قضايا وتحليلات - قضايا وتفاعلات عربية وإقليمية 2021-1-21
رانيا مكرم

خبيرة - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

رغم أن حركة "طالبان" الأفغانية دعت، في 20 يناير الجاري (2021)، الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن، الذي تولى مهام منصبه في اليوم نفسه، إلى تنفيذ الاتفاق المبرم بين الطرفين في 29 فبراير 2020، ويقضي بسحب القوات الأمريكية من أفغانستان بحلول مايو القادم لضمان استمرار محادثات السلام مع الحكومة الأفغانية، إلا أنها في الوقت نفسه لم توجه رسائل توحي بأنها سوف تساعد في إتمام هذا الاتفاق، ودعم فرص الوصول إلى تسوية مع الحكومة التي استأنفت مباحثات السلام معها مجدداً في 6 يناير الحالي (2021)، بعد توقف مؤقت متفق عليه لأكثر من أسبوعين.

ومن هنا، فإن فرص نجاح هذه المباحثات ما زالت غامضة، خاصة أن الخلافات العالقة بين الطرفين ليست ثانوية ولا يمكن تسويتها بسهولة، على نحو يمكن القول معه أن هذه المفاوضات لازالت تتعامل مع قضايا أوَّلية، ولم تصل إلى إجراءات فعلية يمكنها تفعيل البنود والتفاهمات الأساسية التي تم ضمنياً الاتفاق عليها، بما يمكن أن يساعد في نجاح المفاوضات بين الطرفين.

ولعل الواقع على الأرض يشير إلى أن ثمة تجاذباً ومحاولات لفرض السيطرة تبذلها حركة "طالبان"، بغرض تحقيق مكاسب أكبر خلال المفاوضات، حيث تتزايد مستويات العنف ومعدلات القتل والاستهداف السياسي التي تقوم بها الحركة، وسط تخبط حكومي، وعدم قدرة على السيطرة على الأوضاع الأمنية في البلاد. بينما لم يسهم اتفاق السلام بين الولايات المتحدة الأمريكية والحركة في تحقيق السلام في أفغانستان كما كان منشوداً منه.

اتفاق متعثر

استغرق الإعلان عن توقيع اتفاق للسلام بين الولايات المتحدة الأمريكية وحركة طالبان، كخطوة أولى لسلام أفغاني– أفغاني ما يقرب من 14 شهراً، حيث أعلن الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته دونالد ترامب في يوليو 2018 عن بدء مفاوضات ثنائية مباشرة مع الحركة، بدأت مشاركة الحكومة الأفغانية فيها في سبتمبر 2019، لكن سرعان ما توقفت هذه المفاوضات عقب هجمات أدت إلى مقتل جنود أمريكيين في أفغانستان، إلى أن استؤنفت مرة أخرى في ديسمبر 2019، وانتهت بتوقيع الاتفاق في 29 فبراير 2020.

ولم تكن هذه المفاوضات يسيرة، بل كانت متعثرة وفق العديد من المراقبين، بسبب تباين أولويات أطرافها. وعلى الرغم من أن المفاوضات في حد ذاتها تمثل خطوة كبيرة، واختراقاً مهماً لواقع صراعي تعيشه أفغانستان لما يقرب من 20 عاماً، تورطت فيه الولايات المتحدة الأمريكية بشكل كبير، على نحو دفع إدارة الرئيس دونالد ترامب إلى الإعلان عن وضع جدول زمني للخروج من "المستنقع" الأفغاني، من خلال اتفاقية السلام مع "طالبان"، تنسحب بموجبها القوات الأمريكية من أفغانستان، والبالغ عددها 12 ألف جندي، بحلول مايو 2021، مقابل ضمانات تقدمها الحركة تشمل تعاونها في مكافحة الإرهاب، والاتفاق على وقف إطلاق النار والتفاهم مع الحكومة على تقاسم السلطة.

ولم يكن عدم إحراز المفاوضات بين الحكومة والحركة نتائج تذكر على مدى الفترة الماضية أمراً غير متوقع، فحسب تصريحات العديد من الأطراف فإن المفاوضات لن تكون سهلة ويتوقع أن تستغرق فترة طويلة، وقد أكد على ذلك غلام فاروق مجروح، أحد المفاوضين باسم الحكومة، بقوله أن "المحادثات ستكون معقدة للغاية وستستغرق وقتاً".

عقبات متعددة

تواجه عملية السلام الأفغانية، على الرغم من جولاتها المتعددة، والجهود التي تبذل لإتمامها، العديد من التحديات التي تعبر في الأساس عن مدى الخلافات المتجذرة بين طرفيها، وتمسك كل منهما بمطالبه في مواجهة الآخر، ويتمثل أهمها في:

1-    عدم الالتزام ببنود الاتفاق الأمريكي – "الطالباني": لا يمكن فصل المفاوضات الأفغانية- الأفغانية، الجارية حالياً، عن تلك التي أجريت بين الولايات المتحدة الأمريكية وحركة "طالبان"، وانتهت بالتوقيع رسمياً على اتفاق السلام في فبراير 2020، ليس فقط لكون السلام الأفغاني – الأفغاني هو أحد أهداف الاتفاق الأمريكي- "الطالباني"، وإنما أيضاً لكون هذا الاتفاق في حد ذاته يمثل أحد محاور الخلافات العالقة بين الطرفين، بدلاً من أن يمثل نقطة للبناء عليه، لبدء مرحلة جديدة من السلام بين الحكومة والحركة. فعلى سبيل المثال، ترى الأخيرة أن كلاً من الولايات المتحدة الأمريكية والحكومة الأفغانية يتنصلان من مسئوليتهما في تنفيذ الاتفاق، حيث لم تفرج السلطات الأفغانية عن بعض مقاتلي "طالبان" المعتقلين، كما نص الاتفاق، واعتبرت الحركة أن من تم الإفراج عنهم كانوا إما من كبار السن، أو من مرتكبي الجنح، بغرض تخفيف كثافة السجون بسبب جائحة كورونا.

وفي أحد أهم بنود الاتفاق بين واشنطن و"طالبان"، تكمن أبرز نقاط الخلاف بين الحكومة والحركة، ويتعلق بالتوصل إلى تأسيس حكومة موحدة من الموالاة والمعارضة. إذ تصر "طالبان" على الحصول على أهم وأكبر المناصب الحكومية في البلاد، وهو ما يعود، في قسم منه، إلى الخلاف الداخلي بين قادتها حول بند تقاسم السلطة مع الحكومة، حيث يطالب قادة المناطق الخاضعة لها في شرق أفغانستان بإسقاط الحكومة، وليس تقاسم السلطة معها، بعكس القادة الذين يشاركون في مباحثات السلام مع الحكومة، والذين يوافقون، من حيث المبدأ، على تقاسم السلطة، وإن اختلفوا مع الحكومة على شكل هذا التقاسم.

كما يأتي انشغال الولايات المتحدة الأمريكية عن وعودها بتعزيز قدرات الدولة الأفغانية بعد وقت قصير من قطعها هذا الوعد كبند من بنود اتفاق السلام، بفعل أزمة جائحة كورونا، ثم إجراء الانتخابات الرئاسية الأمريكية وما تبعها من أزمة سياسية انتهت بوصول الرئيس الجديد جو بايدن إلى البيت الأبيض في 20 يناير الجاري (2021)، كأحد تحديات نجاح المفاوضات الأفغانية – الأفغانية، فلا يخفى أن تعزيز القدرات العسكرية للدولة وضمان كفاءة أجهزتها ومؤسساتها من شأنه أن يدعم موقف الحكومة في المفاوضات، غير أن هذا الدعم نفسه لازال، وفق العديد من المحللين، مشروطاً بنجاح المفاوضات الأفغانية.

2-    ارتفاع مستويات العنف: رغم انعقاد جولات متتالية من مباحثات السلام بين "طالبان" والحكومة، إلا أن مستويات العنف في تزايد ملحوظ خلال الأشهر الماضية، التي شهدت سلسلة من الهجمات التي استهدفت مدنيين وشخصيات بارزة من بينهم مدافعون عن حقوق الإنسان وصحفيون، وكان آخرها العملية التي أسفرت عن مقتل قاضيتين في المحكمة العليا، في 7 يناير 2021.وقد وجهت السلطات اتهامات للحركة بالمسئولية عن هذه  الأحداث، فيما أعلن رئيس جهاز الاستخبارات أحمد ضياء سراج أمام البرلمان، في بداية يناير الجاري، أن "طالبان" قد قامت بتنفيذ أكثر من 18 ألف هجوم في عام 2020. لكن الحركة ترد على ذلك بتوجيه اتهامات مضادة للحكومة بتصعيد هجماتها على مواقعها، وللقوات الأمريكية بتنفيذ عدة غارات جوية تستهدف مقارها في عدد من المحافظات منها قندهار وهلمند، على نحو "يخرق الاتفاق الموقع بينهما" حسب مزاعمها.

3-    الخلاف على جدول الأعمال: لم يتفق الطرفان بسهولة على جدول أعمال أوَّلي للمفاوضات. فبينما تمسك الوفد الحكومي منذ بداية المفاوضات ببند وقف أعمال العنف كبداية للمباحثات، طالبت الحركة بأن يكون إطلاق سجنائها لدى الحكومة في صدارة أولوياتها للبدء في المباحثات، وكذلك رفع العقوبات عن قادتها، ثم يأتي بعد ذلك وقف إطلاق النار. لكن ذلك لم يمنع إجراء مباحثات للعمل على وضع جدول أعمال يمكن تنفيذه من الجانبين.

وقد كان لافتاً في هذا السياق، تعدد القضايا التي وضعت كأولويات للنقاش في مباحثات السلام بين الطرفين، والتي بلغت، وفق بعض التقارير، 21 قضية، كان من أهمها إثارة للجدل والخلاف أوضاع حقوق الإنسان، وحرية المعتقد، ووضع النساء وحرياتهن، والحق في التعليم، وممارسة العمل العام. وفي الوقت الذي حاول الوفد الحكومي إقرار عدد من الحقوق بما في ذلك منح مزيد من الحريات للمرأة، اكتفت الحركة بتقديم رؤى فضفاضة لمفهومها وما يمكن أن تقدمه في مجال الحريات والحماية لحقوق المرأة.

4-  التباين حول نظام وهوية الدولة: تصاعدت حدة الجدل خلال المباحثات حول هوية الدولة والنظام، لاسيما في ظل المعتقد المتطرف الذي تنطلق منه "طالبان"، والتي تصر على أن تكون أفغانستان "إمارة إسلامية"، وهو ما يختلف عن المشروع السياسي للنظام الحالي الذي يسعى إلى تثبيت قواعد جمهورية دستورية مدعومة من الدول الغربية. وقد ساد خلاف خلال المفاوضات بسبب مطالبة "طالبان" بأن يكون الفقة المذهبي السني الحنفي هو الحاكم في المفاوضات، من حيث خلفية الدولة وهويتها، في حين أكدت الحكومة على ضرورة احترام التنوع الديني في البلاد. فيما تجدر الإشارة إلى أن بعض المتشددين داخل الحركة كثيراً ما يشيرون من خلال موقع "صوت الجهاد" التابع لها والمعبر عن أفكارها، إلى أنها "لا تنتهك اتفاق السلام باستمرارها في الجهاد ضد النظام الحالي حتى عودة الإمارة الإسلامية".

واللافت أن هذا الخلاف حول قضية هوية الدولة والنظام عكس بشكل واضح تباين الرأى العام الأفغاني حولها. ففي استطلاع للرأى أجراه معهد دراسات الحرب والسلام بأفغانستان (IWPS)  نشر على موقعه في 27 أغسطس 2020، أوضحت نتائجه أن 68% من المستطلع رأيهم يفضلون نظام جمهوري إسلامي، مقابل تفضيل 13% قيام إمارة إسلامية.

مستقبل غامض

حققت حركة "طالبان" من خلال انخراطها في مباحثات السلام مع الولايات المتحدة الأمريكية، ومن ثم مع الحكومة الأفغانية، مكسباً كبيراً تمثل ليس فقط في الاعتراف بها، وإنما الاعتراف- حسب رؤية قيادتها- بكونها جزءاً من حل الأزمة الأفغانية، بعد إخفاق الحل العسكري معها خلال عشر سنوات مضت بقيادة أمريكية، الأمر الذي تسعى إلى استغلاله لتعزيز موقعها التفاوضي مع الحكومة، لاسيما في ظل إدراكها رغبة واشنطن في الخروج من "المستنقع" الأفغاني حتى مع تغير الإدارة الأمريكية، وهو ما يمكن أن يدفعها إلى تبني سياسة أكثر تشدداً قد ترفض من خلالها تقديم أية تنازلات تساعد في الوصول إلى تسوية للخلافات العالقة.

وفي هذا السياق، أعربت الحكومة الأفغانية عن أملها في أن تقوم الإدارة الأمريكية الجديدة بقيادة الرئيس جو بايدن بـمراجعة بنود اتفاق السلام بين كابول و"طالبان"، وبالتالي التعامل بشكل أفضل مع التحديات التي تعيق تحقيق تقدم في المفاوضات حتى الآن مع الأخيرة.ومع الوضع في الاعتبار أن "طالبان" تحاول بدورها تجنب التعرض لانشقاقات داخلية من خلال الاستمرار في تنفيذ عمليات إرهابية في البلاد، في ظل رفض بعض قياداتها المتشددة سواء وقف العنف أو التفاوض مع الولايات المتحدة الأمريكية والحكومة الأفغانية، فإنه من المرجح أن تطول مدة المفاوضات على نحو يمكن أن يؤدي إلى دخول أفغانستان مرحلة جديدة من عدم الاستقرار في الفترة القادمة.