كانت المؤسسات التعليمية في مقدمة القطاعات الأكثر تأثرا بجائحة "كوفيد 19"، وفي جميع دول العالم بلا استثناء، حيث أدت الجائحة إلى انقطاع أكثر من 1.6 مليار طفل وشاب عن التعليم، ما دفع دول العالم إلى البحث عن أساليب بديلة للحيلولة دون توقف العملية التعليمية. وجاء في هذا السياق العديد من المبادرات لتحويل عدد من التطبيقات الذكية إلى منصات تعليمية عن بعد. وخلال فترة وجيزة تبدلت ملامح التعليم التقليدي الذي لم يعد قادراً على الوفاء بمتطلبات منظومة التعليم، واستيعاب الأعداد الكبيرة من المتعلمين في جميع المراحل، والبحث عن صيغ جديدة للتعلم. وقد ساهم التطور التكنولوجي الهائل في تحقيق هذا التحول، والذي خلق بدوره واقعا جديدا في إعادة التفكير في منظومة التعليم من حيث فلسفته وأهدافه ومناهجه ووسائله، ودراسة كل السيناريوهات المستقبلية والمتوقعة في مرحلة التعايش مع تلك الجائحة وما بعدها.
في الواقع، إن التعليم عن بعد ليس بالجديد، وهو معروف منذ عقود لدى بعض الدول المتقدمة، وبات ضرورة ملحة، لا سيما في أوقات الأزمات وانتشار الأوبئة التي تتطلب التباعد الاجتماعي؛ ففي عام 1892 تأسست في جامعة شيكاغو أول إدارة مستقلة للتعليم بالمراسلة. وفى عام 1956 عمدت كليات المجتمع بشيكاغو إلى تقديم خدمة التليفزيون في التدريس عبر القنوات التعليمية، وتعتبر جامعة NYSES أول جامعة أمريكية مفتوحة تأسست تلبية لرغبات المتعلمين في جعل التعليم العالي متاحاً لهم عبر الطرق غير التقليدية. وبالتالي، فإن التوجه نحو "التعليم الرقمي" لم يكن شيئاً غريباً، بل كان متوقعا، لكن جائحة "كوفيد 19" عجلت من ظهوره ودفعت به إلى الواجهة.
مبادرات استباقية وممتدة
تمتلك مصر منظومة تعليمية تتسم بقدر من الضخامة والتعقيد، يعود تاريخها إلى نحو قرنين من الزمن، حيث درج هذا النظام على العمل بشكل تقليدي يقوم على الاستيعاب المكثف للطلاب، والتعليم القائم على التلقين عبر الاتصال المباشر بين المعلم والطالب. وجاءت الاستجابات المصرية لتحدي الوباء على مرحلتين. المرحلة الأولى هي الاستجابات العاجلة للأزمة، في حين ركزت المرحلة الثانية على سبل التعامل الممتد مع الوباء وتداعياته.
وقد جاءت الاستجابات العاجلة تحت وطأة الموقف الذي بدا غامضا وغير محدد الأبعاد، مما أدى إلى إجراءات نصف شهرية يتم تجديدها مرةً تلو الأخرى. وهنا بدأ التفكير في طرق بديلة لاستكمال العام الدراسي من خلال مشروعات بحثية. وقد ساد اعتقاد مبدئي بأن الجائحة ستمثل أزمة عابرة، بيد أن مراجعةً تلو الأخرى للإجراءات لم تلبث أن كشفت عن الطابع الممتد للجائحة. في هذا الإطار، شرعت الدولة في التفكير في الإجراءات التي سيتم من خلالها بدء العام الدراسي 2020/2021، والتي شملت: تقسيم الطلاب إلى مجموعات صغيرة لمنع التزاحم وتحقيق التباعد الاجتماعي، مع الاستمرار في مراعاة كافة الإجراءات الاحترازية، وتطبيق النظام الهجين الذي يجمع بين تنفيذ التعليم المباشر والتعليم عن بعد، إلى جانب استخدام العديد من التطبيقات الإلكترونية مثل: تطبيق Zoom، وتطبيق Google Classroom، وEdmodo.
ويبدو من هذه الإجراءات أنها تضع معالم نظام شامل للتعامل طويل الأجل مع الجائحة. بل إنه يرسي دعائم نظام تعليمي جديد بصرف النظر عن وجود أزمات من عدمه، من خلال الاستفادة من التطورات التكنولوجية وثورة المعلومات.
جدير بالذكر أن الدولة المصرية سعت إلى تطوير التعليم وإدراجه ضمن خططها المستقبلية؛ فجاء من بين أولويات إستراتيجية مصر 2030 السعي أن يكون التعليم بجودة عالية متاحا للجميع دون تمييز في إطار نظام مؤسسي كفء وعادل، يسهم في بناء شخصية متكاملة لمواطن قادر على التعامل التنافسي مع الكيانات إقليمياً وعالمياً.
ورغم لجوء معظم دول العالم إلى "التعليم عن بعد" كآلية لتخفيف التأثيرات السلبية للجائحة على المؤسسات التعليمية والعملية التعليمية، لكن لم تكن جميع الدول على المستوى نفسه في مواجهة هذه الحالة الطارئة. وظهر في هذا السياق عدة استراتيجيات، نشير إلى أهمها فيما يلي:
- تعزيز مستوى التأهب مع إبقاء المدارس مفتوحة، وذلك من خلال فرض إجراءات وقائية في المدارس ودعمها، ووضع بروتوكولات لتعامل المدارس مع الحالات المحتملة، وتقليل الأنشطة الاجتماعية خارج المناهج الدراسية (مثل روسيا ومصر).
- الإغلاق الانتقائي للمدارس، حيث اختارت بعض الحكومات إغلاق المدارس المحلية كإجراء مؤقت (مثل الهند).
- الاستعانة بمصادر التعليم عن بعد، حيث لجأت معظم الدول إلى اعتماد هذا النظام (مثل الولايات المتحدة، والصين، وإيطاليا، وفرنسا، وألمانيا، والإمارات العربية المتحدة، والمملكة العربية السعودية، ومصر، وغيرها)
تحديات متشابكة
رغم المزايا العديدة للتعليم عن بعد، مثل سهولة الوصول للمحتوى التعليمي، وكسر حاجز الحدود، وتوفير الوقت، وحل أزمة كثافة الطلاب، وتخفيف الأعباء المالية التى تخصصها الأسر للإنفاق على التعليم (المواصلات العامة أو الخاصة التابعة للمدرسة، شراء المستلزمات المدرسية)، بيد أن ثمة تحديات لازالت تواجه هذا النمط من التعليم، نشير فيما يلي إلى أهمها:
أ- ضعف البنية التحتية لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات؛ فعلى الرغم من أن التعلم عن بعد حقق نجاحا كبيرا في الدول المتقدمة، الذي يتمتع ببنية تكنولوجية قوية، لكن الأمر مختلف في حالة الدول النامية، خاصة في ظل هشاشة البنية الرقمية، وارتفاع تكلفة خدمة الإنترنت بالنسبة لمستويات الدخول.
ب- ضعف مستوى التفاعلية، حيث يرى البعض أن الافتقار للنواحى الواقعية أحد أهم العيوب في التعليم عن بعد الذي يحتاج إلى لمسات إنسانية بين المعلم والطالب. ومن الصعب إيصال ذلك عبر الوسائط النصية الفورية.
ج- العزلة الاجتماعية. يُعد ضعف التزام الطلاب بمتابعة برامج التعليم عن بعد أحد التحديات. فقد مثلت المدرسة متنفسا مهما للتعرف على الأقران، مقارنة بالبقاء في المنزل لفترات طويلة، وبالتالي لابد من توقع المقاومة العنيفة من قبل الأبناء لهذا التحول.
د- جمود نظم التعليم، إذ يعتبر الهيكل التنظيمي للمؤسسات التعليمية في الدول النامية من أكبر التحديات التي تحول دون تغيير طرق التعليم، حيث تعاني من التركيز على الشهادات أكثر من المهارات، بجانب مشكلة التلقين، إلى جانب غياب التشريعات الداعمة للتعليم الالكتروني.
د- صعوبة التقييم والامتحانات؛ إذ ألغت العديد من الدول بالفعل الامتحانات النهائية. وساد اتجاه لاستخدام المشروعات البحثية كوسيلة لتقييم الطلاب، كنتيجة لعدم القدرة على إجراء الامتحانات التقليدية بسبب ظروف الجائحة. وفى الواقع إذا كان التعليم عن بعد مختلف عن التعليم التقليدي، من ثم يجب أن تختلف عملية التقييم والامتحانات الخاصة به من حيث وضع ضوابط صارمة لضمان أن يتم ذلك بطريقة صحيحة، والتأكد أن من أدى تلك الامتحانات هو الطالب نفسه وليس أي شخص آخر.
ه- نقص الوعي والتصور المتكامل عن التعليم عن بعد لدى كل أطراف العملية التعليمية، إذ يتطلب الأمر مراجعة تصوراتنا عن التعليم. فقد ساد في القرن الماضي تصور مفاده أن التعليم مسئولية المدرسة والمدرس، لكن في حقيقة الأمر إن التعليم عملية ممتدة تتطلب مشاركة جميع الأطراف.
و- عدم المساواة وغياب تكافؤ الفرص: أدى هذا النمط من التعليم إلى زيادة عدم المساواة بين الطلاب في ظل تباين واقع انتشار وسرعة شبكة الانترنت في كل دولة، إضافة إلى امتلاك حواسب شخصية من عدمه، وهو ما أدى إلى زيادة حدة الفجوة الرقمية وانعدام المساواة في إمكانات الاتصال بالإنترنت وتداعيات ذلك على جودة التعليم عن بعد.
متطلبات أساسية لتطوير "التعليم عن بعد"
لقد أظهرت جائحة "كوفيد 19" حاجتنا إلى نظام تعليمي جديد يوجه إلى المستقبل، ويكون قادرا على مواجهة التحديات، والتي من بينها الكوارث والأزمات. هذا النظام يقوم على افتراضات أساسية، أهمها ما يلي:
أ- التوجه نحو زيادة الاستثمارات في تنمية وتطوير البنية التحتية والتكنولوجية للمؤسسات التعليمية، خاصة في المناطق الريفية والفقيرة، مما يساعد على تدفق المعلومات بين شبكات التعلم بالقدر الكافي.
ب- إعادة تعريف دور المعلم.
ج- تجاوز مفهوم إتاحة التعليم إلى مفهوم الجودة المقرون بتعديل وتطوير المناهج، وعقد دورات تدريبية لأعضاء هيئة التدريس بالمدارس والجامعات لإدارة المناهج الدراسية وفقا للصيغة التي سوف تتبناها كل دولة سواء كان تعليم عن بعد، أو تعليم هجين.
د- تطوير المهارات العلمية، وتعزيز الإبداع، والعمل التعاوني، والقدرة على التواصل والعمل في مجموعات والانفتاح على العالم والثقافات الأخرى.
ه- الاستعانة بالبث الإذاعي والتليفزيوني فيما يسمى بالتعليم المزيج. ويمكن أن يتم ذلك من خلال إعادة تفعيل تلك القنوات وتطوير برامجها لتصبح عالية الاستقطاب متعددة الوسائط. كما يمكن التنسيق مع الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات لضمان إتاحة باقات مخفضة مدعومة للطلاب، والتنسيق مع الجهات المانحة ورجال الأعمال لتوفير أجهزة حاسوب شخصية بالتقسيط.
و-عقد الاتفاقيات والشراكات مع بعض الجامعات المتقدمة لتوفير التدريب والتعليم عن بعد، وذلك لتبادل الخبرات والمعلومات مما يساهم في تطوير ورفع المستوى العلمي والعملي لأعضاء الهيئة العلمية والخريجين.
ز- لتفادى الآثار النفسية والاجتماعية التي يتركها التعليم الإلكتروني على الطلبة والمعلمين وأولياء الأمور ينبغي مراعاة التحديد السليم للتوقعات، وخلق الحافز لدى المتعلم، وتطوير الثقافة الداعمة للتعليم الإلكتروني، والتخطيط الجيد لليوم الدراسي، وتنظيم البرنامج التعليمي، والاهتمام بالمؤثرات الصوتية والمرئية.
ختاماً، واستشرافاً للمستقبل، لقد بدا واضحاً أن التعليم الرقمي أضحى خياراً استراتيجياً لكل دولة تقدر بوعي ما للقطاع التربوي من أهمية بالغة في ازدهار المجتمع وتطوره التنموي، وبديلًا لا يمكن الاستغناء عنه ليس في الظروف الاستثنائية، كما هو الآن لمواجهة تداعيات جائحة "كوفيد 19"، لكن أيضاً لبناء جيل جديد قادر على الاستفادة من معطيات الثورة الصناعية الرابعة، ويمتلك من المعارف والمهارات التي تمكنه من الانخراط في وظائف الغد. وفى النهاية نرى أن التعليم عن بعد يمكن أن يحقق أهدافه إذا توافرت الشروط لإنجاحه حتى نتمكن من صياغة سياسات علمية مناسبة للتعامل مع هذا المستقبل.