حسين سليمان

باحث اقتصادي - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

توصل الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة، في 24 ديسمبر الماضي (2020)، إلى اتفاقية لتنظيم خروج الأخيرة من الأول، والذي تم فعلياً مع بداية العام الجديد 2021. وكانت المملكة قد خرجت من الاتحاد بصورة رسمية منذ مطلع عام 2020، ولكن تم تأجيل الخروج الفعلي لمدة عام، كفترة انتقالية يتم التوصل فيها لاتفاق حول شكل العلاقة بين الطرفين في أعقاب هذه الخطوة. وجاء الاتفاق ليؤسس منطقة تجارة حرة بينهما، أى أنه وفقاً للاتفاق لن يؤدي خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي إلى فرض ضرائب أو تعريفات جمركية على تجارة السلع بين الطرفين، أو وضع قيود على حجم التجارة بينهما، في استمرار لحرية التجارة القائمة أثناء عضوية المملكة في الاتحاد.

وتمكن الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة، عبر هذا الاتفاق، من تجنب تداعي العلاقات الاقتصادية بينهما، والذي كان ينذر به خروج المملكة دون اتفاق، وما كان سيعقبه من تبادل في فرض التعريفات الجمركية والإجراءات الحمائية بين الطرفين، وهو الخيار الذي بدا قريباً خلال فترات عديدة أثناء المفاوضات الممتدة بين الطرفين، وكذلك بسبب التوازنات السياسية الداخلية في المملكة المتحدة. وبالتالي، ستحتفظ الأخيرة في ظل هذا الاتفاق بالتجارة الحرة في السلع مع الشريك الاقتصادي الأبرز لها. ففي عام 2019 مثّلت التجارة مع الاتحاد الأوروبي 47% من إجمالي التجارة الخارجية للمملكة، من خلال استحواذ الاتحاد على 43% من صادرات المملكة، ومدها بـ52% من إجمالي وارداتها [1].

تأثير الخروج

وعلى الرغم من التوصل للاتفاق، وتفعيل منطقة تجارة حرة في السلع بين الطرفين، إلا أن خروج المملكة المتحدة سيؤدي إلى فرض إجراءات غير جمركية على التجارة السلعية بين الطرفين، في صورة مستندات وشهادات صحية وتصاريح وغيرها. وفي حين قد تبدو هذه الإجراءات أقل أهمية في حركة التجارة، إلا أنها في الواقع قد أصبحت خلال السنوات الأخيرة أكثر تقييداً من الإجراءات الجمركية على التجارة العالمية. وتشير التقديرات إلى أن تكلفة القيود غير الجمركية على التجارة العالمية أصبحت تفوق ضعف تكلفة القيود الجمركية، وتبلغ إجمالي التكلفة الاقتصادية للقيود غير الجمركية 1.6% من الناتج الإجمالي العالمي، أى 1.4 تريليون دولاراً تقريباً [2]، وبالتالي، فإن عودة القيود غير الجمركية على حركة التجارة بين الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة، بعد الخروج والاتفاق، من شأنها أن تُقوِّض من حركة التجارة بين الطرفين.

علاوة على ذلك، فإن التأثير الأكبر للخروج من الاتحاد الأوروبي سيكون على تجارة الخدمات، وهى التي تمثل 41% من إجمالي صادرات المملكة إلى الاتحاد الأوروبي، وتحقق فيها الأولى فائضاً مع الثاني على عكس تجارة السلع [3]. وستفقد المؤسسات المالية في المملكة امتياز تقديم خدماتها في الاتحاد الأوروبي بحُرية بعد الخروج منه، وستخضع، عوضاً عن ذلك، كحال تجارة الخدمات المختلفة بين الطرفين، لعدد من القيود التي لم يعالجها الاتفاق الأخير، والتي يرتبط بعضها كذلك بالقيود على حركة الأفراد، الناتجة عن خروج المملكة من الاتحاد الأوروبي، والتي وفقاً لها سيحتاج مواطنوها إلى تصاريح للعمل في دول الاتحاد. وتعد حركة الأفراد ركناً هاماً في آلية تجارة الخدمات، خاصة الخدمات المهنية كالاستشارات، يضاف إليها كذلك إشكالية الاعتراف المتبادل بالمؤهلات، والذي كان تلقائياً قبل الخروج من الاتحاد، ولكنه غير مشمول في الاتفاق الأخير، بما يعني أن مقدمي الخدمات من المملكة المتحدة بات عليهم الحصول على اعتراف بمؤهلاتهم في كل دولة أوروبية يسعون إلى تقديم خدماتهم فيها. وبالإضافة لذلك، ستتأثر تجارة الخدمات الرقمية على وجه الخصوص بمدى اعتراف الاتحاد بآليات حماية البيانات في المملكة المتحدة، وهو ما لم يتم حسمه أيضاً في الاتفاق [4].

بالتالي، وحتى في ظل اتفاق التجارة الحرة، فمن المُتوقع أن يؤدي خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي إلى تراجع صادراتها بـ6.1% على المدى المتوسط، ووارداتها بـ7.8%، مقارنة بوجودها داخل الأخير. وتشير التقديرات كذلك إلى أن الخسارة في الناتج الإجمالي للمملكة قد تصل إلى 3.5%، تسهم فيها القيود غير الجمركية على تجارة السلع بالثُلثين، وتراجع تجارة الخدمات، بالثُلث المتبقي. أما إذا تم إضافة تأثير القيود على حركة الأفراد كذلك، فستصل الخسارة في ناتج المملكة إلى 4.2%. ومن المُتوقع أن تُترجم هذه الخسارة في الناتج إلى زيادة معدل البطالة فيها بـ1% تقريباً. وتشير التقديرات إلى تباين هذه الخسائر المُتوقعة، من قطاع إلى آخر بصورة غير متساوية، على أن تأتي في صدارة الخاسرين قطاعات التصنيع التقليدية، وأبرزها صناعة المركبات وأجزائها، التي قد ترتفع البطالة فيها بـ2.4%، وكذلك صناعة النسيج والملابس، والصناعات الكيماوية [5].

الخيار الأمريكي

بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي، سيصبح بمقدور المملكة المتحدة عقد اتفاقات تجارية منفردة، ومناطق تجارة حرة وخلافه، مع أطراف أخرى حول العالم، على عكس الوضع داخل الاتحاد، والذي تلتزم الدول الأعضاء فيه بتوحيد سياساتها التجارية مع الدول غير الأعضاء. وفي مقدمة هذه الاتفاقات التجارية المحتملة، كانت المملكة المتحدة تعقد آمالاً على تعويض خسائر خروجها من الاتحاد الأوروبي، من خلال اتفاقية تجارية جديدة وفورية مع الولايات المتحدة الأمريكية، تأخذ التبادل الاقتصادي بينهما إلى مرحلة أبعد. وتعد الولايات المتحدة الأمريكية بالفعل شريكاً تجارياً أساسياً للمملكة المتحدة، فهى تستحوذ على 21% من صادرات المملكة، وتمدها بـ13% من إجمالي وارداتها [6].

لكن آفاق هذه الشراكة المحتملة العاجلة، والتي كان يُعوِّل عليها رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، في حالة فوز الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بفترة رئاسية ثانية، قد تراجعت سريعاً بعد فوز جو بايدن بانتخابات الرئاسة الأمريكية. فدونالد ترامب كان قد لوح مراراً بفرص عقد اتفاق تجاري بين الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة، فور خروج الأخيرة من الاتحاد الأوروبي، في دعم واضح وقوي لخطوة خروج المملكة. ولكن على النقيض، أبدى بايدن سابقاً معارضة واضحة لخروج المملكة من الاتحاد، وربط، بعد فوزه في الانتخابات، أى اتفاق ثنائي بين الطرفين باحترام ترتيبات خروج المملكة من الاتحاد، والتي تتعلق بشكل خاص بالتجارة بينها وبين أيرلندا الشمالية، وهى ترتيبات كان يسعى جونسون لتغييرها، على نحو كان سينتج عنه تهديد للسلام المتحقق في أيرلندا الشمالية منذ التسعينات. وتشير بعض التقارير إلى أن الرئيس الأمريكي المنتخب جو بايدن قد مارس ضغوطاً بشكل صريح على رئيس الوزراء البريطاني خلال الأسابيع الأخيرة، للتوصل لاتفاق مع الاتحاد الأوروبي لتنظيم خروج المملكة المتحدة، وهدد بعدم توقيع أى اتفاق تجاري ثنائي مع الولايات المتحدة الأمريكية، في حال خرجت المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي بدون اتفاق، وهو ما كان له دور كبير في التوصل للاتفاق في الأيام الأخيرة من العام [7].

فضلاً عن ذلك، لا تعني استجابة المملكة المتحدة لتهديدات بايدن أن الاتفاق التجاري الثنائي بين البلدين سيمضي قدماً بعد توصل المملكة المتحدة لاتفاق مع الاتحاد الأوروبي. ففي واقع الأمر، قد لا يكون هذا التلويح بالاتفاق المحتمل سوى ورقة ضغط من الإدارة الأمريكية الجديدة على المملكة المتحدة، بدون نية حقيقية لتوقيع مثل هذا الاتفاق سريعاً. وحتى إن تم بالفعل توقيع اتفاق تجاري مشترك بين الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة في وقت قريب، فمن المتوقع أن يكون محدود النطاق والتأثير بالمقارنة بما كان يأمل جونسون في توقيعه مع إدارة ترامب حال فوزه. ويعزز من تلك الاحتمالات موقف بايدن من التجارة الخارجية، المغاير لموقف الرئيس أوباما الذي كان الأول نائباً له. ففي حين كان أوباما داعماً قوياً وصريحاً لحرية التجارة العالمية، ووقع في سنواته الأخيرة اتفاقية المحيط الهادئ للشراكة الاقتصادية، التي انسحب منها ترامب فور فوزه، وبدأ في مفاوضات في اتفاقية الشراكة الأطلسية مع الاتحاد الأوروبي، والتي علّقها ترامب أيضاً، فإن البرنامج الانتخابي لبايدن، وتصريحاته، تشير إلى أن حرية التجارة الخارجية ليست في مقدمة أولوياته، بل يركز، عوضاً عن ذلك، على الإصلاحات الاقتصادية الداخلية، وجذب الصناعات مرة أخرى للداخل الأمريكي، وتحقيق مصالح العمالة المحلية وتعزيز التنافسية الأمريكية. وبالتالي، فقد لا يتخذ بايدن، على الأقل في سنواته الأولى، خطوات قوية تجاه تعزيز حرية التجارة من خلال اتفاقيات جديدة مع الشركاء المختلفين، وفي مقدمتهم المملكة المتحدة، على عكس ما كان يطمح إليه رئيس وزراء المملكة بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي. والأسوأ من ذلك، بالنسبة إلى إدارة جونسون، أنه حتى إن شرعت إدارة بايدن لاحقاً في عقد بعض الاتفاقات التجارية، فمن المحتمل ألا تكون الأولوية للمملكة المتحدة، بل قد تسعى أولاً لإعادة النظر في اتفاقيتى المحيط الهادئ، والشراكة الأطلسية مع الاتحاد الأوروبي، بالإضافة لتسوية النزاع التجاري مع الصين، نظراً للثقل الاقتصادي لهذه الشراكات بالمقارنة بالمملكة المتحدة.

ختاماً، يأتي تفعيل خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، وما سيترتب عليه من خسائر لاقتصادها، في وقت حرج تعاني فيه المملكة ومازالت، كحال بقية دول العالم، من الأزمة الاقتصادية القاسية الناجمة عن وباء كوفيد- 19، وإجراءات الإغلاق العالمي المصاحبة له. وعلى الرغم من التوصل لاتفاق بالحفاظ على حرية التجارة بين المملكة والاتحاد بعد الخروج، إلا أن هذا لن يمنع من تضرر اقتصاد المملكة من هذه الخطوة. وبالإضافة لذلك، فما تزال هنالك بعض الأمور العالقة التي سيتم التفاوض عليها خلال العام الجديد، والأعوام القليلة التالية كذلك بين الطرفين، وهى في أغلبها بنود خلافية شائكة، قد ينتج عنها المزيد من تصدع العلاقات الاقتصادية بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي، بما قد يعزز من خسائر اقتصاد المملكة.

وعلى ما يبدو، فقد كانت حكومة بوريس جونسون، على عكس سابقته تيريزا ماى، متحمسة للإسراع في إجراءات الخروج من الاتحاد، وتراهن بصورة واضحة على تقاربه مع الرئيس الأمريكي ترامب، وتوتر علاقة الأخير مع الاتحاد الأوروبي، ورغبته في دعم المملكة اقتصادياً وسياسياً، تحت قيادة جونسون، لتقديم اتفاق تجاري سريع وواسع النطاق للمملكة فور خروجها من الاتحاد الأوروبي. وبعد فوز بايدن رسمياً برئاسة الولايات المتحدة الأمريكية، وتراجع احتمالية عقد مثل هذا الاتفاق الثنائي العاجل، تجد المملكة المتحدة نفسها وقد ازدادت عزلتها وتراجع تكاملها الاقتصادي مع العالم الخارجي، وقد تبدأ حكومتها جراء ذلك خلال المرحلة المقبلة في السعى نحو عقد شراكات واتفاقات اقتصادية مع أطراف أخرى حول العالم، حتى وإن كانت أقل ثقلاً وتأثيراً من الاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة الأمريكية، وحتى إن كان ذلك فقط لتحقيق مكاسب سياسية أمام الناخبين محلياً.


[1] Ward, M., “Statistics on UK-EU Trade”, House of Commons Library, Briefing Paper, No. 7851, (2020).

[2] UNCTAD, “Asia-Pacific Trade and Investment Report 2019: Navigating Non-Tariff Measures Towards Sustainable Development”, (2019).

[3]  OECD, “OECD Economic Surveys: United Kingdom”, (2020).

[4] Hall, S., “The Brexit Deal and Services Sector”, UK in Changing Europe, (2020).

[5] OECD, Op. Cit.

[6] Ward, M. Op. Cit.

[7] The Economist, “Biden Puts Pressure on Johnson to Do A Deal with the EU”, (November 12, 2020).

https://www.economist.com/britain/2020/11/12/biden-puts-pressure-on-johnson-to-do-a-deal-with-the-eu