عُقد في منتصف شهر ديسمبر الحالي (2020)، اجتماعاً في جينيف في إطار مجموعة العمل الاقتصادية الليبية، وبحضور ممثلين عن فرعي المصرف المركزي الليبي في طرابلس وبني غازي، وعن وزارة المالية، والمؤسسة الوطنية للنفط، وديوان المحاسبة، والبنك الدولي. ويأتي هذا الاجتماع ضمن المسار الاقتصادي للتسوية الذي بدأ في يناير 2020، كواحد من ثلاثة مسارات في خطة السلام الليبي.وقد ناقش الاجتماع عدداً من الإصلاحات الاقتصادية المقترحة في ليبيا، جاء على رأسها الإصلاح النقدي عبر توحيد وتخفيض سعر الدينار الليبي مقابل العملات الأجنبية في أنحاء ليبيا، وتوحيد الموازنة العامة ورواتب الموظفين بين الأطراف المتنازعة، بالإضافة إلى محاولة إنهاء تجميد عائدات صادرات النفط في المصرف الليبي الخارجي.
وفي أعقاب الاجتماع، التقى مجلس إدارة المصرف المركزي الليبي لأول مرة منذ 5 سنوات، وذلك بعد أن كان المصرف قد انقسم في عام 2014، بمقره الرئيسي في طرابلس، مع تأسيس فرع آخر شرق ليبيا في بني غازي. وأدى هذا الانقسام خلال السنوات الماضية إلى وجود أكثر من سعر لصرف العملات الأجنبية داخل ليبيا بالإضافة إلى أزمة في السيولة. فقد كان سعر الصرف الرسمي مساوياً لـ 1.34 ديناراً للدولار في غرب ليبيا -مقر الفرع الرئيسي للبنك المركزي بطرابلس- بينما تخطى 5 دينارات للدولار الواحد في المناطق الأخرى التي تشهد سوقاً سوداء للعملات الأجنبية. وبسبب هذا التباين في أسعار الصرف بين المناطق المختلفة، اتسع حجم السوق السوداء، من خلال عمليات الحصول على الدولار بالسعر الرسمي المنخفض،ثم بيعه في مناطق أخرى بسعر السوق السوداء، وهو ما خلق نقصاً في السيولة لدى القطاع المصرفي الرسمي، وأثر على معيشة المواطنين والنشاط الاقتصادي في ليبيا،والذي يعتمد على النقد الأجنبي بصورة رئيسية في تمويل الواردات، التي تُعد المصدر الرئيسي للجزء الأكبر من السلع في السوق الليبي.
نتج عن هذا الاجتماع قرار بتوحيد سعر صرف الدينار الليبي في أنحاء البلاد، وتخفيضه عن السعر الرسمي في المصرف المركزي، ليساوي 4.48 ديناراً في مقابل الدولار الأمريكي، ليقترب بذلك من سعره الفعلي في السوق السوداء، على أن يتم العمل بهذا السعر بدءاً من مطلع شهر يناير 2021. كما تم كذلك الاتفاق على عقد اجتماع اقتصادي آخر في شهر يناير المقبل لمتابعة تنفيذ هذه التوصيات.
وتمثل هذه الخطوة تقدماً في المسار الاقتصادي لخطة السلام، وصُف بأنه يمنح الأمل ويقدم النموذج لاحتمالية تحقق انفراجة في المسارات الأخرى، وذلك وفقاً للممثلة الخاصة للأمين العام في ليبيا بالإنابة، والتي أدارت الاجتماع.
مستهدفات الاتفاق الاقتصادي
يأتي الغرض الأساسي المستهدف من الاجتماع، بمعزل عن المسارات السياسية والأمنية، للتخفيف من اضطرابات الاقتصاد الليبي، ومنعه من الانهيار، على أمل أن ينعكس ذلك بالإيجاب على حياة المواطنين الليبيين اللذين كانوا الخاسر الأكبر من الانقسام الاقتصادي والمؤسسي في ليبيا خلال الأعوام الماضية.
ويأتي هذا الاتفاق على خلفية استئناف إنتاج النفط الليبي في سبتمبر الماضي في أعقاب مفاوضات أغسطس، وذلك بعد توقفه في يناير 2020 جراء النزاع الدائر، عبر إقفال الحقول والموانئ. وقد وصل الإنتاج في شهر نوفمبر بعد الاستئناف إلى 1.25 مليون برميل يومياً، ليقترب من مستويات ما قبل الحرب الأهلية، عند 1.6 مليون برميل يومياً، بما يمثل دفعة للاقتصاد والموارد الليبية. وبالإضافة لذلك، ووفقاً للممثلة الخاصة للأمين العام، فإن نتائج الاتفاق سيتوقف عليها إنهاء تجميد عائدات صادرات النفط في المصرف الليبي الخارجي، والمُجمدة منذ شهر سبتمبر. وكانت المؤسسة الوطنية للنفط قد جمدت عائدات تصدير النفط في المصرف الليبي الخارجي، لمنع المصرف المركزي من استخدامها، حتى يقدم المصرف وفقاً لرئيس مجلس إدارة المؤسسة، دلالات على الشفافية في الإنفاق العام.ونظراً لكون النفط هو عصب الاقتصاد الليبي، وتمثل صادراته نصف الناتج المحلي تقريباً، وأغلب الإيرادات الحكومية، فإن توقف إنتاجه أو تجميد عائداته في مصارف خارجية، يشل تماماً من حركة الاقتصاد ويؤثر بصورة فورية على حياة المواطنين ومستويات معيشتهم، وبالتالي فقد يكون الاتفاق مخرجاً من هذا الوضع الاقتصادي الحرج.
لكن من ناحية أخرى، يُعد تخفيض سعر الصرف الرسمي للدينار الليبي مقابل العملات الأجنبية، وفقاً للاتفاق المُعلن، تخفيضاً للدخل الحقيقي والقوة الشرائية للمواطنين الليبيين، نظراً لكون ليبيا تستورد، حتى قبل الحرب الأهلية، 80% من احتياجاتها الغذائية بسبب النشاط الزراعي المحدود بها، وهو ما يعني أن ارتفاع أسعار العملات الأجنبية، من شأنه رفع أسعار أغلب السلع والخدمات، في حين لن تخدم هذه الخطوة زيادة الصادرات أو السياحة نظراً لمحدودية هذه القطاعات في الاقتصاد الليبي الريعي. لكن قد يكون الهدف من توحيد سعر الصرف عند هذا المستوى المنخفض،هو جذب السيولة النقدية الأجنبية إلى القطاع المصرفي الرسمي بعيداً عن السوق السوداء، لتعزيز السيولة المتوفرة من النقد الأجنبي، وهو ما يضاف إلى أهداف تحقيق الاستقرار في سعر الصرف في أنحاء البلاد، وبالتالي تحقيق الاستقرار في معدلات التضخم والفائدة، حتى وإن ارتفعت مع بداية تطبيق القرار، مطلع شهر يناير المقبل.
ومن غير الواضح إلى الآن ما إذا كانت الإصلاحات الاقتصادية الأخرى، والتي تتضمن توحيد الموازنة العامة واستثمارات البنية التحتية والأجور العامة بين الفرقاء داخل ليبيا، قد تشمل بنوداً تتعلق برفع الدعم عن السلع أو تخفيض الأجور الحكومية، وهي جميعها ملفات يجب أن يتم تناولها بحذر، خاصة مع الوضع الإنساني الهش في لييبا، والذي يضع 900 ألف مواطن ليبي في حاجة لمساعدات إنسانية عاجلة وفقاً لبرنامج الغذاء العالمي، أي حوالي 13.4% من إجمالي السكان.
المسار الاقتصادي والتسوية السياسية
في حين قد تنعكس التسويات الاقتصادية الأخيرة بالإيجاب على حياة المواطن الليبي، إذا تم تطبيقها بالفعل، فإنها قد لا تحمل تأثيراً إيجابياً مماثلاً على المسارين السياسي والعسكري في خطة السلام، كما تأمل الممثلة الخاصة للأمين العام، وفقاً لتصريحاتها. وفي واقع الأمر، فإن الأقرب هو أن ينعكس حجم الإنجاز أو التعثر في هذين المسارين، على المسار الاقتصادي لخطة السلام، وألا ينجح منهج فصل مسارات التسوية في عزل التطورات السلبية على وجه الخصوص في أي منها عن الأخرى، خاصة مع تزايد احتمالات التعثر السياسي، والذي من الصعب في ضوئه، تصور صمود التسوية والاتفاقات الاقتصادية المنفصلة بين الأطراف المتنازعة.
يتضح ذلك، على سبيل المثال، من خلال عدم تناول الاجتماع لإشكالية سياسية كبرى في الانقسام الاقتصادي، والمتعلقة بعدم وضوح طريقة إنفاق عائدات تصدير النفط، وعدم العدالة في توزيع هذه الإيرادات بين المناطق المختلفة. وكانت هذه الإشكالية من الأسباب الرئيسية لتجميد المؤسسة الوطنية للنفط للعائدات، بعد اتهام رئيس مجلس إدارتها لمحافظ البنك المركزي بإهدار 186 مليار دولاراً، حصيلة إيرادات النفط خلال التسعة أعوام الماضية، وعدم استفادة المواطنين منها، في وقت تسببت سياسات المحافظ، وفقاً لهذه الاتهامات، في إثراء الفاسدين.
ويعزز كذلك من احتمالات عدم صمود التسوية الاقتصادية بمعزل عن المسارات الأخرى، كون الاقتصاد الليبي، ممثلا في عائدات النفط بالأساس، هو أحد مسببات الصراع من ناحية، نظراً لسعي الأطراف المتقاتلة للسيطرة على حصة أكبر منه، وهو في الوقت ذاته أداة في الصراع، تستخدمها الأطراف المتحاربة لتمويل قدراتها العسكرية، وشراء تحالفات خارجية ترجح كفتها في الصراع الداخلي. وتعد هذه أيضاً واحدة من الاتهامات الموجهة لحكومة الوفاق، والبنك المركزي بطرابلس، وهي الاتهامات التي كانت وراء إغلاق قوات اللواء حفتر للموانئ وحقول النفط، مطلع العام الحالي، لمنع إساءة استخدام إيرادتها، في تمويل الصراع المسلح، وفقاً لما تم الإعلان عنه حينئذ، وهي الخطوة التي حذرت منها المؤسسة الوطنية للنفط آنذاك، رافضة استخدام مصدر الدخل الرئيسي للشعب الليبي، كورقة مساومة سياسية.
وبالتالي، ومع مركزية الاقتصاد الليبي حول قطاع النفط الذي يسهل السيطرة عليه بالقوة، وتبعية المؤسسات الاقتصادية المفترض استقلاليتها، كالمصرف المركزي، للنفوذ السياسي والعسكري للفرقاء الليبيين،فمن الصعب تصور نجاح التسويات في المسار الاقتصادي على تحقيق الوحدة بين الأطراف المتنازعة، بمعزل عن تسوية سياسية وعسكرية كذلك. ومع المؤشرات الأخيرة غير المبشرة من المسارات الأخرى لخطة السلام، فمن المحتمل أن تنهار مكاسب الاجتماع الاقتصادي الأخير، تحت وطأة تعثر المسار السياسي والعسكري لتسوية النزاع.