تعكس السياسة الأمريكية تجاه الأزمة اليمنية منذ اندلاعها فى سبتمبر 2014 توجهات متناقضة تماماً بين الإدارتين الديمقراطية والجمهورية. فقبيل مغادرة الإدارة الديمقراطية الأمريكية السابقة فى عهد الرئيس باراك أوباما البيت الأبيض قام وزير الخارجية جون كيري بطرح مبادرة فى سلطنة عمان (25 أغسطس 2016)  لتسوية الأزمة تضمنت رؤية شاملة لحلها بتفكيك القوة العسكرية للميليشيا الحوثية مقابل إدماجها سياسياً فى السلطة. وعلى العكس من ذلك، قررت وزارة الخارجية في إدارة الرئيس دونالد ترامب تصنيف الحركة جماعة إرهابية عشية مغادرتها البيت الأبيض فى 20 يناير 2021، وأيضاً وضعت الخارجية مذكرة محكمة لإحالة القرار إلى الكونجرس تتضمن أهداف ودوافع اتخاذ هذا القرار، ومن ثم فالقاسم المشترك الوحيد بينهما هو اتخاذ تلك القرارات فى "الوقت الضائع"، مع ترحيل الملف برمته للإدارة التالية.

أبعاد ثلاثة

يمكن القول إن السياسة الأمريكية تجاه الأزمة اليمنية ارتكزت على عدد من الأبعاد التي تعاملت مع أعراضها وتأثيرتها دون الانخراط فيها، كان أهمها أبعاد رئيسية ثلاثة هى:

1- خيارات بلا استراتيجية: أغلب الترجيحات لدى المراقبين الأمريكيين، ومنهم دبلوماسيين سابقين عملوا فى الشرق الأوسط، تميل إلى أن إدارة الرئيس جو بايدن تتجه إلى إغلاق صفحة هذا القرار باعتباره أحد موروثات إدارة الرئيس دونالد ترمب التي يتعين التخلص منها، لاسيما أنه يعكس سياسة تصعيدية، بينما تتجه الإدارة الجديدة إلى انتهاج مسار معاكس وتبني الخيار المقابل وهو خفض التصعيد ودفع مسار تسوية الأزمة.

وبالتالي فمحصلة السياسة الأمريكية فى هذا الملف تترجم فى مواقف الإدارات التي تتراوح بين خيارات ثنائية (تسوية – تصعيد) دون أن تنطلق من "رؤية استراتيجية" أوسع، على نحو يؤدي بها إلى العودة من جديد للمربع الأول فى الأزمة. وربما يتضح هذا الفارق، على سبيل المثال، في حالة مقارنته بالرؤية الواضحة التي تتبناها واشنطن فى التعامل مع تنظيم "القاعدة" فى اليمن، حيث نجحت عبر ذلك في إضعافه بشكل كبير هناك.

2- قضية فرعية: تتعامل الولايات المتحدة مع الأزمة اليمنية كقضية ثانوية ليست مستقلة بذاتها، من زاوية نظرتها للحوثيين باعتبارهم أحد وكلاء إيران فى الإقليم. فعبر المنظور ذاته، صنّفت حركات فى العراق، مثل عصائب أهل الحق، كتنظيم إرهابي، وهو ما يمثل فى واقع الأمر خللاً فى القياس، فحركة الحوثيين ليست مجرد فصيلاً متمرداً تابعاً لإيران، ضمن شبكة واسعة من التنظيمات، يرفع شعاراً مناهضاً للولايات المتحدة "الموت لأمريكا"، وإنما هى جماعة أطاحت بالحكومة الشرعية وتسيطر على ما يقارب من ربع مساحة البلاد بما فيها العاصمة، وبالتالي لديها قدرات أكبر فى تهديد المصالح الأمريكية ومصالح الحلفاء، وهو أمر مثبت بالفعل، إذ أن أقصى ما تفعله التنظيمات العراقية هو إطلاق قذائف على معسكرات أو السفارة الأمريكية فى العراق، لكن الميليشيا الحوثية حاولت استهداف ثلاث سفن حربية أمريكية (مايسون - يو إس إس بونس- يو إس إس نيمتز) فى أكتوبر 2016 بصواريخ موجهة من سواحل الحديدة.

3- توظيف الأزمة: تعاملت الإدارات الأمريكية مع أعراض الأزمة لاسيما الشق الأمني بمنطق التوظيف، فلم تنخرط القوات الأمريكية فى المعركة التي يشنها تحالف دعم الشرعية ضد الحوثيين على الرغم من تأييد واشنطن لمواقفه، لكنها قدمت إسناداً لوجستياً، كالإسناد الجوي، خاصة إمداد الطائرات بالوقود فى الجو، وتوفير بعض المعلومات الاستخبارية الميدانية بالأقمار الصناعية، كما أبرمت صفقات عسكرية لتوفير منظومات دفاعية مثل (THAD- PATRIOT) لاعتراض الصواريخ الحوثية، فضلاً عن توفير الذخائر التي تستخدم فى الهجمات على مواقع الميليشيا الحوثية.

ملاحظات عديدة

صنّف القرار الميليشيا بشكل عام كجماعة إرهابية بداية من 19 يناير الجاري (آخر اجتماع للجان الكونجرس الحالي بأغلبيته الجمهورية)، وأدرج القيادات الثلاثة الرئيسية فى الجماعة على قائمة الإرهابيين الدوليين، وهم زعيمها عبد الملك الحوثي، وشقيقه عبد الخالق الحوثي قائد ألوية الحرس الجمهوري والقوات الخاصة والمنطقة المركزية العسكرية فى صنعاء، وعبد الله يحيى الحاكم الشهير بـ"أبو على الحاكم" قائد الجناح العسكري للجماعة وأحد أبرز قياداتها العسكرية. وارتكزت وزارة الخارجية في تبرير القرار على أربع مبررات رئيسية: أولها، محاسبة الميليشيا على أعمالها الإرهابية، التي تشمل ممارساتها الوحشية ضد المدنيين اليمنيين، والهجمات العابرة للحدود والتي تهدد السكان والبنية التحتية والشحن التجاري. وثانيها، استهداف علاقة الميليشيا بإيران، التي احتضنتها ومولتها مالياً وعسكرياً. وثالثها، عرقلة التسوية السلمية. ورابعها، استهداف حركة الملاحة الدولية فى البحار.

وفى هذا السياق، يمكن إبداء ملاحظات أساسية ثلاث: الملاحظة الأولى، أن الشخصيات الثلاثة التي تم إدراجها على لائحة الإرهاب سبق وضعها على قائمة العقوبات بقرار مجلس الأمن منذ عام 2014 مع قيام الميليشيا بالانقلاب على الحكومة الشرعية، كما أنها مدرجة على قائمة التحالف العربي لاستعادة الشرعية فى اليمن، والتي تتضمن 40 شخصية حوثية، وبالتالى تفرض عملية تسميتهم على اللائحة الأمريكية عقوبات إضافية عليهم.

والملاحظة الثانية، أنه رغم أن توقيت اتخاذ القرار ارتبط باقتراب موعد رحيل الإدارة الأمريكية الحالية، إلا أن ذلك لا ينفي تنامي التهديدات التي تفرضها الجماعة الحوثية قبيل إعلانه، خاصة في ظل الحضور المباشر للحرس الثوري الإيراني فى صنعاء ممثلاً فى حسين ايرلو سفير طهران لدى الجماعة، وهو ما يمثل نقطة تحول فارقة فى دور "الباسدران" فى اليمن، على نحو لا يمكن فصله عن تطورات أخرى مهمة مثل محاولة اغتيال الحكومة اليمنية بعد تشكيلها ووصولها إلى العاصمة الانتقالية عدن، فى 30 ديسمبر الماضي، والتوسع فى الهجمات البحرية خارج نطاق مناطق النفوذ الحوثي كبحر العرب ومضيق باب المندب، والتي أصبحت تستهدف الحركة الملاحية الدولية بشكل عام وليس فقط حركة دول التحالف، فضلاً عن نشر ألغام بحرية نوعية من طراز "صدف" الإيرانية.

والملاحظة الثالثة، أنه يفترض أن قرار الإحالة لا يتوقف فقط على موقف الخارجية الأمريكية وإنما يتصل أيضاً بموقف وزارة الخزانة. فقد فرضت إدارة مراقبة الأصول الأجنبية في الوزارة، فى 10 ديسمبر الماضي، عقوبات على خمس قيادات أمنية حوثية هم سلطان زابن المدير الحالي لإدارة التحقيقات الجنائية في صنعاء، وعبدالحكيم الخيواني مدير جهاز الأمن والمخابرات، وعبدالرب جرفان الرئيس السابق لجهاز الأمن القومي، ونائبه مطلق عامر المراني، ونائب مدير جهاز الأمن والمخابرات المدير السابق في جهاز الأمن السياسي عبدالقادر الشامي)، لتورطهم فى انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان.

مساران محتملان

ربما يمكن القول إن الأزمة اليمنية قد تتجه إلى أحد مسارين رئيسيين بعد القرار الذي اتخذته واشنطن مؤخراً: المسار الأول، يتمثل في تراجع فرص التسوية، وهو ما تشير إليه اتجاهات عديدة تستند إلى اعتبارين: أولهما، أن القرار فرض إشكالية جديدة تتعلق بآليات التفاوض مع ميليشيا مصنفة كتنظيم إرهابي. وفي الواقع، فإن هذه الإشكالية تم تجاوزها مباشرة عقب صدور القرار، لاسيما أنه لا يعكس مواقف القوى الأخرى المنخرطة في عملية التسوية، مثل بريطانيا، التي تتولى هذا الملف فى الأمم المتحدة، وينتمي إليها المبعوث الأممي مارتن غريفث. ففي أول لقاء جمع الأخير والأمير خالد بن سلمان نائب وزير الدفاع السعودي، تم تجاوز هذا الشق بإعلان الأخير عن حرص الرياض – التي رحبت بالقرار - على التوصل إلى حلٍ سياسي شامل في اليمن وفق المرجعيات الثلاث، يحقق الأمن والاستقرار لليمن وشعبه العزيز ويحافظ على أمن المنطقة، بما يعني أنه لا يوجد تعارض بين القرار والتفاوض مع الميليشيا وفق المرجعيات الرئيسية المقررة، حيث تم حصر المسألة فى إطار العلاقة بين الحكومة الشرعية والحوثيين، وهو ما ورد فى بيان التحالف الذي عقّب من خلاله على القرار الأمريكي، على نحو يوحي بأنه لا تزال هناك فرص لكنها مقيدة بشروط.

وثانيهما، أن الميليشيا يمكن أن ترد على هذا القرار برفع مستوى التصعيد أكثر مما وصل إليه، لاسيما وأن ردود فعلها الأّولية ألمحت إلى ذلك، حيث أشار القيادي محمد على الحوثي إلى أن جماعته تحتفظ بحق الرد على الجانب الأمريكي. ولكن من الناحية الواقعية فيما يتعلق بالردع، فإن الأثر الخاص بهذا القرار يظل سياسياً أكثر منه عسكرياً، كما أن أى تصعيد محتمل لن يرتبط بهذا القرار، بقدر ما سيتعلق في المقام الأول، بحدود التفاهمات المحتملة بين طهران وإدارة بايدن في المرحلة القادمة.

والمسار الثاني، ينصرف إلى دعم عملية التسوية، وهو ما تراهن عليه بعض التقديرات، التي ترى أن المتغير الأساسي في هذا السياق سوف يكمن في موقف إدارة بادين من الأزمة بشكل عام، إذ أن أى تغير محتمل قد يشكل منعطفاً فى الأزمة، خاصة أنه لن ينفصل عن موقفها من التهدئة مع إيران. لكن هذا الرهان لا يتضمن قيام الإدارة الجديدة بإلغاء القرار على الفور، بالنظر إلى الإجراءات التي يتطلبها ذلك، والتي تحتاج لبعض الوقت، بينما تبدو الإدارة منشغلة بالوضع الداخلي فى ظل حالة التوتر التي سببتها إدارة ترامب مؤخراً، فضلاً عن أن تفاهماتها مع إيران قد تتطلب وقتاً بدورها.

وفي هذا السياق، قد يوفر القرار، فى حد ذاته، ورقة ضغط للإدارة الجديدة في مواجهة الحوثيين ربما تستخدم لدفعهم إلى القبول بالتهدئة حتى يمكن إفساح الطريق للبدء فى عملية التسوية، لاسيما وأن الإدارة لن تتغاضى عن التحديات التي تفرضها الميليشيا، وفى مقدمتها تهديدها لحركة الملاحة.

وربما تمثل عودة وزير الخارجية الأسبق جون كيرى كمستشار للبيت الأبيض فرصة لإعادة تقديم الطرح الذي تبناه قبل مغادرته منصبه في عهد إدارة أوباما، حتى وإن كانت لديه مهمة أخرى كمستشار للملف الخاص بالمناخ والبيئة، حيث لا يمكن إغفال دوره كمفاوض مع إيران وصاحب مبادرة لتسوية الأزمة.

فى الأخير، يمكن القول إن النتائج المترتبة على قيام الولايات المتحدة بإدراج الميليشيا الحوثية كحركة إرهابية قد تحتاج إلى مزيد من الوقت قبل أن تتضح معالمها، لاسيما في ظل اتجاه الإدارة الجديدة إلى إبداء اهتمام أكبر بالملفات الداخلية، التي تراكمت بفعل سياسات الإدارة الحالية، فضلاً عن ارتباط أى انخراط أمريكي محتمل في الملف اليمني بحدود التفاهمات التي يمكن التوصل إليها مع إيران في المرحلة القادمة، والتي تواجه بدورها تحديات لا تبدو هينة يفرضها استمرار التصعيد الإيراني على المستويات المختلفة.