قضايا وتحليلات - قضايا وتفاعلات عربية وإقليمية 2021-1-13
شيماء منير

خبيرة متخصصة فى الصراع العربى الإسرائيلى ومدير تحرير دورية الملف المصرى - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

طرحت الضربات الجوية الإسرائيلية المتتالية التي استهدفت مواقع في شرق وجنوب شرق سوريا، وكان آخرها في 13 يناير 2021، تساؤلات عديدة حول دلالات توقيتها وأهدافها، خاصة وأنها وقعت إثر زيارة قام بها ضباط من الحرس الثوري الإيراني لسوريا، وبعد أيام قليلة من الذكرى السنوية الأولى لمقتل قاسم سليماني قائد "فيلق القدس" في الحرس الثوري الإيراني، في 3 من الشهر نفسه.

وفى ظل ما تحظى به الجبهة الشمالية لإسرائيل بشقيها (السورى واللبنانى) من أهمية بالغة للأمن الإسرائيلي، بدت جلية في تطوير إسرئيل استراتيجية لاحتواء المخاطر على هذه الجبهة، طرحت الضربات الجوية الأخيرة عدداً من الرسائل التى سعت إسرائيل إلى توجيهها إلى جهات عدة: الأولى، الداخل الإسرائيلي، الذي يستعد لإجراء انتخابات الكنيست في 23 مارس المُقبل، وهى الانتخابات الرابعة في غضون عامين. والثانية، المحور الإقليمي الذي تقوده إيران ويضم النظام السوري وحزب الله، حيث سعت إسرائيل عبر تلك الضربات إلى تأكيد قدرتها على التصدي لمخاطر استهداف مصالحها وأمنها. والثالثة، القوى الدولية،لاسيما روسيا والولايات المتحدة، إذ ترى القيادات السياسية والأمنيةفي إسرائيل أن التصعيد العسكري سوف يدفع الإدارة الأمريكية الجديدة برئاسة جو بايدن إلى وضع الملف السوري على قائمة أجندتها، وربما منح إسرائيل الضوء الأخضر لمواصلة الاستراتيجية التي تتبعها حالياً وتحاول من خلالها استنزاف خصومها ودعم قدرة الإدارة على ممارسة ضغوط ضدهم قبل الانخراط في أى محاولة جدية لاختبار مدى القدرة على الوصول إلى تفاهمات مع إيران تحديداً.

خطوط حمراء

أدى تطور النزاع في سوريا منذ عام 2011 إلى تحويل المنطقة الجنوبية من البلاد إلى ساحة محتمدة للصراع، خصوصاً مع تعدد الأطراف المنخرطة فيها وتأثيراتها على التفاعلات الجارية هناك. لذلك صارت الجبهة الشمالية بالنسبة لإسرائيل بشقيها (السوري واللبناني) الأكثر خطورة، خاصة مع تمدد النفوذ الإيراني. ومن ثم نفذت إسرائيل المئات من الهجمات على بعض الأهداف العسكرية في الأراضي السورية، سواء كانت أهدافاً سورية، أو قواعد عسكرية إيرانية، أو قوافل أسلحة متجهة إلى حزب الله؛ وذلك في إطار ما أسمته إسرائيل "الخطوط الحمراء"، والتي تتمثل في ثلاثة خطوط رئيسية هى: منع نقل السلاح إلى حزب الله في لبنان، ومنع أي عمل عسكري ينطلق من الجولان، وإحباط ما تصفه إسرائيل بالتموضع العسكري الإيراني في سوريا.

وفي هذا السياق، كان لافتاً أن إسرائيل حاولت استثمارالاتفاق الذي وقعته كل من الأردن وروسيا والولايات المتحدة، في 11 نوفمبر 2017، وينص على تأسيس منطقة خفض التصعيد في جنوب سوريا وعدم السماح للمقاتلين والقوات الأجنبية بالدخول إلى مناطق درعا والقنيطرة والسويداء، رغم أنها لم تكن من الأطراف الموقعة عليه، حيث فرض الاتفاق، بالنسبة لها، خطاً أحمر مهماً ساهم في تقييد حركة إيران وحلفائها في تلك المناطق، كما أعطى لها الضوء الأخضر لردع أى محاولات في هذا الصدد.

ومن أجل ذلك، شنت إسرائيل منذ عام 2017، بوتيرة متزايدة، ضربات استهدفت تعطيل البنية التحتية العسكرية الإيرانية. ثم تبنت، مع عودة النظام السوري إلى الجنوب عام 2018، سياسة تصعيدية بشكل أكبر ورفعت درجة الجهوزية، لاسيما بعد أن حرص خصومها بدورهم على توجيه رسائل مضادة لها، وهو ما بدا جلياً في إعلان حزب الله اللبناني، في أول سبتمبر 2019، عن تدمير آلية عسكرية إسرائيلية على الجهة المقابلة من الحدود الجنوبية للبنان؛ رداً على مقتل اثنين من عناصره في نهاية أغسطس من العام نفسه في غارة إسرائيلية قرب دمشق.

ومن هنا، فرضت هذه الوقائع الجديدة في الجنوب السوري تحديات بالنسبة لإسرائيل، فلم يعد خط المواجهة الإيراني معها محصوراً بالجنوب اللبناني، بل بات من الممكن لإيران أن تستخدم الأراضي السورية لتهديدها، على عكس الوضع قبل عام 2011. لذلك كثفت الأخيرة من ضرباتها التي استهدفت بالأساس القواعد العسكرية ومراكز الخبراء الإيرانيين المنتشرة في سوريا، سواء كانت قريبة من الحدود أو في وسط دمشق، كما واصلت استهداف قوافل السلاح المنقول لحزب الله في لبنان، وكذلك مراكز الأبحاث والصواريخ النوعية السورية.

مسارات متوازية

اتجهت إسرائيل بداية من نوفمبر 2020، إلى رفع وتيرة ضربانها الرادعة لإيران في سوريا، واتضح ذلك من خلال الغارات المكثفة التي شنها الطيران الحربي الإسرائيلي في 18 نوفمبر من العام نفسه، والتي كشفت كثافتها الهجومية أنها لم تتناسب مع الهدف المعلن عنه من جانب الجيش الإسرائيلي بأنها جاءت رداً على استهداف "السيادة الإسرائيلية"، نتيجة زرع عناصر تابعة لإيران عبوات ناسفة قرب خط وقف إطلاق النار في هضبة الجولان، مع العلم بأن العبوات لم تنفجر ولم توقع أضراراً مادية أو بشرية، في حين تسبب القصف الإسرائيلي في سقوط عشرة قتلى وعدة مصابين آخرين، جراء استهداف ثمانية مواقع لإيران، توزعت ما بين مقرات قيادة ومخازن ومستودعات أسلحة، بالإضافة لاستهداف كتيبة دفاع جوي ومواقع عسكرية للحرس الثوري في ريف دمشق، فضلًا عن مهاجمة مواقع ومنظومات دفاع جوي تابعة للنظام السوري بالقرب من مطار دمشق، باعتبارها رسائل رادعة وواضحة للأخير بأن استمرار تحالفه مع إيران سوف تكون له كلفة عالية.

وتوازت تلك الضربات مع تحركات دبلوماسية على المستوى الدولي، لمواجهة التمدد الإيراني في سوريا، حيث دعا مندوب إسرائيل الدائم لدى الأمم المتحدة، جلعاد إردان، في 24 نوفمبر 2020، مجلس الأمن الدولي إلى اتخاذ إجراءات فورية لإخراج القوات الإيرانية من سوريا. كما وجه رسالة رسمية إلى رئاسة مجلس الأمن قال فيها: "إن النظام السوري يواصل السماح لإيران ووكلائها باستخدام أراضيه، بما في ذلك المنشآت العسكرية والبنية التحتية، لترسيخ وجودها في سوريا وتقويض جهود الحفاظ على الاستقرار في المنطقة".

وهنا، لا يمكن الفصل بين التصعيد العسكري الإسرائيلي ضد إيران والنظام السوري وحزب الله في سوريا، وتزايد حدة القلق التي تنتاب تل أبيب إزاء المعطيات الجديدة التي تفرضها التطورات التي طرأت على الساحة الإقليمية، لاسيما فيما يتعلق باتجاه إيران إلى رفع مستوى أنشطتها النووية من جديد رداً على العقوبات الأمريكية وعزوف الدول الأوروبية عن تعزيز العلاقات الثنائية ومساعدة طهران على مواجهة تداعيات العقوبات. وقد انعكس ذلك في رفع مستوى عمليات تخصيب اليورانيوم، وتوسيع نطاق عمليات التخصيب لتشمل مفاعل فوردو إلى جانب مفاعل ناتانز.

ولذا، كان لافتاً أن إيران سارعت، عقب اغتيال رئيس مؤسسة الأبحاث والتطوير في وزارة الدفاع الإيرانية العالم النووي محسن فخري زاده، في 27 نوفمبر 2020، إلى توجيه اتهامات مباشرة لإسرائيل بالمسئولية عن حادث الاغتيال. ورغم أن إسرائيل لم تتبن العملية بشكل رسمي، إلا أن بعض مسئوليها كانوا حريصين على توجيه تلميحات بأنها المسئولة عنها، وهو ما توازى مع رفع درجة الجهوزية العسكرية على الحدود مع سوريا تحسباً لأى رد فعل انتقامي من جانب إيران أو حلفائها رداً على مقتل فخري زاده.

ومع حلول عام 2021، وتحديدًا في 6 و13 يناير، وبالتوازي مع تصاعد التهديدات الإيرانية بالانتقام لمقتل سليماني وفخري زاده، هاجمت إسرائيل أهدافاً في شرق وجنوب شرق سوريا، ويبدو أنها سعت من خلال هذه الهجمات إلى تأكيد قدرتها على تتبع ومراقبة الأهداف الإيرانية في سوريا بدقة، خاصة وأنها جاءت عقب زيارة قام بها ضباط من الحرس الثوري الإيراني إلى الأخيرة.

رسائل متعددة

ربما يمكن القول إن إسرائيل تسعى عبر التصعيد العسكري المكثف في سوريا، إلى توجيه رسائل عدة في أكثر من اتجاه. فعلى الساحة الداخلية الإسرائيلية، فإن تلك العمليات العسكرية المتواصلة لا يمكن فصلها عن اقتراب موعد إجراء انتخابات الكنيست الـ24 في مارس 2021، حيث يسعى رئيس الوزراء الحالي بنيامين نتنياهو إلى استغلال تلك الضربات من أجل تعزيز موقعه السياسي في مواجهة خصومه وتقليص حدة الضغوط التي يتعرض لها بسبب قضايا الفساد التي تلاحقه، عبر تصدير مشهد التهديدات الأمنية التي تواجه إسرائيل من الجبهة الشمالية، وجدية حكومته في ترسيخ أمنها وفقاً للخطوط الحمراء التي سبق وحددتها.

وعلى المستوى الدولى، تحاول إسرائيل عبر تلك الضربات توجيه انتباه روسيا بشأن عدم التزام إيران بالتفاهمات الإسرائيلية- الروسية المتعلقة بمنعها من الوجود في المنطقة الحدودية السورية- الإسرائيلية، ودعم النظام السوري لها، وربما تسعى من خلال ذلك إلى توسيع نطاق الخلافات بين روسيا وإيران، والتي بدأت في النضوج تدريجياً بعد تغير توازنات القوى على الساحة السورية لصالح النظام، حيث تبذل روسيا جهوداً حثيثة من أجل تكريس نفوذها على المستويات المختلفة داخل سوريا وتعزيز دورها باعتبار الطرف الرئيسي الذي يمتلك القدرة على إعادة توجيه مسارات الأزمة، بشكل لا يتوافق مع مصالح وحسابات إيران وحلفائها.

كما لا ينفصل ذلك عن القلق الذي ينتاب إسرائيل بسبب الإشارات الإيجابية التي وجهها الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن إلى إيران، حتى قبل فوزه في الانتخابات، والتي تعزز من احتمالات إقدامه على إجراء تغيير في السياسة الأمريكية تجاهها، لاسيما فيما يتعلق بالوصول إلى تفاهمات معها حول الاتفاق النووي بشكل يمكن أن يساهم في تقليص حدة الضغوط التي تتعرض لها إيران في الوقت الحالي.

ومن هنا، سعت إسرائيل عبر تلك الضربات إلى ممارسة ضغوط مبكرة على الإدارة الأمريكية الجديدة من أجل استيعاب مصالحها وحساباتها في محاولاتها اختبار مدى القدرة على الوصول إلى تفاهمات مع إيران، وتوجيه انتباه الإدارة إلى أن الخلافات مع الأخيرة لا تنحصر في الاتفاق النووي، وإنما تمتد إلى الدور الإقليمي وبرنامج الصواريخ الباليستية. ويبدو أن الإدارة بدأت في استيعاب ذلك، على نحو انعكس في تأكيدها على ضرورة توسيع نطاق التفاوض مع إيران ليشمل تلك الملفات الخلافية.

ولا تستبعد تل أبيب في هذا السياق، أن يكون التصعيد الإيراني في الملف النووي، ممثلاً في الإعلان عن إنتاج أول كمية من اليورانيوم المخصب بدرجة 20% من منشأة فوردو، وتهديد نواب في البرلمان الإيراني بطرد مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية من إيران إذا لم ترفع الولايات المتحدة العقوبات المالية والمصرفية والنفطية المفروضة عليها، مجرد خطوات تكتيكية لتعزيز موقع إيران التفاوضي قبل الانخراط في أية محادثات مع إدارة بايدن. ومن هنا، لا يمكن استبعاد أن تقوم إسرائيل بدورها بخطوات تصعيدية جديدة من أجل وضع حدود للمعطيات التي يمكن أن تسفر عنها تلك المحادثات المحتملة.

ختاماً، يتضح مما سبق أن التصعيد العسكري الإسرائيلي داخل سوريا ربما يتواصل خلال المرحلة القادمة، خاصة في الشهور الأولى من تولي الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن مقاليد منصبه، والذي يبدو أنه سيمنح الأولوية خلال تلك الفترة للتعامل مع الملفات الداخلية الرئيسية، على نحو سوف يوفر فرصة لبعض القوى الإقليمية من أجل تبني سياسة جديدة لإعادة التموضع في الإقليم، وتقليص خيارات خصومها، قبل أن يبدأ الرئيس الأمريكي في اختبار مقارباته الجديدة إزاء قضايا الشرق الأوسط.