بإصدار المرسوم السلطاني العماني الخاص بـ"النظام الأساسي للدولة"، في 11 يناير 2021، والذي وضع آليات شديدة التفصيل بشأن انتقال السلطة وقضى بتعيين ولى عهد للمرة الأولى في تاريخ السلطنة، تدخل سلطنة عمان مرحلة جديدة في تاريخها الحديث. فلم يكن النظام الأساسي السابق للدولة الصادر بالمرسوم السـلطاني رقــم 101 لسنة 1996، ينص على منصب ولاية العهد، لذا لم يكن بالإمكان معرفة شخص السلطان الجديد إلا بعد وفاة السلطان، وكانت بإمكان الآلية المحددة لذلك أن تطرح إشكاليات في انتقال السلطة، في حال حدوث فراغ سياسي مفاجئ.
الخلافة في النظام الأساسي
كان النظام الأساسي للدولة، الصادر سنة 1996، ينص على أن "يقوم مجلـس العائلة المالكة، خلال ثلاثة أيام من شغور منصب السلطان، بتحديد من تـنتـقل إليه ولاية الحكم، فإذا لم يتـفق مجلس العائلة المالكة على اختيار سلطـان للبلاد قام مجلس الدفاع بالاشتراك مع رئيسى مجلس الدولة ومجلس الشورى ورئيس المحكمة العليا وأقدم اثنين من نوابه بتثبيت من أشار به السلطان فـي رسالته إلى مجلس العائلة".
وبالنظر إلى الوضعية الخاصة للسلطان قابوس الذي لم يكن له وريث، وظل في الحكم لما يقرب من 50 عاماً (من 23 يوليو 1970 وحتى وفاته في 10 يناير 2020)، لم يكن السلطان مضطراً لاستحداث نظام ولاية العهد، وكان يسعى للحفاظ على الاستقرار، ويتجنب إثارة القلاقل بين أركان أسرته.أما السلطان هيثم بن طارق، فله من الأبناء أربعة، وهو أحد الذين رأوا ما يمكن أن يطرحه النظام السابق من إشكاليات في أوقات محددة.
وتكشف أحداث تولي السلطان هيثم أن الرهان على اتفاق مجلس العائلة في عملية نقل السلطة قد لا يكون عملياً؛ ذلك ما اتضح حين قرر المجلس فتح وصية السلطان قابوس قبل مرور الأيام الثلاثة المقررة كحد زمني أقصى لاتفاق مجلس العائلة، وهو ما يعني أن إحدى الآليتين لاختيار السلطان من الصعب الرهان عليها، وهى آلية التوافق على تسميته داخل مجلس العائلة؛ حيث يجد الأخير نفسه في النهاية مضطراً لفتح وصية السلطان تقديراً له، وخشية الاختلاف عليه أو أن يأتي اختيارهم للسلطان الجديد غير متوافق مع الوصية، التي لن تفتح على الأرجح (إذا توافق مجلس العائلة)، أو قد تطرح حساسيات للحكم إذا فتحت لسبب ما تالياً، بالأخص إذا لم يتوافق اختيار مجلس العائلة معها. ومن ثم لا يبقى في كل الأحوال إلا الاتفاق على فتح وصية السلطان. علاوة على ذلك، تبدو الأيام الثلاثة المقررة لتوافق مجلس العائلة على تسمية السلطان طويلة في ظل ظروف انتقال السلطة، وفي حال عدم التوافق، وخلو الموقع بعد وفاة السلطان.
وفضلاً عن إمكان الاختلاف داخل مجلس العائلة، ومضى ثلاثة أيام بعد وفاة السلطان دون توافق، هناك الأعباء الخاصة بإجراءات تأمين الوصية السلطانية الخاصة بانتقال السلطة طيلة حياة السلطان وبعد وفاته، كما لم يحدد النظام السابق متى يضع السلطان وصيته، وفي أى سنوات حكمه يقوم بذلك، مع إمكان حدوث فراغ مفاجئ بوفاته قبل وضع الوصية، علاوة على ذلك احتمال معرفة أشخاص محيطين بالسلطان بمضمون الوصية قبل فتحها، كما يترك هذا النظام شئون البلاد مُعلَّقة على وصية غير معروف ما تتضمنه. فضلاً عن أن وضع الإشراف على عملية نقل السلطة بعد وفاة السلطان في أيدي مجلس الدفاع هى الأخرى قد تطرح بعض الإشكاليات للمجلس مع العائلة؛ لحسن الحظ أنها لم تكن قائمة عند اختيار السلطان هيثم.
صحيح أن كثيراً من هذه المخاوف والاحتمالات افتراضية بالأساس، في ضوء سلاسة انتقال السلطة المعهود في السلطنة، والطبيعة الخاصة للحكم والمجتمع العماني وتقاليده، والتي لا تُغلِّب احتمالات نشوء صراع سياسي من النوع الذي تشهده دول أخرى، إلا أنه لم يكن بالإمكان ضمان أن تجري الأمور بالسلاسة ذاتها في كل الأحوال.
لكل ذلك، أوكل مجلس العائلة لمجلس الدفاع– على أثر وفاة السلطان قابوس- القيام بفتح الوصية، وفقًا لما نصت عليه المادة السادسة من النظام الأساسي للدولة، واتخاذ الإجراءات لتثبيت من أوصى به السلطان بالتنسيق مع مجلس العائلة.وبالفعل عقدت جلسة فتح الوصية بحضور مجلس الدفاع وعلى رأسه وزير المكتب السلطاني رئيس مجلس الدفاع بالإنابة، ورئيس مجلس الدولة، ورئيس مجلس الشورى، ورئيس المحكمة العليا، وأقدم اثنين من نوابه، وبحضور أفراد العائلة المالكة، شهوداً على الإجراءات، وجاءت الوصية بهيثم بن طارق سلطاناً لعمان.
النظام الأساسي الجديد
وفقاً لما نشرته الجريدة الرسمية العمانية، في 12 يناير 2021، نص النظام الأساسي الجديد للدولة في السلطنة على آليات محكمة وتفصيلية لانتقال السلطة في كل الأحوال المحتملة؛ سواء في حال وفاة السلطان (المادة الخامسة)،أو في حال قيام مانع مؤقت يحول دون مباشرته صلاحياته (المادة الثامنة)، أو في حال انتقال ولاية الحكم إلى من هو دون سن الحادية والعشرين (المادة السادسة).ويصعب تصور حالات أخرى لانتقال السلطة غير تلك الحالات التي تناولها النظام الأساسي الجديد، ولقد وضع هذا النظام أحكاماً لا يمكن الاختلاف عليها بشأن ولاية العهد وانتقال السلطة.
فأكدت المادة الخامسة على أن "نظام الحكم سلطاني وراثي في الذكور من ذرية السلطان تركي بن سعيد بن سلطان"، وهو النص نفسه الذي كان موجوداً في النظام الأساسي السابق، لكن النظام الجديد أضاف الأحكام الثلاثة الآتية:
1- تنتقل ولاية الحكم من السلطان إلى أكبر أبنائه سناً، ثم أكبر أبناء هذا الابن، وهكذا طبقة بعد طبقة، فإذا توفى الابن الأكبر قبل أن تنتقل إليه ولاية الحكم انتقلت إلى أكبر أبنائه، ولو كان للمتوفى إخوة.
2- إذا لم يكن لمن له ولاية الحكم أبناء فتنتقل الولاية إلى أكبر إخوته، فإذا لم يكن له إخوة تنتقل إلى أكبر أبناء أكبر إخوته، وإذا لم يكن لأكبر إخوته ابن فإلى أكبر أبناء إخوته الآخرين، بحسب ترتيب سن الأخوة.
3- إذا لم يكن لمن له ولاية الحكم إخوة أو أبناء إخوة تنتقل ولاية الحكم إلى الأعمام وأبنائهم على الترتيب المعين في البند (الثاني) من هذه المادة.
ونصت المادة السادسة على أنه "إذا انتقلت ولاية الحكم إلى من هو دون سن الحادية والعشرين، يمارس صلاحيات السلطان مجلس الوصاية الذي يكون السلطان قد عينه بإرادة سامية، فإذا لم يكن قد عين مجلساً للوصاية قبل وفاته، قام مجلس العائلة المالكة بتعيين مجلس وصاية مشكل من أحد إخوة السلطان واثنين من أبناء عمومته".
وهكذا، تحدد مواد النظام الأساسي للدولة قواعد تفصيلية لانتقال السلطة في مختلف الحالات، بما فيها تلك التي قد يصعب تصور حدوثها قبل مرور مئات السنين. هذه الصيغة المحكمة تحول دون التنازع؛ فتحصر ولاية العهد في الإبن الأكبر للسلطان، ثم في أكبر أبنائه في حال وفاته قبل أن تنتقل إليه ولاية الحكم. ولا تنتقل الولاية إلى الإبن الأكبر الثاني للسلطان إلا في حالة عدم وجود أبناء "لمن له ولاية الحكم" (ولى العهد)، فإذا لم يكن هناك إخوة لولى العهد على قيد الحياة تنتقل الولاية إلى أكبر أبناء أكبر الإخوة، وإذا لم يكن لأكبر إخوته ابن فإلى أكبر أبناء إخوته الآخرين، بحسب ترتيب سن الأخوة. وهكذا تنتقل الولاية لأبناء السلطان بحسب السن وأبنائهم بالتتابع بحسب السن على الترتيب المنصوص عليه، إلى أن تنتقل إلى دائرة الأعمام وأبنائهم، بالترتيب المعين في البند الثاني، في حالة عدم وجود أبناء أو أحفاد للسلطان.
ووفقاً لهذا النظام، أصدر السلطان هيثم أمراً سلطانياً بتعيين ابنه الأكبر ذي يزن ولياً للعهد في السلطنة، ليصبح بذلك أصغر ولى عهد في دول مجلس التعاون الخليجي، وهو كان أيضاً أصغر وزير في حكومة سلطنة عُمان منذ عُيّن بمنصب وزير الثقافة والرياضة والشباب في أغسطس 2020. وتشير السيرة الذاتية لذي يزن، إلى أنه من مواليد 21 أغسطس 1990. وسابقاً عمل سكرتيراً ثانياً في السفارة العُمانية لدى بريطانيا، وهو يحمل درجة البكالوريوس في العلوم السياسية من جامعة أكسفورد.
وبإقرار هذا النظام، تقدم السلطنة على وضع جديد، بعدما كان النظام السابق يترك "الحق" مفتوحاً لـ"أهل الحل والعقد" من أعضاء مجلس العائلة في اختيار الحاكم التالي الذي سيخلف الحاكم الحالي. فلم يكن العُمانيون يعرفون من سيكون السلطان القادم إلا بعد رحيل السلطان أو تنازله عن الحكم، واعتبرت السلطنة الدولة الوحيدة في العالم، ذات النظام السلطاني الملكي، الذي لا يسمى ولياً عهد، أو وريثاً رسمياً للعرش. ولفترة طويلة أرجع البعض السبب في عدم تحديد خليفة للسلطان قابوس إلى المذهب الإباضي الذي يدعو لاختيار الحاكم بالتشاور بين أهل الحل والعقد.
ملاحظات عديدة
تؤدي الصيغة الجديدة إلى مزيد من السلاسة في عملية انتقال السلطة، كما أنها تعالج فراغات محتملة كانت مستبطنة في النظام السابق، خصوصاً في حالات قيام موانع مؤقتة تحول دون مباشرة السلطان صلاحياته، وهى الحالة التي يعالجها النظام الجديد بأن "يحل محله ولى العهد". مع ذلك يمكن إيراد أربع ملاحظات إيجابية لهذه الصيغة، وملاحظتين قد تطرحان بعض الإشكاليات:
تتمثل الملاحظات الإيجابية في:
أولاً: إن هذه الصيغة -خصوصاً في حصرها ولاية العهد في الإبن الأكبر وبالتسلسل الوارد- تضمن قدراً أعلى من استقرار الحكم وسلاسة انتقال السلطة، حيث أن الوضعية السابقة فتحت الباب لتفسيرات وتأويلات كثيرة، بالأخص في السنوات الأخيرة من حكم السلطان قابوس، وفتح الباب هكذا (وفق الصيغة السابقة) في الدول ذات الأنظمة الوراثية؛ يثير إشكاليات مختلفة في أوقات حرجة.
ثانياً: تكرس الصيغة الجديدة لانتقال السلطة استقرار الحكم، من ناحية تقليصها الخلافة السياسية في أفرع محددة بدقة، وفي إلغائها أدوار مجلس العائلة ومجلس الدفاع في التوافق على شخص السلطان أو الاضطرار لفتح وصيته بعد وفاته؛ حيث كانت الصيغة السابقة تنطوي على إشكاليات يصعب تفاديها على الدوام، أو في ظل ظروف أخرى لانتقال السلطة غير الظروف التي أعقبت وفاة السلطان قابوس.
ثالثاً: تفتح صيغة النظام الأساسي الجديد الباب لاحتمالات تخلي السلطان طواعية عن السلطة لولى عهده، سواء في حالة قيام مانع مؤقت يحول دون مباشرته صلاحياته، وهى حالة لم يعالجها النظام الأساسي السابق (وهو ما أدى بالسلطان قابوس لأن يبقى على رأس السلطة حتى آخر يوم في حياته)، وهذه الحالة -التي كان يمكن أن تطرح إشكاليات كثيرة- عالجها النظام الجديد، أو في حالة توافر الرغبة المستقلة للسلطان في التخلي عن السلطة لولى عهده؛ حيث أن وجود ولى العهد مسبقاً يجعل مثل هذه الحالات تمر بسلاسة وأمان.
رابعاً: توفر الصيغة الجديدة فرصة جيدة لتدريب ولى العهد على الحكم، إذ تترك له في الأغلب سنوات طويلة وربما عقوداً من الخبرة والتدريب على إدارة الدولة، وعلى الرغم من أن الترتيب السابق، كان أيضاً يتيح فرصة لمن اختاره السلطان في وصيته للتدريب والاقتراب من إدارة الدولة والحكم من خلال علاقته الخاصة بالسلطان، إلا أن ذلك كان يتم من دون تحديد لموقعه داخل النظام ومن دون معرفة الآخرين بمكانته الرسمية المضمّنة بالوصية السرية، وفي حدود الملفات التي يقرر السلطان إطلاعه عليها. أما النظام الجديد لولى العهد، فيتيح له التدرب على شئون الحكم والدولة في ظل إدراك رسمي لمكانته من قبل الجميع؛ فيمارس صلاحياته وفق وضعيته ومهامه الدستورية المقررة في النظام، ومن ثم يأتي إلى المنصب مستعداً قبلها بسنوات وبكامل لياقته.
أما الملاحظتان اللتان قد تطرحان بعض الإشكاليات، فهما:
أولاً: إن الصيغة الجديدة تحد من قدرة سلاطين لاحقين في اختيار أولياء عهودهم بحصرهم في الإبن الأكبر، وهو أمر وإن لم تتضرر منه الملكية الدستورية في بريطانيا (التي تتبع الآليات نفسها تقريباً في الخلافة السياسية)، إلا أنه يمكن أن يثير إشكاليات عملية في الواقع العماني، إذا دفعت إلى ولاية العهد بإبن أكبر لا يفضله السلطان لخلافته، أو لا تتوافر فيه المؤهلات للحكم أو لديه مشكلة أو عارض صحي يحول دون توليه الحكم، وهذا الأمر وإن كان لا ينطبق على حالة السلطان هيثم وإبنه الأكبر ذي يزن، إلا أنه قد يحدث مع سلاطين قادمين، وهو ما قد يفتح الباب لحالات خاصة في التطبيق العملي لاحقاً.
ثانياً: تفتح هذه الصيغة نافذة في أوقات محددة لتولي "مجلس وصاية" صلاحيات السلطان، في حال تولى الحكم من هو دون سن الحادية والعشرين، على نحو ما نصت المادة السادسة في النظام الأساسي. وعلى الرغم من أن هذه الصيغة تضمن انتقال السلطة والحفاظ على العرش حتى يصل ولى العهد إلى سن الأهلية لممارسة الصلاحيات، إلا أنه من خلال تجارب دول أخرى، يحتمل أن تفرض هذه الصيغة مشكلات تتعلق بإدارة شئون خاصة بالبلاط السلطاني على نحو غير متوافق.