين الأصوليين، بدعم من الحرس الثوري، ضد الرئيس حسن روحاني وفريقه الحكومي وتيار المعتدلين بشكل عام، حيث بدا لافتاً أنه بالتوازي مع مقالة ظريف في "Foreign Affairs"، تعرّض التيار الأخير لانتقادات داخلية قوية بسبب اتهامه بـ"التعويل" على وصول بايدن إلى البيت الأبيض من "أجل حل مشكلات إيران".
هذه الحملة من المتوقع أن تتصاعد حدتها في الفترة القادمة، وتحديداً في الشهور الخمسة المقبلة وقبل إجراء الانتخابات الرئاسية الإيرانية في 18 يونيو 2021، والتي يسعى تيار المحافظين الأصوليين للفوز بها. إذ لم يعد بعض أقطاب هذا التيار يخفون قلقهم من أن يؤدي وصول رئيس ديمقراطي إلى البيت الأبيض إلى تعزيز فرص منافسيهم في تيار المعتدلين، وبالتالي تكرار ما حدث في الانتخابات السابقة عندما نجح الرئيس حسن روحاني، الذي ينتمي إلى التيار الأخير، في الفوز على مرشحي التيار الأول. ومن هنا، ربما يضغط الحرس الثوري وتيار المحافظين الأصوليين من أجل تعطيل أية محاولة جادة للوصول إلى تفاهمات مع الإدارة الأمريكية قبل إجراء الانتخابات الرئاسية، وتقليص فرص المعتدلين في مواصلة سيطرتهم على منصب الرئيس.
وعلى ضوء ذلك، يمكن القول في النهاية إن الوصول إلى تفاهمات بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية ربما يستغرق فترة قد لا تكون قصيرة، أولاً لانشغال الرئيس بايدن في تحديد الخطوط العريضة لسياسته في الشهور الأولى على الأقل، لاسيما مع منح الأولوية لملفات داخلية أساسية مثل ملف التعامل مع أزمة كورونا، بالتوازي مع انشغال إيران في تهيئة المجال أمام إجراء الانتخابات الرئاسية، وثانياً لاتساع نطاق الخلافات العالقة بين الطرفين والتي لا يمكن اختزالها في مجرد عودة الولايات المتحدة الأمريكية للاتفاق النووي، وهو التوجه الذي تضغط إيران من أجل تحقيقه دون أن تقدم تنازلات رئيسية في المقابل، على نحو لم يعد يحظ بقبول ليس فقط من جانب القوى الدولية المعنية بالاتفاق النووي، لاسيما الدول الأوروبية، وإنما أيضاً من جانب الإدارة الأمريكية التي يبدو أنها سوف تسعى إلى تبني مقاربة جديدة أكثر اتساعاً في التعامل مع إيران خلال المرحلة القادمة.