مع اقتراب موعد وصول الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى البيت الأبيض في 20 يناير الجاري (2021)، تتزايد التساؤلات حول مدى قدرته على ترجمة مقاربته الخاصة بالاتفاق النووي مع إيران التي تسمى بـ"العودة مقابل العودة" إلى خطوات تنفيذية على الأرض. وفي الواقع، فإن ما يضفي مزيداً من الأهمية على تلك التساؤلات هو أن مسألة العودة إلى الاتفاق النووي في حد ذاتها قد لا تكون سهلة. إذ أنها لا تنحصر في مجرد رفع العقوبات الأمريكية مقابل التزام إيران بتعهداتها، بعد أن كشف التصعيد بين واشنطن وطهران في العامين الماضيين عن الثغرات الكثيرة التي يتضمنها هذا الاتفاق.
أبرز المؤشرات التي تتضح معها صعوبة تلك المهمة يتعلق بجهود واشنطن لضم برنامج الصواريخ الباليستية إلى الملفات التي يمكن أن تجري حولها المفاوضات المحتملة مع إيران. إذ قال مستشار الرئيس بايدن للأمن القومي جيك سوليفان، في 3 يناير الجاري، أن "برنامج إيران الصاروخي سيكون مطروحاً على الطاولة إذا عادت الولايات المتحدة الأمريكية إلى الاتفاق النووي"، مضيفاً أن "التفاوض سيكون مقدمة فقط لمفاوضات ملحقة باتفاق العام 2015 ما سيتطلب وضع برنامج إيران للصواريخ الباليستية على الطاولة".
ورغم أن البرنامج الصاروخي ورد ذكره بالفعل في قرار مجلس الأمن رقم 2231 الذي صدر بعد الوصول للاتفاق النووي، لاسيما في إطار القيود التي كان من المفترض أن تلتزم بها إيران، حيث دعاها القرار إلى وقف أى أنشطة خاصة بتطوير الصواريخ المصممة لتكون قادرة على حمل أسلحة نووية، فإن هذا القيد لم يكن له تأثير على الأرض، خاصة أنه تعرض لـ"تفسيرات قانونية وفنية" متباينة بين إيران والدول الغربية، لاسيما بعد أن اعتبرت الأولى أن الصواريخ التي تمتلكها ليست مصممة لحمل أسلحة نووية.
مستوى التهديد
يمكن تفسير تزايد اهتمام واشنطن ببرنامج الصواريخ الباليستية الإيرانية في هذا التوقيت تحديداً في ضوء بداية ظهور اتجاه داخل الولايات المتحدة الأمريكية، وربما الدول الأوروبية، يرى ضرورة التمييز بين ما يمكن تسميته بـ"الخطر الآني" و"الخطر المُؤجَّل". فرغم التهديدات التي تفرضها أنشطة إيران النووية، لاسيما بعد أن واصلت تخفيض التزاماتها في الاتفاق النووي، على نحو بدا جلياً في قرارها البدء في عمليات تخصيب اليورانيوم بنسبة 20% في 4 يناير الجاري، فإن ذلك لا ينفي أنها لم تقترب بعد من "الخطوط الحمراء" التي لن تسمح بها القوى الدولية، حتى بما فيها القوى الحليفة لإيران مثل روسيا، أى المرحلة التي تمتلك فيها القدرة على إنتاج القنبلة النووية.
ورغم أن اتجاه إيران إلى رفع مستوى التخصيب بهذه النسبة، فضلاً عن استخدام أجهزة طرد مركزي أكثر تطوراً، وتوسيع نطاق عمليات التخصيب لتشمل مفاعل فوردو إلى جانب مفاعل ناتانز، يمكن أن يساهم في اختصار الفترة الزمنية التي تحتاجها للوصول إلى مرحلة امتلاك القدرة على إنتاج القنبلة، وهى فترة تختلف حولها التقديرات لاسيما أنها ترتبط باعتبارات سياسية وأمنية عديدة، إلا أن الوكالة الدولية للطاقة الذرية تؤكد أن إيران لم تتجه إلى تطوير أنشطتها النووية بناءً على ما تتيحه لها إمكانياتها، بما يعني أن إيران تمتلك من الإمكانيات ما يمكن أن يرفع من مستوى أنشطتها النووية بشكل أكبر مما هو قائم حالياً، وهو ما لم تقدم عليه حتى الآن رغم كل الخطوات التصعيدية التي اتخذتها، على نحو يبدو أنه يرتبط بترقبها للتغييرات المحتملة التي يمكن أن يجريها الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن على السياسة الأمريكية تجاهها.
هنا، يكتسب "الخطر الآني" الأهمية الأكبر بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها، والذي يكمن في برنامج الصواريخ الباليستية. فهذا البرنامج قائم بالفعل، ويعتبر الآلية الرئيسية التي تستخدمها إيران في استهداف مصالح خصومها. وبدا ذلك جلياً عندما أطلقت صواريخها الباليستية تجاه قاعدتين عراقيتين توجد بهما قوات أمريكية، في 8 يناير 2020، رداً على العملية العسكرية التي شنتها الولايات المتحدة الأمريكية، قبل ذلك بخمسة أيام، وأدت إلى مقتل قائد "فيلق القدس" التابع للحرس الثوري قاسم سليماني ونائب أمين عام ميليشيا الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس.
كما أن التصعيد الذي يجري حالياً داخل العراق، على خلفية الهجمات الصاروخية المتكررة التي تتعرض لها السفارة الأمريكية، لا يخلو من اتهامات لإيران ليس فقط بمواصلة دعم الميليشيات الموالية لها، وإنما بنقل صواريخ باليستية إلى داخل العراق، في إطار سعيها إلى رفع كُلفة اغتيال سليماني، الذي تسبب في ارتباك حساباتها بشكل واضح على مدى عام 2020 بأكمله.
ولا ينفصل ذلك، من دون شك، عن تجدد التهديدات الإيرانية باستهداف القواعد الأمريكية في المنطقة، من خلال الصواريخ. ففي أول يناير الجاري (2021)، قال حسين دهقان مستشار المرشد للشئون العسكرية وزير الدفاع السابق المرشح المحتمل للانتخابات الرئاسية التي سوف تجري في 18 يونيو 2021، أن "جميع القواعد العسكرية الأمريكية في المنطقة تحت مرمى النيران الإيرانية"، موجهاً "نصيحة" إلى الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته دونالد ترامب بـ"عدم تحويل العام الجديد إلى حداد على الأمريكيين".
دعم الحلفاء
بالتوازي مع ذلك، فإن الحرص على ضم برنامج الصواريخ الباليستية إلى المفاوضات المحتملة مع إيران سوف يساهم في توسيع مساحة التوافق مع الحلفاء، سواء الدول الأوروبية أو بعض دول المنطقة، خاصة أن هذا البرنامج قد لا يستهدف القواعد الأمريكية فحسب، بل إنه قد يمتد إلى مصالح تلك الدول، لاسيما بعد أن اتهمت إيران بالفعل بأنها وراء هجمات تعرضت لها تلك المصالح في بعض الفترات، حيث أكدت الأمم المتحدة، على سبيل المثال، في 12 يونيو 2020، أن الصواريخ التي استهدفت منشأتى خريص وبقيق التابعتين لشركة أرامكو السعودية (في 14 سبتمبر 2019) إيرانية الصنع. وقد كان لافتاً أن الموقف من إيران كان محوراً لخلافات واسعة بين إدارة الرئيس ترامب والدول الأوروبية، لاسيما بعد انسحبت واشنطن من الاتفاق النووي في 8 مايو 2018 وأعادت فرض عقوبات على إيران في 7 أغسطس من العام نفسه.
وقد سعت إيران إلى استثمار تلك الخلافات من أجل توسيع هامش الخيارات المتاح أمامها للتعامل مع الضغوط الأمريكية. ومن هنا، فإن اتجاه إدارة بايدن إلى إعادة التركيز على تبني سياسات متقاربة تجاه إيران يمكن أن يساهم في تقليص هذه الخيارات، ويفرض مزيداً من الضغوط على إيران، ويقلص من قدرتها على تعزيز موقعها التفاوضي عبر تخفيض التزاماتها النووية قبل أية مفاوضات محتملة مع الإدارة الأمريكية. وعلى ضوء ذلك، يمكن تفسير حرص واشنطن على توجيه رسائل بأن هذه المفاوضات المحتملة لن تقتصر على القوى الدولية التي توصلت للاتفاق النووي مع إيران، بل ستشمل قوى إقليمية من المنطقة.
رفض محتمل
هنا، تكمن مشكلة مقاربة "العودة مقابل العودة" التي سبق الحديث عنها. فإيران لن توافق بسهولة على ضم برنامج الصواريخ الباليستية إلى أية مفاوضات محتملة مع القوى الدولية بعد وصول بايدن إلى البيت الأبيض. بل إنها حاولت توجيه رسالة استباقية برفضها أية مفاوضات من الأساس. وربما يمكن القول إن ذلك يفرض تحديات لا تبدو هينة أمام مساعي الرئيس الأمريكي لتنفيذ مقاربته.
ومن دون شك، فإن رفض إيران لإعادة التفاوض مجدداً خاصة حول البرنامج الصاروخي، يعود إلى اعتبارين: أولهما، أنها لن تقدم تنازلات في هذا البرنامج تحديداً، باعتبار أنه الآلية الأساسية التي ترى أنها توفر لها القدرة على "الردع" أو بمعنى أدق القدرة على رفع كُلفة أى عمل عسكري قد تتعرض له، لاسيما بعد أن ثبت لها أن المواجهة العسكرية المباشرة مع الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل لم تعد بعيدة، على عكس ما كان قائماً في العقود الأربعة الماضية.
وثانيهما،أن الفريق الأكثر نفوذاً داخل النظام الإيراني يرى أن إيران قدمت تنازلات كبيرة في الاتفاق النووي ولم تحصل على عوائد تذكر منه بعد الانسحاب الأمريكي، وأنها لن تستطيع الوثوق مجدداً في إمكانية الوصول إلى اتفاق ملزم مع القوى الدولية لا تنسحب منه واشنطن مجدداً.
وانطلاقاً من ذلك، يمكن القول في النهاية إن مجرد العودة إلى المربع الأول للاتفاق النووي أصبحت خياراً لا يتسامح مع المعطيات الموجودة على الأرض، التي تشير إلى أن هذا الاتفاق يعاني من ثغرات أكثر ما يتضمن من بنود.